الثلاثاء، 28 ديسمبر 2021

"نقد استجابة القارئ العربي" في موقع "العربي الجديد"

يمثّل الكتاب مدخلاً لدراسة الأسس المعرفية للكتابة الأدبية العربية، وكذلك تحليل التكوينات الثقافية للظواهر النقدية، وتشريح الجذور التاريخية للسياقات والأبنية اللغوية الخاصة بمراجعات الكتب وتدوينات القراءة، بالاستناد إلى حضور القارئ في النظرية النقدية المعاصرة باعتبار أن القراءة والكتابة وصفات لفاعلية واحدة، وامتداد الهيمنة (القيمية) للذائقة الأدبية من الفضاء الخاص إلى الفضاء العام.

السبت، 25 ديسمبر 2021

سيرة الاختباء (34)

لا يعنيني الاعتقاد الساذج لدى البعض – أو الكثيرين – حول مثالية (الأديب) أو (المثقف)، كما لن أتوقف أمام الإدانات (المصدومة أحيانًا) تجاه الشاعر المغتصِب أو الناشر المتحرش أو الكاتبة التي لم تمانع في قبول جائزة من حكومة عربية داعمة لـ “تحيا مصر” .. ما أفكر فيه الآن هو متى تغضب الجماعة الأدبية؟ .. ما هو المعيار (الأخلاقي) لديها والذي يترتب عليه الاحتفاء أو القبول أو التغاضي أو الإدانة؟ .. هل يجسّد هذا المعيار تركيبة “الأمان الثقافي” الذي يحتاج أفراد هذه الجماعة للإبقاء على هيمنته، أيًا كانت نتائجه؟

كان الأمر عاديًا جدًا حينما كتب الشاعر قبل سنوات ( لم يكن مغتصًبا جنسيًا بعد) مقالًا في إحدى المنصات البائسة مهنيًا يتضمن سبابًا عنصريًا نابيًا لجمهور أحد الأندية المصرية .. كان الناشر (قبل الاتهام بالتحرش) واحدًا من الشخصيات محل التقدير في الوسط الأدبي بالرغم من دوره المؤثر في ترسيخ صورة طبقية زائفة للكتابة المصرية عن طريق الترويج والإلحاح المتواصل ولفترة طويلة على الأسماء التي تحملها أغلفة إصداراته، مستغلًا علاقاته المركزية المتشعبة .. كانت الكاتبة (خلال الزمن السابق لحصولها على الأموال الخليجية الطاهرة) إنسانة لطيفة وظريفة وجديرة بالاحترام حينما كتبت منشورًا على فيسبوك تصف فيه صحفية أرادت عقد حوار معها بأنها (لحوحة وغبية)، وكذلك حينما كتبت على فيسبوك أيضًا تعليقًا حاقدًا ينطوي على تفسير معتوه وجاهل ومثير للضحك والشفقة على كلمات كاتب آخر كان قد نشرها على صفحته ولم تكن لتلك الكلمات أدنى علاقة بها.

هذه ليست أخطاءً أصلًا في نظر الجماعة الأدبية، وإن كانت كذلك ـ في أفضل الأحوال ـ فهي ليست خطايا كالاغتصاب والتحرش والتطبيع مع حكومة دولة ترعى “الحريات” في بلد آخر .. يجب أن ترتكز الجماعة الأدبية على التفرقة بين “الأخطاء” و”الخطايا” لتحمي نفسها من الازدواجية والتناقض .. لكنها حين تتعامي ـ قصدًا ـ عن “الأخطاء” باعتبارها جزءاً من “الخطايا” فلن تستطيع أن تحمي نفسها من الانتهازية والتسلّط .. السباب العنصري في مقال لا ينفصل عن الاغتصاب الجنسي .. المساهمة الفعّالة في توطيد مشهد تراتبي كاذب للكتابة المصرية لا ينفصل عن ممارسة التحرش .. الإهانة المتغطرسة والاستقوائية بالمريدين تجاه شخص لم يبادر بأذى لا ينفصل عن التطبيع مع “الملائكة” .. فعل ليس أقل أو أكثر فظاعة من فعل آخر .. ارتكاب يشير ويدل ويؤكد على ارتكابٍ آخر .. ينبغي على الجماعة الأدبية ألا تعترف بعدم الانفصال هذا لأن الاعتراف يجرّدها من هويتها .. يعزلها عن جوهرها .. يحرمها من الغرض الذي تكوّنت على أساسه.

لست في خندق المدينين أو المُبرئِين أو حتى المحاكِمين فيما يتعلق بـ (الاغتصاب والتحرش وقبول جائزة من نظام سياسي مستبد) .. أنا أشرّح وأفكك المبررات التي حُفرت من أجلها هذه الخنادق .. أخلق الاستفهامات التقويضية للدعائم التي تُبني عليها “المواقف النبيلة” في لحظات “انتقائية” معينة:  لماذا كانت هناك مساندة عفوية في الماضي لشاعر فضّل أن يكون وضيعًا على أن يصون المهبل الذي خرج منه؟ .. لماذا كانت هناك مساندة عفوية في الماضي لناشر أفّاق، يوظّف “غلمان وجواري القاهرة” ليراكم أرباحه كـ “مثقف كبير”؟ .. لماذا كانت هناك مساندة عفوية في الماضي لكاتبة متعجرفة، توزّع هشاشتها عداوات كوميدية، اعتمادًا على مكانة في الوسط الأدبي لم تكن لتبلغها لو كانت قد كتبت كل ما كتبته وهي لا تزال مقيمة في قريتها أو حتى في المركز الذي تتبعه قريتها أو حتى في عاصمة المحافظة التي تتبعها قريتها؟ .. ما الذي تغيّر؟ .. الاغتصاب؟ .. التحرّش؟ .. التطبيع مع كيان عربي يعتني بـ “الجمهورية الجديدة”؟ .. تحقق ما تم اعتباره “جرائم فعلية”؟ .. التفاوت في طبيعة “الإثم” بين ما قام به الشخص نفسه سابقًا والآن؟ .. أم لأن شروط “النفعية الثقافية” اختلفت، وبالضرورة أنتجت مقتضيات جديدة؟ .. هل “المصلحة الثقافية” هي “المعيار الأخلاقي” الذي يحكم شكل “الحقيقة” والخطوات التطهرية الناجمة عن تبنيها في وقت محدد لدى الجماعة الأدبية؟

إن حماية ما يتم اعتباره سلوكًا بديهيًا مبررًا أو بنوع من الكرم “هفوات ممكنة” تستهدف الحفاظ على ما تمثله تلك النماذج “المركزية” كالشاعر والناشر والكاتبة من أمان طاغ؛ إذ ينطوي الاعتناء بهم على فرصة لكل مشارك أو مساهم في رعاية وجودهم باللايك والتعليق المؤيد أو الممجد وبالمشاركة التضامنية والاحتفائية … إلخ؛ ينطوي على فرصة للاستفادة بالمعنى الشامل .. إما مكسب مباشر أو مؤجل أو محتمل .. اكتساب قدر من لمعان وهيبة المنزلة الرفيعة التي يحتلها هذا النموذج ولو على المستوى النفسي كنوع من التعزية الخبيثة لعدم بلوغ فرد الجماعة تلك المنزلة .. حينما أوثق إشارة أو علامة معلنة تفيد وتدل على رضائي أو مساندتي لتصرف أقل ما يوصف بـ “عدم النزاهة”؛ فإنني أصير جزءًا من الوعد الضمني الذي يحمله صاحب هذا التصرف بأن أكون مثله .. أن أحقق ما صار إليه .. أن أكون جانبًا من سلطته حتى لو كنت أكثر المتضررين من ترسيخ هذه السلطة “كالإقليمي الحالم والمكافح لأن يكون ابنًا للفردوس القاهري”.

يحق لي قول هذا .. ليس لأنني واحد من جماهير ذلك النادي التي تم الإساءة إليها، وواحد من الكتّاب الذين دفعوا ثمن الصورة الطبقية الزائفة للكتابة المصرية، وواحد من الذين حاول مزيج الحقد والعته مناوشتهم فضحكوا شفقة؛ وإنما لأنني ـ ببساطة ـ لست فردًا من الجماعة الأدبية .. لأنني خارج “الأمان الثقافي” الذي يجب أن أوظّف معاييري الأخلاقية بحسب مقتضياته .. لأن القدرة على الانفصال عما يلهث ويتصارع من أجله الآخرون أبقتني دون تهديد.

      موقع "الكتابة" ـ 25 ديسمبر 2021

الثلاثاء، 21 ديسمبر 2021

وصية كلنكسر

ليس التذكر وحده ما قد يعيدك إلى مكان قديم، وإنما النسيان أيضًا .. الطمس الغيبي الهازئ للصلة التي تربط بين عمائك الشهواني والحقيقة المجهولة للمكان .. حينما يدفعك النسيان إلى تلك العودة الغامضة ـ لاسيما في اللحظات الفارقة كالشعور المبهم بقرب نهايتك، وخلال الوقت الاحتفالي لكينونتك من العام كيوم شتائي كثيف الغيوم وغزير المطر ـ فإن ذلك لن يكون استرجاعًا مبهجًا ومتحسرًا للماضي أو مجاهدة بائسة وخبيثًة لاسترداد ما فُقد ولم تكن تملكه أصلًا، بل سيكون ولادة متبادلة بينك والمكان .. إعادة تكوين جامحة لبداهة الواقع التي تُشكل تاريخكما المشترك .. اكتشافًا جديدًا لحطامكما العدمي المتناثر فيما قبل ذلك التاريخ، وهو ما قد يحاول المتلقون والنقاد ـ برعشة اليقين الخالدة ـ تجميعه وترميمه كبنيان مروّض.

ربما سيموت بالفعل في ذلك الشتاء، أثناء عمله في تلك اللوحات أو بعد انتهائه منها، وإذا كان ذلك الموت سيدفع بعضًا من الذين مازالوا على قيد الحياة للرجوع إلى كتاباته عن أعماله الفنية؛ فإنه يرجو أن يكون رجوعهم بشكل أخص إلى الوصية التي كتبها في نهاية عمره كنبوءة تمزج بين التوسل الأخير للخلود، والرغبة المتحدية في مواجهة الموت .. كأن الإهانات التي طالما لاحق بها غضبه الذاهل ذلك الموت عبر الخطوط والألوان قد بلغت ذروتها الخالصة، وكما لو أنه عند حافة الفناء قد استعاد ـ كما ظل يكافح دومًا ـ طفولته المتمنعة على نحو كامل: غفلة نقية مطرزة بالدموع.

لا تعنيه التأثيرات العاطفية لموته، أو التفسيرات الخرقاء لأسبابه والمنحصرة على الأغلب في النتائج القاتلة للتشاؤم الانعزالي الذي ربما يثرثرون عن بدايته المتدرجة ثم تسارعه المفاجئ حتى اكتماله بصورة تامة في سنوات نهايته .. لا تعنيه الفرضيات القاصرة التي سينتزعونها من لوحاته الأخيرة ـ خاصة التي تحوم حول الملامح الثملة لظواهر الرعب الوجودي في انتقامها الرمزي من المشيئة القدرية ـ حتى يستمتعون بتداولها كإثباتات لصحة ظنونهم، والتي قد تتمادى إلى حد مراجعة الهوية النفسية له، والتأكيد على أن “الجنون” لم يكن صفة جمالية وحسب وإنما واقعية أيضًا .. ربما سيعتبرون موته وفقًا لتلك اللوحات نوعًا من الانتحار المراوغ .. قتلًا غير مباشر للنفس يبرهنه ـ من وجهة نظرهم ـ (عدم الاتزان) الذي يؤسس شخصيته، ويتجلى في أشكال سلوكية مستقرة كالارتباك والتلعثم والتوهان وادعاء الصلابة والاندفاع المبالغ في فضح الذات .. المرض المزمن الذي أدى تفاقمه في سن الأربعين إلى بلوغ العجز الكلي عن البقاء حتى عند حواف الأطر الاجتماعية التقليدية، والاستسلام ـ بحد زعمهم ـ إلى وحدة كئيبة مهلكة كما لو أنه أراد اللحاق بالأمل الأخير في أن يكون أسطورة حقيقية .. كان أسطورة بالفعل ولكنها أسطورة مضادة داخل نطاق لا يستوعبه فقط إلا أشباحه الموزعة في تباعدات غير مدركة عبر الزمن.

من كتاب “وصية كلنكسر” ـ يُنشر قريبًا

الجمعة، 17 ديسمبر 2021

فصيلة الدم المجهولة

ليس هناك ذنب أكبر من أن تحاول جعل المغفل راقصًا 

“شارلي شابلن” المذهول، الذي يسقط كل مرة من كوكب غامض ولا يفهم ما المطلوب منه تحديدًا كي يتوصل لأسباب سقوطه أو على الأقل بلوغ البراعة الكافية لحمايته من التروس العملاقة السعيدة بتحديد قدره في Modern Times .. الذي سيدرك بواسطة أمه وحبيبة الطفولة وألفس بريسلي والشكولاتة والرجبي وحرب فيتنام وتنس الطاولة وصيد الجمبري والحكي للغرباء في محطة انتظار الباص أنه محض ريشة متاحة كليًا لمشيئة الهواء بحسب متطلبات مزاجه البليد مهما بلغت قدرة فورست جامب على الجري .. الذي اضطره “تشاك بولانيك” متقمصًا شخصية “تايلر ديردن” في رواية “نادي القتال” لاستخدام الدهن المشفوط من أم “مارلا” في صنع الصابون للاستفادة من ثمنه في غسل الملابس ودفع الإيجار واصلاح الثقب في خط الغاز بعد أن كانت “مارلا” تنوي استخدام هذا الدهن مستقبلًا في حقن شفتيها بالكولاجين .. الذي يردد طوال الوقت داخل الهوامش الأكثر ضراوة وباللسان الخجول المضطرب الباكي لفلاديمير نابوكوف في رواية “العين”: “رغم ذلك أنا سعيد. نعم سعيد. أقسم أنني سعيد. فلقد أدركت أن السعادة الوحيدة في هذا العالم هي أن تلاحظ، تتجسس، تشاهد، تفحص ذاتك والآخرين، أن تكون لاشيء، مجرد عين كبيرة، زجاجية قليلًا، محتقنة إلى حد ما ولا ترمش. أقسم أن هذه هي السعادة. ما الذي يهم في أنني حقير قليلًا، مغفل قليلًا، وأنه لا يوجد من يُقدّر كل الأشياء المميزة فيّ .. خيالي، معرفتي الواسعة، موهبتي الأدبية. أنا سعيد لأنني أستطيع أن أحملق في نفسي، ولأي شخص هذا أمر ممتع جدًا، نعم ممتع بحق!  .. فالعالم مهما حاول لا يستطيع إيذائي .. فأنا منيع”.

* * *

الغفلة .. الاستيعاب العفوي للأصل الحقيقي للمهانة .. الأصل المطلق الذي تتضاءل بجواره قيمة أية مهانة أخرى ممكنة بصفتها مجرد تابع أو نتيجة لا دخل لها في شيء أو مجرد مظهر سطحي فائدته أن يدل على وجود ملغز فحسب .. حكمة الكشف عن الخام الذي شُكل منه مسرح الجريمة وزمنها .. الفهم البديهي والمستتر أن المهانة لا تحتاج لمعادلاتنا الأرضية الفاشلة، المشابهة للأشياء كافة التي اختبرها “تشارلز بوكوفسكي” ووجدها “قائمة على أسس رملية” .. المهانة حاضرة بحضورنا فحسب .. حضورنا كما هو الذي لا يحتاج لأية أسباب إضافية .. المهانة المجهزة سلفًا بإتقان لتكون المشترك الوحيد بين مقادير الطهي كافة .. أنا مغفل إذن أنا “كلنكسر” الذي بحسب “هيرمان هسّه”: “الأكثر زوالًا، والأكثر إيمانًا، والأكثر حزنًا .. الذي يعاني خشية الموت أكثر منكم جميعًا” .. هذا ما يجعلني مسالمًا إلى هذه الدرجة في مواجهتكم مهما بلغت رغبتي في الانتقام .. أريد أن أظل مرضيًا عني حتى تتركوني قريبًا منكم بما يكفي للحفاظ على ضرورتكم لي كعلامات إرشاد على الطريق نحو السماء .. أنا أعمى ينظر إلى نقطة أبعد مما يمكن أن تخيله.

* * *

في “التاريخ الكوني للخزي” كان من واجب “خورخي لويس بورخيس” أن يعرفنا على “توم كاسترو” الدجال الأبله المتسم بالمرح والغباء والخضوع والمنتحِل بواسطة صديقه الزنجي العبقري “بوجل” شخصية “تيكبورن” الضابط في الحربية ذي التربية الفرنسية والابن الأول لعائلة من كبرى العائلات الكاثوليكية الانجليزية والذي غرقت السفينة التي كانت تحمله في المحيط الأطلسي وترفض والدته الليدي تصديق موته .. أتخيل “وودي آلن” الذي تحمّل مشقة أن يخبرنا في نهاية Annie Hall إننا نواصل تجربة العلاقات المجنونة السخيفة لأننا بحاجة للبيض .. “وودي آلن” بنظارته التي تنكمش وراءها عيناه المذعورتان بخبث وبتلعثمه الماكر وحركات يديه المرتبكة كداهية وهو غائب تمامًا في روح “توم كاسترو” بعد خروجه من السجن الذي قضى فيه سنوات عقوبة الانتحال بينما يتجوّل داخل قرى ومدن المملكة المتحدة كي يحكي حكايته التي يعلن فيها براءته أحيانًا ويعترف بذنبه أحيانًا أخرى .. لماذا قرر “بورخيس” أن كل رغبة “توم كاسترو” (أو “وودي آلن” كما تخيلته) كانت إبهاج الآخرين بحكايته وإسعادهم دائمًا للدرجة التي كانت تجعله في ليال كثيرة يبدأ بالدفاع عن نفسه ثم ينتهي إلى الاعتراف بكل شيء وفقًا لرغبة الجمهور؟ .. لماذا قرر “بورخيس” هذا في نهاية الأمر وقبل أن يذكر تاريخ موت “توم كاسترو” مباشرة؟ .. كان “بورخيس” يحتفل في أعماقه بالزوال والإيمان والحزن والخوف من أن تكون مطرودًا من جنة المستمتعين بدمائك .. كان يدرك للغاية البطولة الكامنة في أن تكون مغفلًا عظيمًا.   

* * *

مقارنة بالآخرين أنت لست متهكمًا نموذجيًا، أي ليس كما يليق بتفوقك التهكمي على الآخرين وإنما كما يليق بغضبك من وجودهم .. الآخرون الذين يخوضون ضدك المعارك اليومية المعتادة وتصنفهم شخصيًا كمُرسِلين دائمين ضد مُستقبِل دائم لا يمكنه على أقل تقدير أن يحاول التدريب أو التمرّن حتى يتخلص ولو بالتدريج من معوقاته الذاتية التي تمنعه من أن يكون مُرسِلًا .. المرتبك الفاقد لسرعة البديهة والذي لا يتخذ أبدًا رد الفعل اللحظي المساوي في القوة والمضاد في الاتجاه فضلًا عن كونه ـ بالطبع ـ يفتقد للدافع أو الرغبة الملحة التي تقوده لأخذ المبادرة الهجومية أو القيام بأي إجراء وقائي يحميه من هجمات الغرباء المستمرة .. الغرباء الهادئون الواثقون المسيطرون، الذين تتمتع حواسهم بالخبرة اللازمة التي تضمن إيلام المرتبكين كما يجب .. حينما تقرر مع نفسك بصدق ضروري وسعادة حقيقية أنك تمثل الحضور المثالي المضاد تمامًا لشخصية “الراقص” البارعة في استخدام “الجيدو” بنوعيه الأخلاقي واللاأخلاقي الذي تناوله “ميلان كونديرا” في رواية “البطء” حيث يعرف الراقص كيف يضع الآخرين في منزلة أدنى ويستولي على المسرح كليًا .. حينما تقرر ذلك فهذه ليست سوى البطولة السرية التي آمنت شخصيًا بكونها الوحيدة التي تستحق احتفاءك الحميمي بها عن أي بطولة أخرى .. الانتصار المتواري الذي شكّله المنطق المعكوس والحجج المقلوبة والاشتغال المضاد وعلامات الاستفهام طويلة المدى.

من كتاب “الغفلة والإدراك” ـ مدخل تفكيكي لفلسفة شوبنهاور / يُنشر قريبًا

أراجيك ـ 17 ديسمبر 2021

الاثنين، 13 ديسمبر 2021

حافة الشرفة

بينما كانوا يقتربون من ذلك البيت قبل أعوام أطول مما يمكن استيعابها؛ خلقت خطواتهم طفلًا غير مرئي، لا يمكن لأحد أن يسمعه أو يلمس جسده ولو بمحض الصدفة .. لم يكن لديهم علم بوجوده، ولكنه قضى كل تلك السنوات معهم، متشبثًا طوال الوقت بحافة الشرفة، يتأرجح جسده في فضاء الشارع، ولا يعطي إشارة عن نفسه أكثر من تلك الأنفاس بالغة الخفوت التي يشعر بها أحيانًا أي منهم حين يقف في الشرفة لسبب ما، فيظنها جزءً من ريح العالم .. حينما بدأوا يغادرون البيت واحدًا إثر الآخر؛ بدأ فضاء الشارع يُظلم تدريجيًا حتى انتهى إلى عتمة تامة مع اكتمال غيابهم .. حينئذ أدرك أن جسده لم يكن معلقًا في فضاء الشارع، وإنما كان مدفونًا في أرضه حيث يمر العابرون فوق خفائها، وأن حافة الشرفة التي ظل يتشبث بها طوال عمره لم تكن إلا خليطًا سائلًا من العظام المطحونة لأولئك الذين عاش معهم وكان يظنهم لا يعلمون شيئًا عن وجوده. 

أنطولوجيا السرد العربي ـ 13 ديسمبر 2021  

الثلاثاء، 7 ديسمبر 2021

الفكرة المطلقة للحسرة

“أشاح نيكولاي روستوف وجهه وسرح بصره في بعيد كأنه يبحث عن شيء من الأشياء، فنظر إلى ماء الدانوب، وإلى السماء، وإلى الشمس. ما أجمل ما بدت السماء لعينيه! ما كان أشد زرقتها! ما كان أهدأها وأعمقها! ما كان أبدع أشعة الشمس في تلك الساعة من الأصيل! وما كان أروع التماع الماء في الدانوب البعيد! وأجمل من ذلك أيضًا كانت الجبال الزرقاء العالية وراء الدانوب، وكان الدير، وكانت شعاب الجبال الغائصة في السر، وكانت غابات الصنوبر الغارقة في الضباب حتى ذراها … هناك كان الهدوء، هناك كانت السعادة … قال روستوف يحدّث نفسه: “يكفي أن أكون هناك، فلا أرغب في شيء، ولا أطلب شيئًا. ما أعظم السعادة التي في نفسي وفي هذه الشمس! … أما هنا … فالأنين، والعذاب، والخوف، وهذه البلبلة وهذا الاضطراب … ما إن يصيح صائح مرة أخرى بنداء، حتى يركضوا جميعًا متراجعين لا أدري إلى أين، وإذا أنا أركض مع الراكضين، ثم إذا هو الموت أمامي، وفوقي، وحولي … وما هي إلا لحظة، فإذا أنا لا أرى هذه الشمس وهذه المياه وهذا الوادي بعد ذلك أبدًا..”.

يتلصص ليو تولستوي بعيني “نيكولاي روستوف” في “الحرب والسلام” على “الموت” مستعملًا ما يبدو أنها “الحياة” في حقيقتها الفاتنة والمتمنعة .. يعاين “أصل” الوجود “كوعد إغوائي متنكر” من حافة فقدانه .. كأنه ينسج استفهامًا لهوية شخصية متلاشية عند ما يشبه مفترق طرق رومانسيًا “سرابيًا على وشك التبدد” شكّله الضياع القدري المحتوم .. هذا التأمل لـ “جمال الطبيعة” كغلاف للحياة / عتبة للموت ينطوي على ذلك الاستفهام الأبعد من “الشر” القابض على انشغال باطني متداخل في عمق تلك الورطة المهددة .. انشغال بالنقيض: الذين أوصلتهم الحنكة إلى ما يُعتقد أنه الاستمتاع الخالص بتلك التفاصيل البديعة دون أنين أو عذاب أو خوف .. الذين بلغوا السعادة الصافية “هناك في البعيد” غير المدنسة بالقلق .. الذين جعلهم “الإدراك” يضمنون الحماية .. يتخطى استفهام الهوية سطوة الوجع الخاص .. تولستوي يحرّك بصيرة “نيكولاي روستوف” خارج الموت بينما ينغمس في ظلامه .. حول شبح “المهارة في امتلاك الحياة” بينما يحدّق في انسحابه القهري مجردًا من أشيائها المغوية .. يحرّك بصيرته بين مدارات العوز إلى “الذكاء الشامل” والفناء الكامن في كل متعة تتظاهر بتثبيت الحياة .. التضاد مجددًا لفلسفة شوبنهاور بين الإرادة والتأمل.

استفهام الهوية الشخصية تقويض لها .. ينازع “روستوف” ما يُعتقد أنه يقين التلصص على الحياة والموت .. يصبح تشريح الشر خلخلة لتأكيداته الذهنية .. يصوّر تعبير تولستوي استفهام الهوية من خلال المباشرة اللغوية وغياب الإبهام ليبرهن انفصال “روستوف” عن الدهاء العقلي .. النقاء من الالتباس البلاغي فيما يشبه الفضفضة الصبيانية لترسيخ الانعدام الحاد لأقنعة الطمس والتعمية .. تعبير يجسد مخاتلة الرصانة كشوق مهلك حين يتم تفحص الرصانة ذاتها كشهوة تدميرية مهيمنة عند تحققها أو عند اختفائها (كأن روستوف هو الانتقام الكتابي لتولستوي نفسه .. تدوينته الشبقية الغاضبة في النص الهائل للعالم .. لعنته العصابية المكرّسة لإفساد التناغم).

يقوم هذا التعبير على تحفيز مراوغة الإدراك للتمعن في مساراتها .. كأن المباشرة اللغوية تصديق بدائي بالوعود الماورائية للإرادة، أي إيمان عابر بتعهداتها الإعجازية، مما يجعل “روستوف” في حالة استعداد للوصول إلى توحد أبدي ومتوقع مع خفائها المسيطر .. عندئد تتجلى المجابهة ساطعة مع الإرادة باستغلال تولستوي لـ “عدم التستر” في إفساد التصديق الماورائي .. تصير الضبابية الغائبة تمثيلًا ليأس “روستوف”، كما تتحوّل الفضفضة الصبيانية إلى توسل لا نهائي .. يبعث تولستوي إشارات عسيرة لا عن افتقاد الحنكة، وإنما عن الافتقاد المستقر للتماهي مع المفردات .. المفردات كقتلة متأنقين .. يمكن تخيّل أن الرصانة ومخاتلتها في وعي “روستوف” هما مراوحة مدوِّخة بين التمنع اللغوي “ما توطده المباشرة التعبيرية”، واقتفاء أثر هذا التمنع “ما توطده ملامح المباشرة نفسها” .. كأن تولستوي يبيّن أن الحماية المتعذرة مصدرها اللغة، لذا لن يفضي تأمل الإرادة لامتلاك الحصانة بل سيكون أقرب لمرح تفاوضي متعدد داخل الهزيمة .. أقرب للعب الانتشائي مع الخيبات المتوالية والمتجولة، المفروغ منها في ما قبل الولادة، أي في ما يسبق أبسط تهيئة للإيمان الذاتي باحتمال القبض على معنى .. لا وجود لما لم نغتنمه من الأساس .. لن يُعطّل تأمل الإرادة الوقت أو يصطاد فهمًا مُخلّصًا.

لم يصِغ تولستوي إذن “الحسرة” باعتبارها الهاجس التخريبي لروستوف، وإنما “الفكرة المطلقة للحسرة” كقدر .. كان تولستوي يمثّل بواسطة نيكولاي روستوف بجثث الفرضيات: الجمال، السكينة، السعادة، الإشباع، الألم، المعاناة، الخوف، التيه .. تمظهرات هذه الفرضيات وشبقيتها .. كان يقيم قيامة لمعناها المفتوح على جميع الأصنام.

من كتاب “مراوغة الإدراك في فلسفة شوبنهاور ـ مقاربات نقدية لشكسبير .. تولستوي .. فاغنر” … يُنشر قريبًا.

أراجيك ـ 6 ديسمبر 2021

الأربعاء، 1 ديسمبر 2021

«أحلام اللعنة العائلية» متوالية قصصية لممدوح رزق عن دار عرب

تصدر قريبًا عن دار عرب للنشر والتوزيع، أحدث إبداعات الكاتب ممدوح رزق، المتوالية القصصية “أحلام اللعنة العائلية”، وتضم 60 نصًا قصيرًا كُتبت خلال السنوات الثلاث الماضية، نُشر عدد منها في مجلة "عالم الكتاب" عام 2019.

و"أحلام اللعنة العائلية"، قال ممدوح رزق للدستور: قصص"أحلام اللعنة العائلية" دمج سحري بين الذكريات وأحلامي بها ـ بالمعنى الأشمل للحلم ـ وبالمدينة بوصفها متاهة سرية للأشباح، وذلك كمطاردة تشريحية للجذور الغامضة التي أنتجت تاريخًا ملعونًا.

ومن نصوص المتوالية القصصية "أحلام اللعنة العائلية"نقرأ:"الظلام يطغى تدريجيًا .. أعبر الشارع العريض إلى الجانب الآخر كي أدخل زقاقًا جانبيًا واسعًا، أقرب إلى مدينة مستقلة لن يبدأ سكانها في إضاءة المصابيح مع اقتراب العتمة .. سكانها الذين يعرفون بعضهم جيدًا .. أسير داخل الزقاق متلفتًا حولي .. البيوت ليست مساكن للبشر بل بنايات ذابلة تُضنع داخلها الدُميات الكبيرة .

ينظر الجالسون أمام كل مبنى كأصحاب المصانع إلى وجهى وأنا أخطو بينهم ثم يديرون عيونهم كأنما يتقاسمون الحكاية التي جئت بسببها إلى هنا .. أستطيع أن أرى من أسفل وعبر النوافذ العالية رؤوس الدميات التي تتجهز للخروج إلى الزقاق الموشك على إحكام ظلامه .. أستطيع أن أرى الأيدي التي تحاوطها وتعمل في أجسادها الكبيرة لإنهاء الأمر .. أشعر أنه المكان الذي سيمكنني من تجميع الأشلاء التي وزّعتها خارجه .. لكنني لا أعرف هل ستتحوّل الدميات الكبيرة إلى أشباح مع اكتمال العتمة .. هل غرست الأيدي التي رأيتها عبر النوافذ العالية أرواحًا شريرة داخل أجسادها.

أي كائنات تنتمي إليها تلك الأيدي .. هل هم أنفسهم الجالسين أمام المباني، وقد تركوا كوابيسهم في الأعلى لتجهّز الدميات قبل النزول إلى الزقاق  الواسع .. لدي جروح متلاحمة يدركون تاريخها تمامًا .. يدركون أيضًا أنني أعمى، ولا أريد العودة إلى بيتي .. للدميات الكبيرة وجه واحد يتكرر في جميع النوافذ .. وجه واحد سيحاول أن يفتح فمه بكامل اتساعه ليبتلع الجالسين في الأسفل .. وجه واحد له نفس ملامحي".

يُذكر أن ممدوح رزق، تنقل بين الأجناس الأدبية المتعددة٬ حيث صدرت له العديد من المجموعات القصصية والشعرية والروايات والمسرحيات والكتب النقدية كما كتب سيناريوهات لعدة أفلام قصيرة.

حصل على جوائز عديدة في القصة القصيرة والشعر والنقد الأدبي. ترجمت نصوصه إلى الإنجليزية والفرنسية والإسبانية.

وصدر له: إثر حادث أليم٬ خيال التأويل٬ هل تؤمن بالأشباح؟٬ قراءات في كلاسيكيات القصة القصيرة٬ هفوات صغيرة لمغيّر العالم٬ خيانة الأثر٬ دون أن يصل إلى الأورجازم الأخير٬ بعد صراع طويل مع المرض٬ فأر يحتفل بخطاب الحقيقة٬ الفشل في النوم مع السيدة نون٬ مكان جيد لسلحفاة محنطة، وغيرها.

كما كان ممدوج رزق قد أصدر مؤخرًا كتاب "مكائد القص" والذي يضم مقرر ورشته القصصية.

نضال ممدوح

جريدة "الدستور" ـ 1 ديسمبر 2021