الاثنين، 31 مايو 2021

الصمت الذاتي واسترداد العزلة: مقاربة في الأحلام

تتسم غالبية أحلامي بثلاث خصائص أساسية .. الأولى هي الصمت الذاتي حيث أنني لا أتكلم في الأحلام، وحتى إذا ما تفوّهت في أحيان نادرة بكلمات ما فإنني لا أبدو كأنما أنطقها بنفسي مثل الآخرين وإنما كأن طيفًا غير مرئي يتحدث بها نيابة عني .. طيف يتلصص على ما يجري داخل الحلم أكثر من كونه منتميًا إلى وقائعه.

الخاصية الثانية هي أنني لا أحلم بأماكن غير معلومة؛ إذ أن جميع الفضاءات المكانية التي تمر بها أحلامي سبق وأن خطوت داخلها أو رأيتها بشكل واقعي من قبل، ولكن تلك الأماكن لا تحضر بنفس ما كانت عليه في اليقظة، وإنما تبدو كأنها توجد في زمن ثابت وهو فترة طفولتي في الثمانينيات حتى لو كنت أحمل عمرًا أكبر داخل الحلم .. مع ذلك فهو ليس الزمن كما كان حقًا وإنما في تجسّده الأكثر نقاءً، أي الطفولية متخلصة من جروحها، مهما كانت تفاصيل الحلم أو طبيعة وجودي ضمن مساراته .. الغموض شفافًا كطيف لحدث بالغ الصفاء وليس الحدث نفسه، وكأن المشهد ليس إلا تمهيدًا لمشهد غائب أو وسيطًا غائمًا بين مشهدين لا يدركان أبدًا أو كأنه انقطاع مستقل أو انتزاع بحدود خاصة عن سر هائل صانعًا لعبته المجهولة التي توحي بذلك السر.

الخاصية الثالثة هي أنني لا أحلم أبدًا بأشخاص ليست لي دراية بهم وإنما كل من يعبر أحلامي سبق وأن عرفته واقعيًا على نحو ما، ولكن هؤلاء الأشخاص يبدون دائمًا كأنما يعيشون ثمانينيتهم الخاصة أو نقاءهم الطفولي الخالص بصرف النظر عن سنوات أعمارهم أو ما يقومون به داخل الحلم، وهذا ما يجعل أحلامي أشبه بذكريات حدثت فعليًا في ماض غير مدرك، وبالتالي فإن النشوة الناجمة عنها لا يمكن تعريفها وفقًا للمعايير المألوفة للبهجة.

يمكنني تفسير الصمت الذاتي بأنه استرداد للعزلة الطفولية .. الانطواء الكامن بين الكلمات التي كنت أتفوّه بها في سنواتي المبكرة .. الانكماش الجسدي المختلس بعيدًا عن حصار الأجسام الثمانينية .. الوحدة غير الناطقة وسط الحضور المتكلم المطبق للآخرين .. ذلك الصمت في الأحلام هو استعادة لتلك العزلة التي تمت إزاحتها بالتدريج لتختفي تمامًا في اللاشعور .. الانطواء المدفون في أكثر أغوار الروح عمقًا وعتمة .. الوحدة التي تجردت النفس منها في غفلة بطيئة، خاطفة، لتستقر داخل غياب محصّن لا يسمح سوى بإشارات واهية لوجودها في لحظات نادرة من النوم .. لذا فالصمت الذاتي ليس عنصرًا من عناصر الحلم وإنما هو خالقه.

العزلة الطفولية التي يمثلها ذلك الصمت تكشف عن نفسها داخل الأماكن القديمة التي كانت تتحرك بينها في الماضي .. يعلن الانطواء عن زمنه (الثمانينيات) الذي ظل حيًا في باطن تلك الأماكن بينما كان يتبدد خارجها لحظة بعد أخرى .. تعيد الوحدة إنتاج أماكنها كما لو أنها قد وصلت بها إلى حافة ما بين الماضي الطفولي وبين وعودها وهي على وشك التحرر من مراوغتها وتمنّعها .. كما لو أن الأماكن نفسها تستعيد ماضيها الأقدم من ذكرياتي أي طفولتها الخاصة .. هذا ما قد يفسر لماذا تظهر تلك الأماكن في أحلامي مشابهة لما تبدو عليه المدينة التي عاشت داخلها ذكريات طفولتي في صورها التاريخية، خاصة تلك التي بالأبيض والأسود .. هذا ما قد يفسر أيضًا لماذا تميل تلك الأماكن في أحلامي لأن تتجلى في حالة أقرب إلى الفراغ كأنها تحمي طفوليتها بالتخلص العفوي من كل ما يُحتمل أن يخدشها بإشارة ما إلى الزمن الراهن.

يتعلق الأمر نفسه بشخصيات الأحلام؛ فالصمت الذاتي يعيدهم إلى ما كانوا عليه في ذهنية الثمانينيات، أي كما في حالتهم الأليفة، المروّضة، الأقرب إلى شخصيات القصص المصوّرة في وعي الانطواء وقتئذ .. كأنما يستردون بالتالي طفولتهم المجهولة ولكن بالكيفية التي تجعلهم في حالة أشبه بالتواطؤ مع طبيعتي في الحلم .. تواطؤ مع الوحدة التي أستعيدها للوصول إلى واقع كان يفترض أن الماضي تمهيدًا له بصورة ما.

هذا لا يعني أن الاحلام وردية بالتعبير التقليدي أو كما تترسخ أنماطها المثالية في المتخيل العام، ولكنها أحلام منتشية بالمعنى المشوّق للانتشاء .. الابتهاج الطفولي بالغموض أو التلذذ بالسحر المُسكر للإبهام .. التوحد بالخفة الفاتنة لاكتشاف خفاء حميمي عبر أرواح اعتيادية .. سكينة منسّمة بعطر الشغف الخام حتى لو لم تتضمن الشروط الروتينية للسعادة .. كأن الماضي يعيد كتابة نفسه بمزاجه العجائبي الرائق بوصفه واقعًا أصليًا كان موعودًا بالإفصاح عن نفسه ولكنه ظل مرجئًا في عتمة ما وراء الذاكرة.

أراجيك ـ 31 مايو 2021

الخميس، 27 مايو 2021

الرواية السرية لأحمد عاكف

 

معالجة مونودرامية من فصل واحد لرواية "خان الخليلي" لنجيب محفوظ

تتركز الإضاءة على درجات سلم كبير في منتصف المسرح يحيط به ظلام حالك .. على الأرض، أمام الدرجة الأولى من السلم؛ قبران متقابلان فوق سجادة منزلية واسعة، بينهما صينية عليها "عدة القهوة"، وبجوار كل قبر فنجان يحوي بقايا البن فوق طبقه الصغير .. الدرجة الأولى تحمل مكتبًا متوسط الحجم، تتبعثر على سطحه كتب وأوراق كثيرة، ورائه كرسي يجلس عليه رجل في منتصف الأربعينيات، يرتدي قميصًا وبنطلونًا تقليديين .. فوق الدرجة الثانية سرير يتمدد عليه جسد رجل مكفّن .. فوق الدرجة الثالثة تظهر السماء في الليل: غيوم رمادية ونجوم متناثرة داخل امتداد من العتمة.

يبدأ الرجل الجالس وراء المكتب في الكتابة بينما يتردد صدى صوته وهو يقرأ ما يكتبه:

"أخي العزيز رشدي .. ها أنا أكتب إليك مجددًا، ولكن هذه المرة ستقرأ الكلمات التي لم أخاطبك بها من قبل .. قد يبدو أنه لا شيء مهم الآن خاصة لو كانت رسالة كهل بائس مثلي إلى أخيه الميت .. مع ذلك فأهمية الشيء ليست هي ما يتطلب حدوثه، وإنما ضرورته، وأعتقد أنك أدركت تمامًا أنه ليس هناك شيء يبرر وصف أمر في الماضي بأنه هام، لكن الأجدر اعتباره لازم الوجود فحسب .. إنه الوقت المناسب لكي أخبرك بما لم تعرفه أبدًا .. هي اللحظة الملائمة لكي أكشف لك عما فعله أخوك في غفلة من الجميع .. أخوك الذي كما تعلم أهدر الخوف والخجل عمره في التلصص على الدنيا عبر صفحات الكتب والشبابيك المواربة والخطوات المنطوية على رعشاتها .. كنت تظن مثل الآخرين أنني لن أكتب أبدًا ذلك الكتاب الذي طالما جعلت نية كتابته هوية وقائية لي .. كنتم تتصورون أنه مجرد قناع كلامي أختبئ وراءه من الحياة التي عجزت عن اقتحامها .. لكن ما حدث أنني كتبت هذا الكتاب فعلًا .. كتبت روايتي السرية يا أخي، ولم يكن من الممكن أن يعرف أحد قبلك بذلك.

تعرف يا رشدي؛ كنت أسترق السمع إلى أبوينا وهما جالسان على أرض حجرة المعيشة وبينهما صينية القهوة وسط متاعنا الخبيث وحقائبنا الخاوية دومًا مهما امتلأت .. في ذلك اليوم أيقنت أن التلصص على أقرب الناس وأكثرهم اعتيادًا بالنسبة لك قد يصيبك بما يفوق لأبعد مدى أثر التلصص على الغرباء .. كان أبواك يتحدثان عن أن المكان الذي أتيا بي إليه قد لا يعجبني .. مجرد كلمات عادية يا أخي ربما يسمعها أي ابن من أبويه دون أن تثير في نفسه شعورًا بغرابة استثنائية .. لكنني أحسست فجأة بغصة مسنونة تشتعل في حلقي وتخنق أنفاسي بينما أنصت إليهما .. غصّة عجيبة، لم أفهم سببها للوهلة الأولى، ولكنني أدركت أنها راجعة إلى أنني على نحو مباغت ومبهم لم أعد أعرف أي مكان يتحدثان عنه .. لم أعد أفهم ما هو ذلك المكان الذي يقصدانه في حوارهما عن عدم إعجابي به .. كنت أتساءل ببكائي المكتوم: هل يتكلمان عن حجرتي أم البيت أم الشارع أم المدينة أم الحياة نفسها .. هل كانا يتكلمان عن جسدي .. لكن ذلك لم يكن الأمر الأكثر غموضًا يا أخي .. لقد كنت أسترق السمع إلى أبويك وأنا واقف أمامهما، ومع ذلك كانا يتحدثان كأنني غير مرئي .. كأنني غائب عنهما في تلك اللحظة .. أنا كذلك لم يكن لدي شعور من يبصر أشخاصًا يجلسون أمامه بوضوح تام ولا تفصله عنهم إلا خطوات قليلة .. كنت أشعر بأنني أتلصص على أبوينا من وراء جدار غير ظاهر بالرغم من تجاورنا داخل مساحة ضئيلة لا يفرق بيننا داخلها أي حاجز .. في تلك اللحظة خُلقت الرواية داخلي .. في تلك اللحظة تُخلق جميع الروايات داخل كتّابها يا أخي .. حينما تتأكد من أن المأساة مهما كانت لا تكمن في تفاصيلها، وإنما في أن أي وصف لها لن يخطو على الإطلاق أبعد مما يمكن أن تصل إليه تلك الكلمات: إن المكان الذي أتى بك أبواك إليه قد لا يعجبك.

أتعرف يا رشدي لماذا لم يكن من الممكن أن يعرف أحد قبلك بروايتي السرية .. لأنك أنت روايتي السرية يا أخي .. كل ما حدث بعد تلك اللحظة التي أنصت فيها إلى أبوينا أنا الذي صنعته .. كل ما جرى لك لم يكن إلا تجسيدًا لما كتبته في أوراقي المخبوءة عن عيونكم .. أنا الذي جعلت الحب يستهدف قلبيكما أنت ونوال .. نوال التي لم تكن لي أبدًا حتى لو لم توجد أنت .. أنا الذي شكّلت إيقاع خطواتكما في طريق المقابر، وجعلتكما تحفران بالزهور قبرًا لأحلامكما بينها .. أنا الذي قتلت الحياة التي لم أستطع امتلاك لذتها بسعالك الدامي، بمرضك القاهر، باحتضارك المتبلد .. خدعتكم يا رشدي، وانتقمت من عالمك الجامح بموتك المحتوم .. الموت الذي طالما لم يكن ممكنًا أن أنقذك منه؛ كان عليّ أن أكتبه بيدي من قبل أن يحدث، بل وأن أحوّل نوال بكل رومانسيتها الفاتنة إلى ملاك ذلك الموت .. جعلت الحب والموت شيئًا واحدًا .. جعلتك ترى جنازتك في وجوه الملتفين حول سرير مرضك، كأن كلًا منهم كان مكتمل الحياة حقًا، ولا يُخفي احتضارًا مشابهًا لذلك اليأس الذي ظل يمحو الوعود تدريجيًا من روحك بعفوية صلبة، لا تخضع لتفاوض أو تفسير .. استعملت هلاكك المضمون في محاولة إنقاذ نفسي يا أخي .. كانت روايتي السرية حيلة متوارية لرد المرح إلى الدنيا التي أبقتني خارجها .. كانت أيضًا طريقتي الوحيدة في إنقاذك من الفناء يا رشدي .. في إنقاذ أبوينا من المصير ذاته .. كأنها دوي مشترك لأصواتنا أطلقته في صمت من ظلام حجرتي كي يبقى عالقًا في الفراغ السماوي مراقبًا تبدده المتواصل مثلما تتأمل الحروب الشكلية التي لا تنتهي الضياع المستمر لأصواتها .. أدركت نشوة أن يوقن الناس بعجزك عن فعل أمر ما بينما تؤديه في الخفاء متتبعًا آثاره التي يحفرها في وجه العالم عبر الملامح الساهية لكائناته .. أرأيت يا نقيضي الذي كان منذورًا للموت المبكر ما الذي يمكن أن يفعله الحكيم بالمجنون .. الحكيم الذي كان يهرب من الموت في المخابئ العارية، والمجنون الذي كان يطارد الموت في أجساد النساء، وكؤوس الخمر، وأوراق اللعب .. كان الأسهل والأفضل لنا أن نحب الموت يا أخي بدلًا من أن ندفع ذلك الثمن في محبة الحياة .. كانت روايتي السرية أشبه برحلة صعود نحو ما قبل موت والديك، وما بعد موتك .. نحو ما قبل وما بعد كل شيء .. كانت محاولة لكي لا تنتهي جنازتي داخل قبر .. هل تعرف يا رشدي ما الذي قادتني إليه الرواية في رحلة الصعود تلك إلى ما بعد موتك...".

ينهض الرجل من فوق كرسيه بينما يستمر صدى العبارة الأخيرة في التردد كما لو أن الصوت يغيب تدريجيًا بارتجاف متزايد: "هل تعرف يا رشدي ما الذي قادتني إليه الرواية في رحلة الصعود تلك إلى ما بعد موتك" .. يتحرك نحو الدرجة الأعلى حيث السرير الذي يتمدد فوقه جسد رجل مكفّن ثم يواصل الصعود إلى الدرجة الثالثة وما أن يبلغها حتى تختفي السماء في الليل بغيومها الرمادية والنجوم المتناثرة داخل امتداد من العتمة ويحل بدلًا منها مكتب آخر مطابق لذلك الذي تحمله الدرجة الأولى، عليه كتب كثيرة أيضًا وأوراق مبعثرة، وورائه كرسي فارغ .. يتأمل الرجل ذلك المكتب قليلًا ثم يتحرك ليجلس على الكرسي ويبدأ في الكتابة ثانية بينما تظهر فوقه درجة أخرى للسلم تُظهر من جديد السماء في الليل: غيوم رمادية ونجوم متناثرة داخل امتداد من العتمة مع الغياب التام لصدى صوته.

(ظلام)

ممدوح رزق: مجموعة «كتمثال يحدّق في حائط» تتأمل أحلام الذاكرة

قال الشاعر ممدوح رزق، إن دار عرب للنشر والتوزيع، ستصدر له قريبا المجموعة الشعرية "كتمثال يحدّق في حائط" والتي  تضم 17 قصيدة نشرت في مطبوعات ثقافية مختلفة.  

وأضاف في تصريحاته لـ«الدستور»: « تتأمل نصوص المجموعة أحلام الذاكرة وخيالاتها بعين الموت، كخالق يكمن في براءتها البدائية.. تتحول اللغة إلى اكتشاف للمحو في مقابل الصمت المستقر وراء أطيافها المخادعة».

وتابع : «ثمة لعب  بتحولات العمى الناجمة عن هذا التقويض اللغوي لحواس الماضي، مقتفيا أثر التجرد من الوعود والغايات، كأنما يشكل عمرا كابوسيا للجمود الذاتي، يتتبع من خلاله أثر البلادة الغيبية بوصفها حصارا أزليا صلبا من الشرور الغامضة».

ويختم رزق  كل لحظة في المجموعة هي مصير من هلاك ماكر ومختلف حيث لا تتعاقب اللحظات وإنما تتزامن بين الجسد المحدق في غيابه، والعالم كأنقاض لم تتكون لذلك الجسد، تعكس ظلاله العدمية المنطوية على نفسها.

 

من نصوص المجموعة الجديدة:

"شرفات الذاكرة"

أثناء المطر الليلي

شرفات بعيدة تُضاء

ليس بفعل أحد

النور الأصفر القديم

ينبعث من تلقاء نفسه

لعيني العجوز فقط

الذي يقف في الجهة الأخرى

داخل شرفته التي لا تُضاء على الإطلاق.

نور أصفر قديم

يعذّب عيني العجوز

الذي يتذكر الآن

أنه لم يستمتع بشيء خارج طفولته

لم يستمتع بشيء أبدًا

ولو مجرد الجلوس داخل شرفة

يضيئها ذلك النور الأصفر القديم.

الشرفات البعيدة

لم ترغب في هذا الليل

سوى أن تخبر العجوز

أنها مثل عينيه

تحدّق هناك بحكم العادة

لكنها لا تستطيع رؤية المطر.

يذكر ان  ممدوح  رزق كاتب وناقد مصري. ،حصل على المركز الأول لجائزة ملتقى مدد في الشعر 2007، وترجمت قصائده إلى الإنجليزية والفرنسية، كما أصدر مجموعة شعرية بعنوان "بعد صراع طويل مع المرض" 2015.صدرت له العديد من المجموعات القصصية والشعرية والروايات والمسرحيات والكتب النقدية كما كتب سيناريوهات لعدة أفلام قصيرة. حصل على جوائز عديدة في القصة القصيرة والشعر والنقد الأدبي. صدر له: كتب: ـ مطاردة الغياب / قراءات نقدية ـ دار ميتا للنشر والتوزيع 2021 ـ مقتل نجمك المفضّل / نوڨيلا ـ دار عرب للنشر والتوزيع 2021 ـ ولقلبي سواده الفاتن / قصص قصيرة ـ مؤسسة أبجد للترجمة والنشر والتوزيع بالعراق 2021 ـ نقد استجابة القارئ العربي / مقدمة في جينالوجيا التأويل ـ دار ميتا للنشر والتوزيع 2019 ـ المطر في كارمينا بورانا / قصص قصيرة ـ دار ميتا للنشر والتوزيع 2019 ـ تشارلز بوكوفسكي .. ما وراء اللعنة.

خالد حماد

جريدة "الدستور" ـ 24 مايو 2021

الثلاثاء، 18 مايو 2021

سيرة الاختباء (26)

من التجليات الوضيعة للسلطة الثقافية المركزية أن يشير إليك أحد كتّاب أو نقاد أو "مثقفي" العاصمة بأنك "واحد من أدباء مدينتك" .. يختصر وجودك في تلك الهوية المختلقة عن وعي أو جهل بمدلولها المجحف والمخادع .. هو لا يحاول فقط طمس تميزك أو محو اختلافك أو إبطال تفرّدك الذي كرّس لسنوات ضوئية بينك وبين "أدباء مدينتك"، وإنما يحاول أيضًا التعتيم على المكانة التي حققتها بالرغم من بقائك خارج المركز .. أحيانًا تكون هذه الإشارة سعيًا للتغلّب على وجع لا يُحتمل.

حتمًا لن تستطيع أن تمنع ذلك الهراء الغافل أو الحاقد من التدفق حيث يتحتم على كائن العاصمة المشكّل من خراء الأكاذيب والأوهام أن يستغل إقامتك في مدينة "إقليمية"، وأن ينتهز محاولاتك لاكتشاف ما يُسمى بـ "الصداقة بين الكتّاب" في البقعة الجغرافية التي تسكنها، وأن يستثمر مشاركاتك ـ التنقيبية ـ في الندوات والنقاشات والفعاليات الأدبية لاختزالك قسرًا كفرد من هؤلاء الذين تظهر بينهم مبتسمًا في الصور الاحتفائية والتوثيقية .. لجعل منزلتك ـ مهما استمر الواقع في إثبات العكس ـ محكومة بحدود ذلك المكان "الهامشي"، البعيد عن "المدينة الأم" التي ـ بحسب التعريص العام ـ لا تُخلق المنزلة الحقيقية إلا داخلها.

تتخذ المهزلة الفجة بُعدًا أكثر سخافة وإضحاكًا حينما يعتبرك "أدباء مدينتك" مركزيًا وفقًا للمكانة نفسها التي يحاول كتّاب العاصمة التعتيم عليها حمقًا أو قصدًا .. يعتبرونك كذلك بالرغم من يقينهم بأنك لا تغادر حتى منزلك في تلك المدينة "الإقليمية" التي يعيشون فيها .. لكنهم يتماثلون مع أبناء المركز في ذلك الاعتقاد الملفّق بأن التميز الفعلي لا يتحقق إلا إذا تحوّلت إلى مواطن قاهري بشكل أو بآخر، أما إذا أدركت منزلة كهذه دون ذلك التحوّل؛ فإنك تستحق أن تُنسب إلى العاصمة لا أن تبقى منفصلًا عن ألقها.

ثمة فرق ساطع بين الإشارة إلى الكاتب القاهري الذي يستعمل أدوات السلطة الثقافية المركزية عند مقاربته "للواقع الأدبي والنقدي" المصري والعربي مثلًا، بوصفه واحدًا من الجماعة الأدبية المداومة على ذلك النوع من الاستعمال اللغوي، وبين الإشارة على جانب آخر إلى كاتب ما، تتحدد كتابته باستسهال بليد في كونها ناجمة عن "حراك أدبي" داخل مدينته، وليس بوصفها كتابة لا يمكن أن يرتقي إليها أي سياق أو "نشاط ثقافي".      

يبدو الأمر أشبه بحكمة مريرة: إذا كان لزامًا عليك ـ لأسباب قهرية عديدة ـ أن تغادر عزلتك، وممارسة هذا اللعب التأملي مع البشر والنصوص فإن هناك ثمنًا لابد أن تدفعه .. أن تنتمي شكليًا رغمًا عنك لأولئك الذين تلعب بحيواتهم .. أن يُنظر لكتاباتك أحيانًا بوصفها جزءً من النطاق الذهني الذي يشمل كتاباتهم .. لن تستطيع أن تمنع هذا الزيف، لكن بمقدورك أن تفضحه وتسخر منه، وتذكّر كل من يصدّقه أو يدّعي صوابه متعمّدًا بأنك تراه جيدًا كثقب في رأسه.

الأربعاء، 12 مايو 2021

الأبوة الصالحة

هو محبة! .. حسنًا، طالما لن تتمكن من قتله، فلتواصل محاولاتك لقتل المحبة .. تبصر شيطانًا صغيرًا، أرسله أبواه للعب، يتراقص متباهيًا في جسد طفلتك، ببنما تتقدم نحوك لتحتضنك وتخبرك أنها تحبك جدًا .. بكل الدموع التي خبأتها في قلبك طوال حياتك، بشهوتك الجارفة لدخول السماء من الخلف، وبيديك التي قطعتهما ملائكة الماضي حين مددتهما طالبًا منها أن تعطيك السر؛ تحتضن طفلتك وتخبرها بأنك تحبها جدًا أيضًا .. لكنك تقولها بنبرة دعابة خبيرة، لا تدفع طفلتك للشك في صدقها، وفي الوقت نفسه تبصق بها داخل القبر الذي ينفتح في تلك اللحظة تحت قدميك قبل أن تسقط داخله كأعمى يعرف طريقه جيدًا .. ستعرف طفلتك ذات يوم أنك استعملتها لإثبات أنه ما عاد شيء ينطلي عليك .. أن ما لم تخلقه ذاكرتك عدم .. ستعرف أنك استعملتها لإثبات مهارتك في إحراق المشاهد الرومانسية فور تكوينها، مثلما يحرق الغيب أرواح العالم بمجرد أن يتخيلها.

أنا ملعون بعجزي عن الكذب على نفسي .. ليست لدي القدرة على توهم مفترق طرق، أو مساحات بديلة، أو عمر محتمل للأمنيات .. بقائي حيًا عقاب متجدد .. ما أصدقه مضطرًا فقط أن الجنون أكثر رحمة من الموت .. أنا أكبر تهديد لنفسي، وذلك سر افتتاني بذاتي.

لكي تكون أبًا صالحًا؛ عليك أن تهدم الفردوس والجحيم من قبل أن تتخيّل طفلتك نفسها عند عتبة أي منهما .. لكنك حين تفعل فكأنك تقدمها قربانًا أكثر إمتاعًا للألوهة التي أردت أن تنقذها من أوهامها .. لن تكون طفلتك مجرد كأس دماء أخرى يرتشفها ببطء حفار القبور المختبئ فحسب، بل ستكون دماءً مُحلاة بالعدم أيضًا.

هو محبة! .. حسنًا، طالما لن تتمكن من قتله فلتواصل محاولاتك الفاشلة للكذب على نفسك .. فلتكن أبًا صالحًا يحفر قبر ابنته بلغة ليست سوى خليطًا من دماء المحبين عوضًا عن دماء الألوهة التي لا تريد سوى أن ترتشف ولو قطرة واحدة منها .. قطرة واحدة فقط وإن كان ذلك في لحظتك الأخيرة.

 أنطولوجيا السرد العربي ـ 9 مايو 2021

اللوحة لـ Edvard Munch

الخميس، 6 مايو 2021

الروائي الاستثنائي وشجاعة الكتابة

يعتقد بعض الكتّاب أن تناول الروائي لشخصيات مختلفة عنه هو أمر أكثر مشقة وأقوى تأثيرًا من الكتابة عن شخصيات تشبهه .. بصرف النظر عن أن "المشابهة" و"الاختلاف" بين الكاتب وشخصياته لا يخضعان أبدًا للحسم أو الاستقرار وإنما يتم اكتشافهما ورصد تحولاتهما المراوغة طوال حياة الكتابة سواء في وعي الروائي أو بالنسبة لقارئه، وبصرف النظر أيضًا عن "التأثير" باعتباره نسبيًا، تتغيّر ملامحه عبر الزمن سواء على مستوى القارئ نفسه أو من قارئ لآخر، أو من جماعة قرائية لأخرى؛ بصرف النظر عن ذلك فإن بإمكاني القول أن أسهل ما يمكن على الروائي أن يفعله هو تناول شخصيات "مختلفة" عنه .. أن يحدد في لحظة معينة قائمة من اليقينيات والخصائص التي يعتقد أنها تكوّن شخصيته ثم يحدد في المقابل ما يناقضها من يقينيات وخصائص أخرى ليخلق من خلالها شخصيته الروائية وينسج بشكل منظّم حياة كاملة لها .. يمكنه أن يختار ببساطة من الواقع شخصية جاهزة يحكم بضديتها له، ومن ثمّ يمرر نفسه داخل عالمها عبر ظواهرها المعلنة؛ يفكر بطريقتها ويشعر باستجاباتها ويرسم لخطواتها مسارات سردية قائمة على تلك المعطيات الواضحة .. بإمكاني القول أن أقل كتّاب الدراما كفاءة من اليسير عليهم فعل ذلك .. يمكن لأي منهم أن يستبطن تحت أي مستوى شخصية مغايرة له، وأن يراجع مسودته جيدًا بحثًا عما يمكن أن يعتبره فضحًا لصوته الخاص أو انفلاتًا لحكمه الشخصي المعارض لتلك الشخصية الروائية حتى يعيده إلى الخفاء .. نصائح وإرشادات الكتابة في كل مكان توصيك بهذا النوع من الانتباه، وتعيّن لك طرقًا عديدة قد تساعدك على معالجة الأمر.

لكن الأصعب حقًا هو أن تكتب ما تعلم جيدًا أنه أنت وتخشى أن يعرفه الآخرون .. أسرارك التي تدرك أن كشفها قد يحوّل أقرب البشر منك إلى أعداء .. أن تكتب ما قد يُعرّض حياتك كلها للتهديد .. الأصعب حقًا ألا تختبئ في شخصية روائية متخيلة وأنت تفعل ذلك وإنما أن تتعمّد ترك الدلائل اللازمة داخل النص التي تؤكد على أن الكاتب والسارد شخص واحد .. أن تكون أنت النص الذي تكتبه دون مواراة أي مُجسّدًا تلك العتمة الكامنة في داخلك مثلما لا يراها غيرك، والتي تعرف أن صورتك في الخارج لن تبقى بعد الإفصاح عنها كما هي .. المتمرسون في الكتابة يدركون بالطبع الفرق البديهي بين انحياز جمالي كهذا على مستوى المضمون، وبين المباشرة والتقريرية كأسلوب لمعالجته .. تتطلب هذه الكتابة خاصة في المجتمع العربي الإسلامي البوليسي شجاعة لا يقوى عليها إلا كاتبًا استثنائيًا، بالرغم من أنه حين يفعل ذلك لا يفكر في كونه شجاعًا بقدر ما يشعر بأنه يؤدي فقط ما يجب عليه فعله، وأنه لا ينبغي أن يمنعه أي شيء من تنفيذه.

قد يحتاج المهادنون دائمًا إلى التنظير لمقارنات أليفة، يحاولون من خلالها إثبات أن المسالمة التي تحكم كتاباتهم هي "الأصعب والأعمق تأثيرًا" .. ليس تغافلًا عن النصوص الانتهاكية بحق التي لا يقدرون حتى على مجرد التفكير في كتابة ما يماثلها، وإنما محاولة بائسة لتعويض هذا العجز؛ فإذا كنت لا تستطيع أن تقوم بشيء ما فليس عليك ببساطة سوى أن تكرّس لضعفك بوصفه بطولة .. كان يمكن لأي منهم أن يكون كاتبًا مهادنًا فقط، ولكنه اختار بمثل تلك التنظيرات أن يكون مهادنًا وبائسًا أيضًا.

موقع "الكتابة" ـ 6 مايو 2021

 

السبت، 1 مايو 2021

كيف تختفين / راي أرمانتروت ـ ترجمة: ممدوح رزق


 (1)

كنتِ ممسوسة بالتأرجح

بين العفوية

ومظهر التفكير الجاد.

كنتِ تغيّرين مساراتك

بعد نظرة خاطفة

في المرآة التي تميل بصدق

إلى تشويهِك.

ما الذي تملكينه الآن؟

ربما يكون مُريًحا

أن تراقبي خصلات الدخان

من مدخنة قريبة

تختفي

واحدة تلو الأخرى.

(2)

هل تحبين النبضات الخافتة

الحواف، والموجات الصغيرة

تمتد نحو العتمة؟

هل تفضلين الوميض

عن الضوء الثابت؟

ثمة كائن يتلعثم قليلًا

متردد

كما لو كان قادرًا

أن يُبقي على شيء ما

في سرِّه.