السبت، 30 نوفمبر 2019

أن تتعطّر بقليل من البارود: التنفس مقابل الحواس

ثمة كلمات تبدو أساسية في ديوان "أن تتعطّر بقليل من البارود" للشاعر عماد الدين موسى الصادر عن دار مخطوطات: (الحب)، (الحرب)، (الحرية) .. لكن هذه الكلمات لا يتم استخدامها كأشياء ذات معانٍ محددة بل كاستعمالات لغوية، بالأحرى محاولات للإبصار من خلال تجريب مفردات بعينها، أو لنقل بوصفها تجارب تتبادل متونها، وتمر من خلال بعضها البعض.
بين (الحب)، و(الحرب) تحديدًا يخلق عماد الدين موسى نوعًا من التمازج .. التداخل الذي يتيح لنا أن نتساءل عن أي (حرب)، وعن أي (حب) نتحدث؟ .. لهذا فذلك التمازج يظل غائمًا كبنية شاملة، بينما تبدو (الحرية) كخطوة مخذولة خارجها .. ربما يرجع هذا إلى أن التداخل بينهما ليس دالًا على فكرة أو مبدأ، كما أنه لا يعتمد على حيلة التناقض التقليدية في إثبات حقيقة سبق استيعابها، بل هو أقرب إلى اختبار الكيفية التي يُحتمل أن يكمن بواسطتها كل منهما داخل الآخر، بحيث يظهر كجزء جوهري من تكوينه .. كبديل للمعنى الغائب الذي يفسره.
"تتمدد الأيام تحت سريري
كأفاعٍ أليفة..
تتكاثر كالنمل
وكالعشب تختفي".
بدءًا من العنوان نفسه، حيث رمزية "البارود" لا تتعلق بوصف تجربة قتالية يتم إثباتها من خلال مجاز "العطر"، بل بتحقق التجربة نفسها داخل كل ما يُفترض أن يكون "رومانسيًا" منفصلًا عنها .. بهذا يكون العنوان واقعيًا، مباشرًا، أكثر منه مستندًا إلى البلاغة، وهو ما يفسره فكرة الامتزاج بين الحب والحرب التي أشرت إليها من قبل .. لو أردنا استدعاء صورة للمنطق وفقًا للعنوان لاعتبرنا أننا نتجمّل بما هو أداة هلاكنا، التي لا تمنحها الكوابيس العادية إلينا فحسب، بل ما نقر بجماله أيضًا.
"تستطيع أن تتعطّر بقليل من البارود
قبل أن تذهب إلى موعدك،
تستطيع أن تُهدي لمن تحب
بضع رصاصات طائشة،
تستطيع أن تقول:
"الحب رداء، وها أنا أرتديه كما ينبغي".
"كجندي منشق للتو، وبفردة حذاء واحدة" هي عبارة أشبه بالخلاصة التشبيهية لموضوع "الاستعمال اللغوي" المضاد لـ "المعنى"؛ فهذا الاستعمال هو برهان الانشقاق عن يقين عام، الأمر الذي أنتج انعزالًا، دليله المجسّد قدم عارية، أي مجرّدة من حماية قديمة، وقدم أخرى تتشبث بفرديتها، أو بالمصير الغامض الذي يمكن أن يفضي إليه السير دون رفقة.
"وما من شفق يلوح
كراية باهتة الألوان
فوق بناء مهجور،
أقف على الناصية
مسبل القلب واليدين
لكن السماء
ـ المنخفضة أكثر مما ينبغي ـ
زرقاء .. كطائر".
أفكر في الخطوات التي ينبغي أن يقطعها هذا الجندي المنشق بوصفها محاولات لاستبدال الأيام / الأفاعي الأليفة، أي التي لا تُنجز مهام القتل مبكرًا، بزمن لا يختفي ـ بعدائيته الماكرة المعتادة ـ كالعشب تحت السرير / علامة المرض، حيث الأرق، أو العجز عن الحركة، أو ما يمكن تسميته بالإغماءة الواعية التي تراقب من داخل سكونها الأجنحة المقطوعة كافة.
"فالحياة أشبه بعجلة
دراجتك الأمامية،
الحياة
التي
ككرة ثلج ..
تنتظر ـ بشغف ـ لحظة زوالها".
إذا تخيلنا مكوّنًا كالظل نابعًا من الذات، يقف مراقبًا "الموعد"؛ فإنه سيرصد بالضرورة كيف يمكن للقاء أن يكشف عن وجه مشترك بين ملامح الحرب والحب .. هذا الظل هو الاحتمال غير المتحقق، وغير المفهوم للحرية .. هو يتأمل القناع / المعنى الغائب فحسب لكل من الحب والحرب، ولا يمكنه أن يفسّر بدايات هذه اللحظة، أو يتنبأ بنهايتها .. إذن يبدو الأمر كأنه يقع داخل نطاق اللغة نفسها، وقد تخلصت من الحدود التي من شأنها تعطيل التوهمات باعتبارها "إبصارًا".
يحيلنا الخطاب الشعري إلى الحرب كمسألة تسبق الحياة .. الجحيم ليس ما نراه من تعاقب زمني بل الفناء المبهم الذي تقدّم على إمكانية الوجود .. الحرية إذن ليست مناقضة لشيء يطلق عليه (السجن) مثلًا، ذلك لأن السجن نفسه يمكن أن يكون الاحتفاظ بفكرة الحب .. بامتلاك تصوّر عن ماهية هذه الكلمة .. الحرية هي الشيء الذي دائمًا هناك إرادة للعثور عليه خارج الانتحار والقتل العشوائي والحتمي، أي قبل أن يُخلق الموت ذاته.
تسعى البصيرة لتشكيل حريتها الخاصة، ربما كتسلل من أشلاء الحرب، وربما كهروب من أنقاض الحب نفسه، وإذا تم استخدام (الطائر) كمرادف لهذه الحرية فهو لا يتوقف هنا عند الرمز المتداول بل يشير إلى التحرر خارج كل ما يتم تجميعه كذخيرة لهذا الطائر، مهما بدت مختلفة عن الماضي .. كل ما يمتلكه الطائر هو كرات ثلج، وثمة عينان تراقبان هذه اللعنة.
يتكرر حضور الطائر عبر القصائد، الأمر الذي قد يجعلنا نشعر بأن شيئًا يُراد تثبيته كأمل أخير في (الحقيقة) .. الطائر هو الرجاء المتبقي من الواقع، أي ليس فقط على مستوى وظيفته الرمزية بل على مستوى قابليته كجسد للتحوّل إلى إجابة فعلية.
هل تمثل هذه (الحقيقة) حدًا فاصلًا تتوقف عنده الموجودات عن التحوّل من احتمالات لفردوس ما إلى قرائن للموت؟ .. من وعود للنجاة إلى مرايا معدّة فقط لتأمل النهاية الوشيكة؟ .. قد يتولّد إحساس ولو على نحو خافت بأن القصائد تتسم بطبيعة صامتة أشبه بالسكون المتواطئ .. هذا الصمت يتلازم مع تكرار آخر وهو التنفس .. التنفس كمقابل للحواس كلها .. التنفس كطائر يريد اختراق الصمت الذي تتلاشى عنده الرجاءات .. لذا فالأمل الأخير هو التنفس حتى النهاية بدلًا من الفهم المتعذّر، أو بلوغ الحد الفاصل للحقيقة.
"الأطفال ما عادوا إلى بيوتهم
الغجر فقدوا عاداتهم الجميلة
أما أنا
ـ عكس العادة ـ
خرجت لأشتم رائحة الموت".
يضع عماد الدين موسى قلب كل كائن على المستوى الظاهري كتعويض عن الفقد .. هذا التعويض يأتي بعد رسم التوحد بين الطبيعة والبشر حيث تبدو الطبيعة مكانًا أثيرًا لدى الشاعر .. القلب باعتباره ذاكرة .. لكن هل يفعل ذلك باعتبار أن الثقة المفترضة تجاه هذه الذاكرة تقتصر على الشعور بكل ما ينطوي عليه من تخيلات، أم على ارتقاء وجودي، أو نوع من الخلاص قائم على هذا التوحد مع الطبيعة الحسية؟ .. بالفعل كان من المنطقي أن يُترك هذا الاستفهام دون إجابة؛ ذلك لأنه لا أحد يعلم كيف يمكن استرداد الأصوات الضائعة، وهل كانت هناك أصوات بالفعل أم لا سواء كان هذا الصوت يخص إنسانًا أو غيمة على سبيل المثال .. لذلك فإنني بشكل تلقائي أستطيع أن أضع الحنين كمسمّى للقلب المعوِّض عن الفقد .. الحنين وليس الذاكرة .. ذلك لأن الذاكرة ستجبرك على استرجاع أغنيات محددة: أشجار .. مرافئ .. مطر .. أغصان .. قوارب .. زهور .. قبلات .. بحار .. أما الحنين فهو يخاطب دومًا ما وراء تلك الأغنيات، أي ذلك الغياب الذي سبق كل هذه الجروح.
جريدة "أخبار الأدب" ـ 1 ديسمبر 2019

الاثنين، 25 نوفمبر 2019

سيرة الاختباء (2)

كان يجب أن يكون لهذا المقال من الباب الأسبوعي موضوع آخر، ولكن المحاضرة التي ألقيتها الأحد الماضي عن الأصل الواقعي لرواية "دكتور جيكل ومستر هايد" فرضت نفسها، ليس لأهمية الحدث بالنسبة لي في حد ذاته، وهو ما كان سيلائمها الكتابة عنه في يومياتي على سبيل المثال، وإنما لأنه نموذج واضح لما كنت أقصده في المقال السابق عن "الاختباء".
طوال ثلاث سنوات لم أعلن عن هذه الدراسة، ولم أخبر أي أحد بها، حتى المصنفين اجتماعيًا بأنهم الأقرب لي، منذ الليلة التي استمعت فيها كشخص مغرم بالدراما الإذاعية البوليسية القديمة إلى حلقة من برنامج "أغرب القضايا" وكانت بعنوان "قضية مقتل الدكتور باركمان"، وشعوري بأن شيطانًا غامضًا قد بدأ يحوم في عقلي حول أحداثها، مرورًا بمعاودة الاستماع إليها أكثر من مرة بإلحاح متصاعد، ثم البحث عن تفاصيل القضية على الإنترنت مقترنًا بالرجوع إلى ترجمات مختلفة للرواية التي قرأتها في طفولتي للمرة الأولى في نسخة مبسطة للناشئين، ثم تحوّلت إلى أحد الملاذات الكلاسيكية التي لم أتوقف عن التسلل إليها بين حين وآخر، وذلك بعد التوصّل إلى طبيعة الهاجس المحرّض الذي انتابني، والتأكد من صحته، وحتى البدء في كتابة الدراسة بعد زمن طويل من البحث والتنقيب والتحليل الاستكشافي في جميع الاتجاهات .. لم أكن أنوي الإعلان عن هذه الدراسة في محاضرة الأحد الماضي، حتى أن أول ما خطر في ذهني بعد توجيه الدعوة قبل انعقادها بأسبوع هو "محاولة" التحدث عن الماضي الأدبي الشخصي مثلما فعلت سابقًا بشكل اضطراري في مناسبات سابقة .. كنت قد قررت، وبصورة عفوية الانتظار حتى صدور الكتاب مطلع العام القادم، حيث يمكن حينئد الاستجابة لرغبة المحررين الروتينية في كتابة شهادات أو إجراء حوارات عن هذه الدراسة، ولكن ما كان مؤكدًا هو عدم التحدث عنها لأطول فترة ممكنة .. التحدث الذي يشترط "الظهور"، أي الحالة التي لا تتوقف عن إثبات عدائيتها للكتابة.
ما جعلني أقرر على نحو مفاجئ الإعلان عن الدراسة قبل صدورها كمحاضرة في هذا اليوم هو ذلك التواطؤ الذي أشرت إليه في المقال السابق بين الضرورة الذاتية للكاتب، والإلحاح القهري للجماعة الأدبية التي تحاصره .. الرغبة في الكشف عن "مكسب جديد" أمام الاستعراضات المضحكة لمكاسب الآخرين الجديدة والمتلاحقة، التي تطالبك ضمنيًا بالمِثل .. حتى لو كنت في مكان آخر، يعتلي الحروب كافة، أو لديك تفسير ـ موضوعي ـ مختلف لـ "المكسب الأدبي"، مجرّد من التزييف القيمي لتحالف المال والشهرة، أو تمتلك دافعًا مغايرًا في عمقه لهذا "الظهور" .. كان ينبغي أن أكشف في هذا التوقيت عما هو "غير مسبوق" بحق، وليس المدهون بالثرثرة الشعبوية الرخيصة.
تواصل معي أحد الصحفيين بعد المحاضرة، وتحدث معي عن موضوعها، متوقعًا موافقتي على نشر هذه المناقشة كحوار عن الدراسة المنتظر صدورها، ولكنني طلبت منه الاكتفاء بصياغتها كخبر، وتأجيل الحوار لما بعد نشر الكتاب .. رغم أن الحوار ليس "ظهورًا"، ولكنني أدركت أن وراء رغبتي في استبداله بالشكل الخبري محاولة لاسترداد "الاختباء" .. استدراك ضمني لـ "الظهور" المبكر ـ حتى لو كان هناك إجماع بأن الأمر كان رائعًا ـ والذي كشف عن شيء كان ينبغي انتظار تحققه في صورته المثالية، وامتلاك وقتها المستحق كاملًا.
موقع "الكتابة" ـ 24 نوفمبر 2019

الأحد، 24 نوفمبر 2019

البيت


لم يكن يستطيع أن يبوح بما يريد لأحد من الذين يتعاقبون كل يوم على ركوب التاكسي الذي يقوده، وتحديدًا الذين تُظهر ملامحهم تقاربًا مع عمره، خاصة أثناء الدوران آخر الليل في سكون المدينة .. لم يقدر حتى على النظر في عيني أي منهم، ولو عبر المرآة الأمامية الصغيرة .. كان كل ما بوسعه هو تشغيل أغنيات قديمة كشفرة متوسلة، يرجو أن يلتقطها الجالس بجواره ويستجيب لها، قبل أن ينتهي الزمن الوداعي للصدفة التي جمعتهما .. لكن دائمًا ما يترك المغادر خيبة أمل جديدة، إما بسبب عدم الانتباه، أو الفهم الخاطئ للرسالة الرمزية المنبعثة من مسجّل السيارة .. خيبة أمل تضاف لمثيلاتها التي تزايدت، وتوطد تلاحمها بمرور السنوات، بحيث أصبحت مكوّنًا سريًا للتاكسي، ومصدر ترنّحه المتفاقم، الذي لا يشعر به إلا سائقه العجوز .. لم يكن يستطيع أن ينظر بالدموع المتراكمة في عينيه لأحد كي يسأله: هل يمكنك أن تصف لي الطريق إلى بيتي؟.
منصَّة (Rê) الثقافيَّة ـ 22 نوفمبر 2019

الثلاثاء، 19 نوفمبر 2019

دراسة للناقد ممدوح رزق تكشف عن الأصل الواقعي لرواية "دكتور جيكل ومستر هايد"

في محاضرة ألقاها الأحد الماضي بنادي الأدب بالمنصورة تحت عنوان "الأصل الواقعي لرواية دكتور جيكل ومستر هايد"؛ قدم الناقد ممدوح رزق عرضًا لدراسته المنتظر صدورها مطلع العام القادم، والتي تكشف بالأدلة المادية والتحليل النقدي عن الحدث التاريخي الذي استلهم منه روبرت لويس ستيفنسون روايته.
تشتمل الدراسة على تشريح دقيق لحياة ستيفنسون، وملابسات كتابة كل عمل أدبي له، خاصة رواية "دكتور جيكل ومستر هايد"، وكذلك جميع التفاصيل التي تتعلق بالأصل الواقعي لها، والمتمثل في حادثة مقتل الطبيب جورج باركمان على يد صديقه دكتور جون ويبستر عام 1849 بكلية الطب جامعة هارفارد في مدينة بوسطن الأمريكية.
قام ممدوح رزق في المحاضرة بشرح جميع أوجه التماثل بين الرواية والقضية، وكيفية استخدام روبرت لويس ستيفنسون لعناصرها على مستوى الأماكن، والشخصيات، وأدوارها، وحركتها، واللعب بالاختفاء، وأداة القتل، واكتشاف الجريمة، والوصول إلى الجثة، وتوظيف الخطابات، والفروق التشريحية، والأعمار، واستعمال الانتحار والشنق، والنزوات المشتركة، بالإضافة إلى استقصاء العوامل الاجتماعية على مستوى الحادثة والرواية.
في نهاية المحاضرة عقد الناقد ممدوح رزق مقارنة بين دراسته والافتراضات الأخرى حول الأصل الواقعي لرواية "دكتور جيكل ومستر هايد"، مستعرضًا تميز هذا الكشف عن تلك التخمينات التي حاولت أن تنسب الرواية لأشخاص ووقائع مختلفة عبر الزمن، حيث يرجع هذا التميز إلى أن الدراسة تحدد أصلًا واقعيًا يشتمل على جميع عناصر الرواية، وبصورة ترتقي إلى نوع من التطابق، في حين لم تتجاوز الافتراضات السابقة الإشارة إلى عنصر مشابه، أو مادة مقاربة لأحد معطيات الرواية، والتغاضي عن التفاصيل الأخرى لمضمونها .. ليس هذا فحسب بل إن هذا الكشف لا يكتفي بتضمنه لجميع عناصر "دكتور جيكل ومستر هايد"، بل يحتوي أيضًا على الطريقة التي تطورت بها أحداث الرواية حتى نهايتها.
موقع "الكتابة" ـ 19 نوفمبر 2019

السبت، 16 نوفمبر 2019

محاضرة للناقد ممدوح رزق عن الأصل الواقعي لرواية "د. جيكل ومستر هايد"

في السادسة من مساء الأحد 17 نوفمبر 2019 بنادي الأدب بالمنصورة، يلقي الناقد ممدوح رزق محاضرة بعنوان "الأصل الواقعي لرواية دكتور جيكل ومستر هايد"، يقدم خلالها عرضًا لدراسته المنتظر صدورها مطلع العام القادم، والتي تكشف بالأدلة المادية والتحليل النقدي عن الحدث التاريخي الذي استلهم منه روبرت لويس ستيفنسون روايته.


الاثنين، 11 نوفمبر 2019

سيرة الاختباء (1)

لماذا "سيرة"؟ .. لأنها أقرب ما يمثل زمنًا شخصيًا محكومًا بطبيعة معينة داخل ما تعتبره الذات تاريخًا عامًا .. بهذا فإن "أقرب" هو الباب الخلفي المفتوح طوال الوقت لمراوغة وتخطي اليقين المحتمل لـ"السيرة" .. لماذا "الاختباء"؟ .. لأنه الشيء الأساسي الذي أردت تحقيقه والتمسّك به منذ اليوم الذي دخلت فيه "منتدى عروس النيل الأدبي" بداية التسعينيات، وحتى اللحظة التي أكتب فيها الآن .. منذ المرة الأولى التي حضرت فيها "ندوة"، والتقيت بـ "أدباء" كي "أقرأ محاولاتي القصصية" أمامهم وأنا مازلت طالبًا في المرحلة الإعدادية، وحتى التوقف بعد ما يقرب من ثلاثين سنة عن حضور الندوات، والامتناع عن عقد مناقشات أو حفلات توقيع لأعمالي، والاتجاه منذ فترة لنشر كتبي إلكترونيًا عدا الاستثناءات المحتومة .. الاختباء الذي طالما أثبته كل "ظهور"، ولم يفارقه مطلقًا الوعي بأنه بديل عدائي لما هو أكثر استحالة أي "الاختفاء" .. أن تكافح من أجل الاختباء بكل ما يضمره من تمنّع ومشقة وخسائر؛ فهذا يعني أنك تستوعب جيدًا عدم القدرة على بلوغ الغاية الأصلية؛ أي أن تختفي تمامًا.
في فيلم Sideways ((2004 إخراج ألكسندر باين؛ يقول مايلز "قام بدوره بول جياماتي"، لصديقه جاك "قام بدوره توماس هادن تشورتش"، وكانت وكيلته الأدبية قد أخبرته للتو برفض جديد من الناشرين لروايته الأولى: "لقد انتهيت .. أنا لست كاتبًا، أنا مجرد أستاذ لغة انجليزية للإعدادي .. العالم لا يهتم البتة بما لدي لأقوله .. وجودي ليس ضروريًا .. أنا تافه لدرجة أنني لا أستطيع حتى أن أقتل نفسي .. لقد انتهى نصف حياتي، وليس لدي شيء يعبر عنه، لا شيء". 
تبدو تلك الكلمات كأن موضوعها ما تم الاعتياد على تسميته بـ "الاعتراف الأدبي" .. ماذا يعني هذا الاعتراف؟ .. كيف يتم الحصول عليه؟ .. من هم الجديرون بمنحه؟ .. ما هي السياقات المختلفة التي لابد أن يمر من خلالها؟ .. هل تنبع الرغبة في حيازته من ضرورة ذاتية للكاتب، أم نتيجة إلحاح قهري متواصل للجماعة الأدبية التي تحاصره، أم أن مصدرها تواطؤ ضمني بين هذا وذاك؟ .. كيف تتغير صور المطالبة بهذا الاعتراف سواء فيما يتعلق بالكاتب أو بالواقع الذي لا يتوقف عن فرض الانتماء حتى على أكثر الرافضين له والساخرين منه؟ .. لماذا يجب الحصول على الاعتراف أصلًا؟.
من ضمن ما أركّز عليه في المحاضرة الأخيرة بورشتي القصصية هو تذكير أولئك الكتّاب الذين يقطعون خطواتهم الأولى بألا يسمحوا لأحد ـ مهما كان ـ أن يفرض وصايته عليهم .. "إذا كنت خلال زمن الورشة بمثابة الصوت المغاير في أذهانكم، الذي يخلق إمكانات جامحة لكل نص في مرحلة العمل على جميع مستوياته، بحيث تكون هذه الاحتمالات جزءًا من حريتكم في الكتابة؛ فإن التهكم هو الطريقة المثالية لمجابهة كل من يحاول أن يقلل من شأن قصصكم بعد نشرها، أو يحاول إخضاع أعمالكم المستقبلية لأوهامه الخاصة باعتبارها الحياة والموت سواء كان يقينًا أخلاقيًا، أو سياسيًا، أو أسلوبيًا على سبيل المثال" .. دائمًا ما أفكر بعد انتهاء هذه المحاضرة في أن هؤلاء إذا ما استمروا في الكتابة، وتزايدت حدة "الجموح" في قصصهم بمرور الوقت، وتضاعفت لامبالاتهم تجاه السائد والمضمون، وظلوا مقيمين في هذه المدينة بعيدًا عن مكان قد يمنحهم الوضعية الملائمة للحماية والتعويض؛ فإن هناك ثمنًا بالتأكيد سيستمرون في دفعه .. إنه أمر أشبه بقانون قطّاع الطرق.
موقع "الكتابة" ـ 10 نوفمبر 2019

الثلاثاء، 5 نوفمبر 2019

صمت منفرد

خلال ثلاثين عامًا، غابت أشياء كثيرة عن البيت الذي مات أهله تباعًا، لكن الساعة ظلت كما هي، حتى المسمار الذي يحملها منذ البداية، لم يرتعش طوال تلك السنوات .. استبدلت أغراض عديدة أماكنها، لكن الساعة لم يتغيّر أبدًا موضعها على الحائط، كأنها جزء أصيل من تكوينه .. تراكمت على الموجودات القديمة آثار الزمن، لكن الساعة بقيت دون علامات ضرر، كشيء لم يُستعمل مطلقًا .. ربما يكمن السر في أن عقاربها قد توقفت عند لحظة محددة منذ ثلاثين عامًا ..  اللحظة التي كنت أجلس خلالها كطفل غافل، تتنقل عيناه بين وجوه أسرته التي مازالت على قيد الحياة، ثم رأيت فجأة عجوزًا لا أعرفه، يمر في منتصف الشقة، جالسًا فوق كرسي متحرك قبل أن يختفي على الفور .. رجل عجوز لم ينتبهوا إليه، ولم أقدر على إخبار أحد بأنني رأيته، كما لم أعرف هل سيعاود الظهور ثانية أم لا .. لذا، وحتى لا تضيع ملامحه من ذاكرتي؛ قررت أن أغلق على نفسي باب الحجرة، وأن أحاول وصفه سرًا بكلمات مكتوبة، غير مُدرِك بأنها ستصير القصة التي لن ينجو منها أحد.
أنطولوجيا السرد العربي ـ 4 نوفمبر 2019
اللوحة: Edgar Fernhout 

السبت، 2 نوفمبر 2019

العالق في يوم أحد: تقمّص الفراغ

يمكننا تحديد قائمة من الأداءات "التخييلية" التي تضمنتها مجموعة "العالق في يوم أحد" للكاتب عبد الله ناصر الصادرة حديثًا عن دار التنوير، من حيث كونها تتسم بنوع من الثبات المتعمّد والتكراري، وهو ما يكاد يمثّل استراتيجية سردية عامة لقصص المجموعة .. ستشتمل هذه القائمة على: إضاءة التماثل .. التحريف البنيوي .. التبادل .. تغيير الوظائف .. تثبيت المتناقضات .. كسر التراتبية .. تعطيل المنطق.
"ما عدت آمن كل الأخشاب في بيتي: الطاولة، والكراسي، والمكتبة، والخزانة، حتى السرير، أحلم أنه ينطبق عليّ فأختنق وأصحو من الهلع حتى صرت أنام مؤخرًا على السيراميك، قد يكون باردًا ولكنه آمن. عندما أخرج إلى العمل صباح الغد، سأقفل الباب مرتين، ولن تنجو تلك الأخشاب من النار التي سأضرمها في البيت".
هذا على سبيل المثال، ولكن ما أراه جديرًا بالتمعّن عند مقاربة هذه الأداءات يتلخص في ثلاث أفكار: الأولى أن هذه الأداءات لا تمنح ما نعتبره "العادي" طبيعة مختلفة، أي لا تكسبه غرابة مستقلة لم تكن تنتمي إليه، وإنما تكشف عن وجوه "ضمنية" أخرى تساهم في تكوين ما يُنظر لها كحقائق للموجودات، ملامح كامنة في المألوف وليست إضافات خارقة له.
الفكرة الثانية أن الظواهر الناجمة عن هذه الأداءات، والمتعلقة بما هو خارج الذات ليست انعكاسًا للوعي الذي يمارسها، أي أنها غير خاضعة لإرادة متعالية تخص الجسد المنتج لهذه الأداءات، وإنما امتثالًا لجوهر الأشياء الذي يسبق تجسّدها، وبالتالي تمتلك حقائقها الخاصة التي تتجاوز توقعات الذهن الذي يتصوّرها على نحو معيّن .. بمعنى آخر تتخطى الكيانات غير البشرية كل ما يمكن أن يكشفه "التخييل" من إمكانات مخبوءة في حضورها التقليدي.
الفكرة الثالثة أن هذه الأداءات لا تسعى إلى إعطاء الرسوخ للذوات والأشياء المكتشفة، أي إلى دعم الاستقرار لصور الوجود التي تتخذها وإنما إلى تبديدها، إلى ملامسة الفراغ المفترض وراء حضورها الذي يتعدّى دائمًا ما يبدو عليه .. الحضور الذي يمكنه أن يتحوّل إلى خلاف ما نعهده باستمرار .. كأن الأداءات تسعى لتفتيت المراوغة طمعًا في الوصول إلى نوع آخر من المرايا .. مرآة كفيلة بأن تعكس ذلك الغموض الذي لا يُرى أو يُدرك، ومن ثمّ جعل هذه الذوات والأشياء تنوب عنه .. المرآة الكلية التي لن تعكس أصلًا مطلقًا إلا لو كانت فراغًا.
"ولأن الذبابة كانت تطير بسرعتها القصوى لم تستطع تفادي تلك الجمجمة، التي قضت عليها لحظة الارتطام. وعندما التفتت الرصاصة، راعها ذلك المشهد، وقررت أن تكون من الآن فصاعدًا أكثر حيطة وحذرًا فلا تبتعد كثيرًا عن النفايات".
ما الذي يعنيه "التخييل" إذن وفقًا لهذا؟ .. إنه أشبه بالحدس المضمون، الذي لا يخترع الأعاجيب ـ أو كما تبدو هكذا ـ وإنما يحدد مواضعها في ما هو بديهي .. لا يؤلف الاستثناء كحالة منفصلة عن الطبائع النمطية بل يظهره كجزء متداخل في تركيبها .. التخييل هنا هو توسيع متواصل لمساحة الصواب التي لا يمكن دحضها لمجرد أنها عاشت حياة سابقة من التواري المحكم .. لكنه الصواب الذي كلما تمدد، كلما امتلكت تفاصيله القدرة على التودد إلى غيابها، أي استثمار قابليتها لأن تكون أي شيء غير ما هي عليه بالتعبير الهيدجري، كي تحاول إزاحة العتمة عن الشيء الوحيد "الغيبي" الذي يضمن لها أن تظل كذلك، في مقابل أن هذا الشيء الوحيد المبهم لا يمكنه أن يكون إلا نفسه.
"بدا أن هؤلاء البشر لن يتوقفوا عن قتل بعضهم البعض، إذ لا مناص من أن يكون أحدهم قابيلًا آخر أو هابيلًا آخر. كانت الغربان المذعورة تتناقص بينما يتضاعف عدد النوارس حتى ما عاد القتل يُفزع أحدًا، بل لقد صارت الغربان تتلذذ بالتهام القتلى. لو نظرت الآن إلى أي غراب لوجدته يشتهي أن ينقر عينيك الطازجتين".
ما يتم تداوله كفروق مؤكدة بين الموجودات يحوّله عبد الله ناصر إلى إثباتات للتطابق، وبالتالي يكون الاختلاف هو هيمنة من الادعّاءت المتغيرة التي تحاول الكينونة بواسطتها أن تتحرر خارج ورطة التشابه .. لكن هذا يؤكد أيضًا أن الذات لا تمتلك ما يُشكّلها، أي لا تحصل على اليقين استنادًا إليه، بما أن الأشلاء التي تكوّن بنيتها تمزج بين المتضادات، وتنطوي على النقائض لتُجسّد تماثلها الحتمي مع الآخرين العالقين في الضرورات نفسها .. لهذا تتناول قصص المجموعة هذه الأشلاء كاحتمالات طائشة في لعبة ترتكز "إعجازيتها" على الانفلات المؤبد للماهية مع كل لحظة من الخلق الظاهراتي البريء، أو العفوي مثلما أبصر غاستون باشلار بالتأمل الشارد شاعرية العالم .. الحفر في جميع الظنون المحقة طوال الوقت مهما كان تنافرها مع "المعقول"، لبلوغ الأشياء في نقائها السري .. كأن عبد الله ناصر يحوّل الأجساد والأماكن والأزمنة ـ كرهان فينومينولوجي ـ إلى صور شعرية تكشف عناصرها الأولى، أو منطلقاتها الأساسية ـ كما أراد باشلار إعادة خلقها ـ خارج عماء المفهوم، أو القمع الاختزالي للسياق الذي يستهلكها.
"ساقي اليسرى سليمة تمامًا ولكنها ليست لي هي أيضًا، حتى هذا الوجه المستطيل الحاد، جسدي كله ليس لي، حتى الاسم والعمر والوظيفة والحالة الاجتماعية كذلك، كلها تخص أخي الذي يصغرني بعشرة أعوام".
على جانب آخر يمكننا التفكير في أن الأداءات التخييلية تكشف أثناء قيامها بالمهام السردية السابقة؛ تكشف عن نوع من التشابك فيما بينها .. إنها تجعل من التماثل أو الطمس القدري للفردية في قصة "متواليات" كأنما يحلم بالحب الذي لا يشبهه آخر في قصة "تكامل" مثلًا .. كذلك صفعات الأبواب في قصة "اللذان لا يستطيعان الخروج" كأنها توصيف أو تشريح للتوأمة بين هابيل وقابيل في قصة "التوأم" أيضًا .. إنه كنسيج داخلي للعالم، أو التاريخ يبوح بالمزيد من ملامحه الفعلية، وتناسلاتها، حيث العالق في يوم أحد يختبر هذا حقًا كزمن الباطن، الواقعي، لا المجازي، دون مبالاة بتمنّعه المؤقت عن الإدراك في وعي الآخر .. في تصوّر الغريب عن التجربة الذي لا يمكنه أن يلحظ مثلا خوفك من النظر إلى المرآة، كما في قصة "الآخر"، قبل أن يصل بنفسه إلى هذه اللحظة التي يخاف فيها من أن يلتقي بـ "الرجل الذي خرّب حياته" .. بالكيفية ذاتها سيكون الإبصار من الخلف أمنية لذلك الذي يخاف من النظر في المرآة؛ فذلك الذي يسير إلى الوراء في قصة "الذي يبصر من الخلف" ربما يكافح لفهم المسار الذي قاده نحو الخوف من لقاء الرجل الذي خرّب حياته، وهذه القصة تذكرني بقصة "ماريا نكوبولوس" من مجموعتي القصصية "مكان جيد لسلحفاة محنطة" 2013، حيث الشابة التي أظهرت في طفولتها القدرة على المشي بظهرها دون أدنى مشكلة، ودون مساعدة من أحد حتى في الأماكن الغريبة عنها التي لم تذهب إليها من قبل لدرجة أنها اشتهرت بلقب "الفتاة ذات العينين الخلفيتين"، فضلا عن استطاعتها صعود السلالم ونزولها وعبور الطرق المزدحمة والقفز والجري بسرعة كبيرة على هذا النحو .. في قصة "الذي يبصر من الخلف" ـ المغايرة عن قصة ماريا في التفاصيل والأحداث واللغة ـ يتفق بطلها "المبصر من الخلف"، الذي كأنما يسير في الماضي مع ماريا نكوبولوس "التي كانت يعتمد نجاحها في المشي بهذه الطريقة على إحساسها الخاص"، حيث "كان يعتبرنا أسوأ حالًا من العميان، إذ ما قيمة العيش حين لا نستطيع رؤية ما خلفنا"، بينما كانت "ماريا" تقول في القصة "بأن الحياة كان من الممكن أن تكون جميلة حقًا لو أتيحت لكل إنسان القدرة على التفحص الدائم للنقطة التي ينطلق منها تحركه داخل العالم، وأن المشي بالظهر حينما يعتبر معجزة، فهذا دليل على بشاعة النوايا التي وقفت وراء الوجود البشري لأن الغيب لو كان يريد بنا خيرًا لجعلنا جميعًا قادرين على المشي بظهورنا".
بالعودة إلى غاستون باشلار؛ يحتل "التقمّص" مكانة رئيسية في تناول الصورة الشعرية لديه، أي استدعاء حالة "المبدع" لكي تصبح هذه الصورة خاصة به، لها جذور في داخله، وبالضرورة تصبح وجودًا جديدًا في لغته .. فإذا كان عبد الله ناصر ـ كما سبق وأشرت ـ يحوّل الأجساد والأماكن والأزمنة إلى صور شعرية؛ وجب التفكير في ذلك الذي "يتقمّصه" بينما يقوم بذلك .. الفراغ الذي يطغى وراء الذوات والأشياء .. المرآة التي تعكس الغموض .. الأصل المطلق الذي جعل هذا الحضور المراوغ للعالم ينوب عنه .. هذا التقمّص تحديدًا هو ما يفسر "المرح" السائد في المجموعة، الذي يتجاوز الحس الفكاهي في عدد من قصصها .. المرح المعادل للذة الخلق الديناميكي للأجساد والأماكن والأزمنة مثلما يكون عليه الأمر تمامًا للصور الشعرية .. لكن المرح لا يتعلق بالخلق فحسب، وإنما أيضًا ـ وربما بشكل أقوى ـ بالوعي بغياب الفروق بين الموجودات، وعدم امتلاك الذات لما يُشكلها، والانفلات المؤبّد للماهية، والرغبة في تبديد ما يتم اكتشافه كمحاولة لإبصار الشيء الوحيد المبهم الذي لا يمكنه أن يكون إلا نفسه.
جريدة "أخبار الأدب" ـ 3 نوفمبر 2019