يتلصص ليو تولستوي بعيني “نيكولاي روستوف” في “الحرب والسلام” على “الموت” مستعملًا ما يبدو أنها “الحياة” في حقيقتها الفاتنة والمتمنعة .. يعاين “أصل” الوجود “كوعد إغوائي متنكر” من حافة فقدانه .. كأنه ينسج استفهامًا لهوية شخصية متلاشية عند ما يشبه مفترق طرق رومانسيًا “سرابيًا على وشك التبدد” شكّله الضياع القدري المحتوم .. هذا التأمل لـ “جمال الطبيعة” كغلاف للحياة / عتبة للموت ينطوي على ذلك الاستفهام الأبعد من “الشر” القابض على انشغال باطني متداخل في عمق تلك الورطة المهددة .. انشغال بالنقيض: الذين أوصلتهم الحنكة إلى ما يُعتقد أنه الاستمتاع الخالص بتلك التفاصيل البديعة دون أنين أو عذاب أو خوف .. الذين بلغوا السعادة الصافية “هناك في البعيد” غير المدنسة بالقلق .. الذين جعلهم “الإدراك” يضمنون الحماية .. يتخطى استفهام الهوية سطوة الوجع الخاص .. تولستوي يحرّك بصيرة “نيكولاي روستوف” خارج الموت بينما ينغمس في ظلامه .. حول شبح “المهارة في امتلاك الحياة” بينما يحدّق في انسحابه القهري مجردًا من أشيائها المغوية .. يحرّك بصيرته بين مدارات العوز إلى “الذكاء الشامل” والفناء الكامن في كل متعة تتظاهر بتثبيت الحياة .. التضاد مجددًا لفلسفة شوبنهاور بين الإرادة والتأمل.
استفهام الهوية الشخصية تقويض لها .. ينازع “روستوف” ما يُعتقد أنه يقين التلصص على الحياة والموت .. يصبح تشريح الشر خلخلة لتأكيداته الذهنية .. يصوّر تعبير تولستوي استفهام الهوية من خلال المباشرة اللغوية وغياب الإبهام ليبرهن انفصال “روستوف” عن الدهاء العقلي .. النقاء من الالتباس البلاغي فيما يشبه الفضفضة الصبيانية لترسيخ الانعدام الحاد لأقنعة الطمس والتعمية .. تعبير يجسد مخاتلة الرصانة كشوق مهلك حين يتم تفحص الرصانة ذاتها كشهوة تدميرية مهيمنة عند تحققها أو عند اختفائها (كأن روستوف هو الانتقام الكتابي لتولستوي نفسه .. تدوينته الشبقية الغاضبة في النص الهائل للعالم .. لعنته العصابية المكرّسة لإفساد التناغم).
يقوم هذا التعبير على تحفيز مراوغة الإدراك للتمعن في مساراتها .. كأن المباشرة اللغوية تصديق بدائي بالوعود الماورائية للإرادة، أي إيمان عابر بتعهداتها الإعجازية، مما يجعل “روستوف” في حالة استعداد للوصول إلى توحد أبدي ومتوقع مع خفائها المسيطر .. عندئد تتجلى المجابهة ساطعة مع الإرادة باستغلال تولستوي لـ “عدم التستر” في إفساد التصديق الماورائي .. تصير الضبابية الغائبة تمثيلًا ليأس “روستوف”، كما تتحوّل الفضفضة الصبيانية إلى توسل لا نهائي .. يبعث تولستوي إشارات عسيرة لا عن افتقاد الحنكة، وإنما عن الافتقاد المستقر للتماهي مع المفردات .. المفردات كقتلة متأنقين .. يمكن تخيّل أن الرصانة ومخاتلتها في وعي “روستوف” هما مراوحة مدوِّخة بين التمنع اللغوي “ما توطده المباشرة التعبيرية”، واقتفاء أثر هذا التمنع “ما توطده ملامح المباشرة نفسها” .. كأن تولستوي يبيّن أن الحماية المتعذرة مصدرها اللغة، لذا لن يفضي تأمل الإرادة لامتلاك الحصانة بل سيكون أقرب لمرح تفاوضي متعدد داخل الهزيمة .. أقرب للعب الانتشائي مع الخيبات المتوالية والمتجولة، المفروغ منها في ما قبل الولادة، أي في ما يسبق أبسط تهيئة للإيمان الذاتي باحتمال القبض على معنى .. لا وجود لما لم نغتنمه من الأساس .. لن يُعطّل تأمل الإرادة الوقت أو يصطاد فهمًا مُخلّصًا.
لم يصِغ تولستوي إذن “الحسرة” باعتبارها الهاجس التخريبي لروستوف، وإنما “الفكرة المطلقة للحسرة” كقدر .. كان تولستوي يمثّل بواسطة نيكولاي روستوف بجثث الفرضيات: الجمال، السكينة، السعادة، الإشباع، الألم، المعاناة، الخوف، التيه .. تمظهرات هذه الفرضيات وشبقيتها .. كان يقيم قيامة لمعناها المفتوح على جميع الأصنام.
من كتاب “مراوغة الإدراك في فلسفة شوبنهاور ـ مقاربات نقدية لشكسبير .. تولستوي .. فاغنر” … يُنشر قريبًا.
أراجيك ـ 6 ديسمبر 2021