الخميس، 27 مايو 2021

الرواية السرية لأحمد عاكف

 

معالجة مونودرامية من فصل واحد لرواية "خان الخليلي" لنجيب محفوظ

تتركز الإضاءة على درجات سلم كبير في منتصف المسرح يحيط به ظلام حالك .. على الأرض، أمام الدرجة الأولى من السلم؛ قبران متقابلان فوق سجادة منزلية واسعة، بينهما صينية عليها "عدة القهوة"، وبجوار كل قبر فنجان يحوي بقايا البن فوق طبقه الصغير .. الدرجة الأولى تحمل مكتبًا متوسط الحجم، تتبعثر على سطحه كتب وأوراق كثيرة، ورائه كرسي يجلس عليه رجل في منتصف الأربعينيات، يرتدي قميصًا وبنطلونًا تقليديين .. فوق الدرجة الثانية سرير يتمدد عليه جسد رجل مكفّن .. فوق الدرجة الثالثة تظهر السماء في الليل: غيوم رمادية ونجوم متناثرة داخل امتداد من العتمة.

يبدأ الرجل الجالس وراء المكتب في الكتابة بينما يتردد صدى صوته وهو يقرأ ما يكتبه:

"أخي العزيز رشدي .. ها أنا أكتب إليك مجددًا، ولكن هذه المرة ستقرأ الكلمات التي لم أخاطبك بها من قبل .. قد يبدو أنه لا شيء مهم الآن خاصة لو كانت رسالة كهل بائس مثلي إلى أخيه الميت .. مع ذلك فأهمية الشيء ليست هي ما يتطلب حدوثه، وإنما ضرورته، وأعتقد أنك أدركت تمامًا أنه ليس هناك شيء يبرر وصف أمر في الماضي بأنه هام، لكن الأجدر اعتباره لازم الوجود فحسب .. إنه الوقت المناسب لكي أخبرك بما لم تعرفه أبدًا .. هي اللحظة الملائمة لكي أكشف لك عما فعله أخوك في غفلة من الجميع .. أخوك الذي كما تعلم أهدر الخوف والخجل عمره في التلصص على الدنيا عبر صفحات الكتب والشبابيك المواربة والخطوات المنطوية على رعشاتها .. كنت تظن مثل الآخرين أنني لن أكتب أبدًا ذلك الكتاب الذي طالما جعلت نية كتابته هوية وقائية لي .. كنتم تتصورون أنه مجرد قناع كلامي أختبئ وراءه من الحياة التي عجزت عن اقتحامها .. لكن ما حدث أنني كتبت هذا الكتاب فعلًا .. كتبت روايتي السرية يا أخي، ولم يكن من الممكن أن يعرف أحد قبلك بذلك.

تعرف يا رشدي؛ كنت أسترق السمع إلى أبوينا وهما جالسان على أرض حجرة المعيشة وبينهما صينية القهوة وسط متاعنا الخبيث وحقائبنا الخاوية دومًا مهما امتلأت .. في ذلك اليوم أيقنت أن التلصص على أقرب الناس وأكثرهم اعتيادًا بالنسبة لك قد يصيبك بما يفوق لأبعد مدى أثر التلصص على الغرباء .. كان أبواك يتحدثان عن أن المكان الذي أتيا بي إليه قد لا يعجبني .. مجرد كلمات عادية يا أخي ربما يسمعها أي ابن من أبويه دون أن تثير في نفسه شعورًا بغرابة استثنائية .. لكنني أحسست فجأة بغصة مسنونة تشتعل في حلقي وتخنق أنفاسي بينما أنصت إليهما .. غصّة عجيبة، لم أفهم سببها للوهلة الأولى، ولكنني أدركت أنها راجعة إلى أنني على نحو مباغت ومبهم لم أعد أعرف أي مكان يتحدثان عنه .. لم أعد أفهم ما هو ذلك المكان الذي يقصدانه في حوارهما عن عدم إعجابي به .. كنت أتساءل ببكائي المكتوم: هل يتكلمان عن حجرتي أم البيت أم الشارع أم المدينة أم الحياة نفسها .. هل كانا يتكلمان عن جسدي .. لكن ذلك لم يكن الأمر الأكثر غموضًا يا أخي .. لقد كنت أسترق السمع إلى أبويك وأنا واقف أمامهما، ومع ذلك كانا يتحدثان كأنني غير مرئي .. كأنني غائب عنهما في تلك اللحظة .. أنا كذلك لم يكن لدي شعور من يبصر أشخاصًا يجلسون أمامه بوضوح تام ولا تفصله عنهم إلا خطوات قليلة .. كنت أشعر بأنني أتلصص على أبوينا من وراء جدار غير ظاهر بالرغم من تجاورنا داخل مساحة ضئيلة لا يفرق بيننا داخلها أي حاجز .. في تلك اللحظة خُلقت الرواية داخلي .. في تلك اللحظة تُخلق جميع الروايات داخل كتّابها يا أخي .. حينما تتأكد من أن المأساة مهما كانت لا تكمن في تفاصيلها، وإنما في أن أي وصف لها لن يخطو على الإطلاق أبعد مما يمكن أن تصل إليه تلك الكلمات: إن المكان الذي أتى بك أبواك إليه قد لا يعجبك.

أتعرف يا رشدي لماذا لم يكن من الممكن أن يعرف أحد قبلك بروايتي السرية .. لأنك أنت روايتي السرية يا أخي .. كل ما حدث بعد تلك اللحظة التي أنصت فيها إلى أبوينا أنا الذي صنعته .. كل ما جرى لك لم يكن إلا تجسيدًا لما كتبته في أوراقي المخبوءة عن عيونكم .. أنا الذي جعلت الحب يستهدف قلبيكما أنت ونوال .. نوال التي لم تكن لي أبدًا حتى لو لم توجد أنت .. أنا الذي شكّلت إيقاع خطواتكما في طريق المقابر، وجعلتكما تحفران بالزهور قبرًا لأحلامكما بينها .. أنا الذي قتلت الحياة التي لم أستطع امتلاك لذتها بسعالك الدامي، بمرضك القاهر، باحتضارك المتبلد .. خدعتكم يا رشدي، وانتقمت من عالمك الجامح بموتك المحتوم .. الموت الذي طالما لم يكن ممكنًا أن أنقذك منه؛ كان عليّ أن أكتبه بيدي من قبل أن يحدث، بل وأن أحوّل نوال بكل رومانسيتها الفاتنة إلى ملاك ذلك الموت .. جعلت الحب والموت شيئًا واحدًا .. جعلتك ترى جنازتك في وجوه الملتفين حول سرير مرضك، كأن كلًا منهم كان مكتمل الحياة حقًا، ولا يُخفي احتضارًا مشابهًا لذلك اليأس الذي ظل يمحو الوعود تدريجيًا من روحك بعفوية صلبة، لا تخضع لتفاوض أو تفسير .. استعملت هلاكك المضمون في محاولة إنقاذ نفسي يا أخي .. كانت روايتي السرية حيلة متوارية لرد المرح إلى الدنيا التي أبقتني خارجها .. كانت أيضًا طريقتي الوحيدة في إنقاذك من الفناء يا رشدي .. في إنقاذ أبوينا من المصير ذاته .. كأنها دوي مشترك لأصواتنا أطلقته في صمت من ظلام حجرتي كي يبقى عالقًا في الفراغ السماوي مراقبًا تبدده المتواصل مثلما تتأمل الحروب الشكلية التي لا تنتهي الضياع المستمر لأصواتها .. أدركت نشوة أن يوقن الناس بعجزك عن فعل أمر ما بينما تؤديه في الخفاء متتبعًا آثاره التي يحفرها في وجه العالم عبر الملامح الساهية لكائناته .. أرأيت يا نقيضي الذي كان منذورًا للموت المبكر ما الذي يمكن أن يفعله الحكيم بالمجنون .. الحكيم الذي كان يهرب من الموت في المخابئ العارية، والمجنون الذي كان يطارد الموت في أجساد النساء، وكؤوس الخمر، وأوراق اللعب .. كان الأسهل والأفضل لنا أن نحب الموت يا أخي بدلًا من أن ندفع ذلك الثمن في محبة الحياة .. كانت روايتي السرية أشبه برحلة صعود نحو ما قبل موت والديك، وما بعد موتك .. نحو ما قبل وما بعد كل شيء .. كانت محاولة لكي لا تنتهي جنازتي داخل قبر .. هل تعرف يا رشدي ما الذي قادتني إليه الرواية في رحلة الصعود تلك إلى ما بعد موتك...".

ينهض الرجل من فوق كرسيه بينما يستمر صدى العبارة الأخيرة في التردد كما لو أن الصوت يغيب تدريجيًا بارتجاف متزايد: "هل تعرف يا رشدي ما الذي قادتني إليه الرواية في رحلة الصعود تلك إلى ما بعد موتك" .. يتحرك نحو الدرجة الأعلى حيث السرير الذي يتمدد فوقه جسد رجل مكفّن ثم يواصل الصعود إلى الدرجة الثالثة وما أن يبلغها حتى تختفي السماء في الليل بغيومها الرمادية والنجوم المتناثرة داخل امتداد من العتمة ويحل بدلًا منها مكتب آخر مطابق لذلك الذي تحمله الدرجة الأولى، عليه كتب كثيرة أيضًا وأوراق مبعثرة، وورائه كرسي فارغ .. يتأمل الرجل ذلك المكتب قليلًا ثم يتحرك ليجلس على الكرسي ويبدأ في الكتابة ثانية بينما تظهر فوقه درجة أخرى للسلم تُظهر من جديد السماء في الليل: غيوم رمادية ونجوم متناثرة داخل امتداد من العتمة مع الغياب التام لصدى صوته.

(ظلام)