الثلاثاء، 18 مايو 2021

سيرة الاختباء (26)

من التجليات الوضيعة للسلطة الثقافية المركزية أن يشير إليك أحد كتّاب أو نقاد أو "مثقفي" العاصمة بأنك "واحد من أدباء مدينتك" .. يختصر وجودك في تلك الهوية المختلقة عن وعي أو جهل بمدلولها المجحف والمخادع .. هو لا يحاول فقط طمس تميزك أو محو اختلافك أو إبطال تفرّدك الذي كرّس لسنوات ضوئية بينك وبين "أدباء مدينتك"، وإنما يحاول أيضًا التعتيم على المكانة التي حققتها بالرغم من بقائك خارج المركز .. أحيانًا تكون هذه الإشارة سعيًا للتغلّب على وجع لا يُحتمل.

حتمًا لن تستطيع أن تمنع ذلك الهراء الغافل أو الحاقد من التدفق حيث يتحتم على كائن العاصمة المشكّل من خراء الأكاذيب والأوهام أن يستغل إقامتك في مدينة "إقليمية"، وأن ينتهز محاولاتك لاكتشاف ما يُسمى بـ "الصداقة بين الكتّاب" في البقعة الجغرافية التي تسكنها، وأن يستثمر مشاركاتك ـ التنقيبية ـ في الندوات والنقاشات والفعاليات الأدبية لاختزالك قسرًا كفرد من هؤلاء الذين تظهر بينهم مبتسمًا في الصور الاحتفائية والتوثيقية .. لجعل منزلتك ـ مهما استمر الواقع في إثبات العكس ـ محكومة بحدود ذلك المكان "الهامشي"، البعيد عن "المدينة الأم" التي ـ بحسب التعريص العام ـ لا تُخلق المنزلة الحقيقية إلا داخلها.

تتخذ المهزلة الفجة بُعدًا أكثر سخافة وإضحاكًا حينما يعتبرك "أدباء مدينتك" مركزيًا وفقًا للمكانة نفسها التي يحاول كتّاب العاصمة التعتيم عليها حمقًا أو قصدًا .. يعتبرونك كذلك بالرغم من يقينهم بأنك لا تغادر حتى منزلك في تلك المدينة "الإقليمية" التي يعيشون فيها .. لكنهم يتماثلون مع أبناء المركز في ذلك الاعتقاد الملفّق بأن التميز الفعلي لا يتحقق إلا إذا تحوّلت إلى مواطن قاهري بشكل أو بآخر، أما إذا أدركت منزلة كهذه دون ذلك التحوّل؛ فإنك تستحق أن تُنسب إلى العاصمة لا أن تبقى منفصلًا عن ألقها.

ثمة فرق ساطع بين الإشارة إلى الكاتب القاهري الذي يستعمل أدوات السلطة الثقافية المركزية عند مقاربته "للواقع الأدبي والنقدي" المصري والعربي مثلًا، بوصفه واحدًا من الجماعة الأدبية المداومة على ذلك النوع من الاستعمال اللغوي، وبين الإشارة على جانب آخر إلى كاتب ما، تتحدد كتابته باستسهال بليد في كونها ناجمة عن "حراك أدبي" داخل مدينته، وليس بوصفها كتابة لا يمكن أن يرتقي إليها أي سياق أو "نشاط ثقافي".      

يبدو الأمر أشبه بحكمة مريرة: إذا كان لزامًا عليك ـ لأسباب قهرية عديدة ـ أن تغادر عزلتك، وممارسة هذا اللعب التأملي مع البشر والنصوص فإن هناك ثمنًا لابد أن تدفعه .. أن تنتمي شكليًا رغمًا عنك لأولئك الذين تلعب بحيواتهم .. أن يُنظر لكتاباتك أحيانًا بوصفها جزءً من النطاق الذهني الذي يشمل كتاباتهم .. لن تستطيع أن تمنع هذا الزيف، لكن بمقدورك أن تفضحه وتسخر منه، وتذكّر كل من يصدّقه أو يدّعي صوابه متعمّدًا بأنك تراه جيدًا كثقب في رأسه.