الاثنين، 9 سبتمبر 2019

عن قصة ممدوح رزق: "مكان في الزمن" جديد المخرج نواف الجناحي


أطلق المخرج الإماراتي نواف الجناحي دعاية لفيلمه الروائي القصير "مكان في الزمن"، والذي انتهى من تصويره مؤخرًا في البحرين، عن قصة للكاتب ممدوح رزق، وينتظر عرضه قبل نهاية العام الحالي. يُعد نواف الجناحي من أبرز المخرجين على الساحة الإماراتية والعربية، كما شارك كمحكّم رئيسي في العديد من المهرجانات السينمائية العربية والعالمية.
يُذكر أن ممدوح رزق قد كتب سيناريو الفيلم الروائي القصير "من أجندة الخيانة" بالاشتراك مع المخرجة الإماراتية منال بن عمرو، وتم إنتاجه عن مجموعة دبي للأفلام عام 2008 وشارك بمهرجان الخليج السينمائي في نفس العام، كما كتب قصة وسيناريو الفيلم الروائي القصير "إخفاء العالم"، وأخرجه محمد صبري، بالتعاون مع مجموعة أفلام اسكندرية المستقلة عام 2012، ويعمل حاليًا على كتابة سيناريو فيلم طويل عن نوفيلا "جرثومة بو" التي أصدرها نهاية العام الماضي.
موقع "الكتابة" ـ 7 سبتمبر 2019

الأحد، 8 سبتمبر 2019

غرام الطرقات

في مدينة كهذه، حيث تطارد المسالمين من العشاق الصغار عداوات متجذّرة، كان منطقيًا أن يكون لعجوز مثلها عمل مستقر .. يقصد بيتها ولد وبنت طلبًا للحماية فتخرج معهما، تسير برفقتهما داخل المنعطفات الهادئة أو الأقل ازدحامًا كأنها أم لأحدهما، كي تمنع عنهما التهديدات المحتملة عندما تتشبث كف كل منهما بالآخر .. تجلس بجانبهما فوق أريكة مواجهة للنهر فيقدران بفضل وجودها أن يتلاصقا، أو يختلسا على نحو متقطّع قبلات صغيرة، أو ملامسات جسدية أكثر تماديًا في أمان .. ما تكسبه العجوز من مهنتها لا يتجاوز بحسب ما أرادت تلك الحكايات التي تجمع كلماتها المتناثرة من عيون وملامح العشاق الصغار، وأفعالهم المسروقة في ظلها الأمومي، وهمساتهم الأشبه باعترافات غير متعمّدة لها، كذلك الانفعالات العابرة التي تحاول كتمان أسرارهم، فضلًا عن الكيفية التي يودّع بها كل منهما الآخر في نهاية اللقاء .. كانت أشبه بالخبيئة الثمينة التي يحتفظ بها زبائنها فيما بينهم، ولا يمررونها إلا لأقرانهم وثيقي الصلة من الأحبة الذين يقطعون خطواتهم الأولى داخل شوارع لا يستطيعون فيها وحدهم أن يصدوا الأذى عن أنفسهم .. هكذا استطاعت بالثقة المتبادلة أن تُبقي عملها خفيًا ورائجًا في ذات الوقت .. لم يكن حذرها راجعًا إلى أن معرفة الناس بمهنتها ستجعلهم بصورة عفوية يطلقون عليها "قوّادة غرام الطرقات"، وإنما لأن هذه المعرفة ستضع دون شك حدًا قاطعًا لعملها .. لكنها لم تكن تراهن فقط على وفاء زبائنها ـ الذي لم يُخدش أبدًا ـ بعهودهم معها، وإنما على الذاكرة المتخاذلة أيضًا لأولئك الذين يحاصرون العشاق الصغار المسالمين في كل مكان، خاصة مع تحديد مواعيد متباعدة لخروجها معهم، والتغيير المستمر لمسارات سيرهم، ومواضع جلوسهم.
كان للعجوز في شبابها أحبة لا تتذكر هل خرجت برفقتهم أم لا، وكان لها زوج مات بعد خمسة وأربعين عامًا من لحظة إغلاق باب البيت عليهما وحدهما للمرة الأولى، كما كان لها أربعة أبناء، مات ثلاثة منهم وبقي أصغرهم .. طفل أصبح في الثانية والأربعين الآن، يشاهد أمه وهي تكافح بواسطة الكلمات المتناثرة من العشاق الصغار المسالمين أن تتوصّل إلى ما لم تستطع على الإطلاق أن تفهمه من حكاياتها الشخصية القديمة .. أن تدرك ما ظل غائبًا عنها طوال الوقت من حكايات زوجها وأبنائها الموتى داخل شوارع تلك المدينة .. يراها هكذا كلما أغمض عينيه، كأنما يوقظها من قبرها، ويدفعها للقيام بالأمر حتى تنقذه قبل أن يلحق بهم .. لكنها كلما استمرت في الخروج برفقة الأحبة، والمشي بجوارهم، أو الجلوس بجانبهم أمام النهر كلما شعر بوطأة احتضاره تشتد، ومع هذا لم يكن قادرًا على الامتناع عن جعل أمه الميتة تكرر ذلك .. كالعادة رسم في ذهنه صيغة ساخرة لهذا الذي أصبح طقسًا يدور بلا توقف داخل عتمة جفونه المطبقة .. اعتبر أن جسده قد اكتشف مرضًا جديدًا، غير مسبوق؛ فهو الكائن الوحيد الذي كلما أغمض عينيه كلما شعر بضيق حاد ومتصاعد في التنفس.
منصَّة (Rê) الثقافيَّة ـ 7 سبتمبر 2019
الصورة: Dagny, Bastugatan, Stockholm, 1949. Photograph by Christer Strömholm.



الاثنين، 2 سبتمبر 2019

نكاية

كانت أمي تغلّف نوعًا من بسكويت الشوكولاتة، الذي ستقوم ببيعه دعمًا لملجأ أيتام .. أتى "سيف" إلى الطابق السفلي، وتسمّر في الردهة المقابلة لقاعة الطعام حيث كانت أمي منهمكة في عملها .. في اليوم السابق حاول شنق نفسه بجزء من حبل رقيق؛ كان شيئًا ما قد أدخله في نوبة يأس .. تساءل متحيرًا إذا كان سيذهب إلى الجحيم نتيجة لذلك .. فكر في الأمر بينما مازالت أمي تغلّف البسكويت .. حينها التقطت واحدًا من الأربطة المعقودة وقالت: انظر "سيف"؛ هذه تسمى "عقدة الجلاد "، وتستخدم للشنق .. هكذا يمكن للرقبة أن تنكسر فورًا لأن الناس لا يتمنون الاختناق ببطء حتى الموت .. في المرة القادمة التي تلعب فيها بالخيط عليك أن تتذكر هذا.
لسنوات لم يعرف أبدًا ما الذي كانت تعنيه بـ "تلعب بالخيط".
سام سيلفا

الأحد، 1 سبتمبر 2019

سارقة الابتسامات: الحافة بين موت وآخر


بعكس القصة الشهيرة تدفع أماني خليل في مجموعتها "سارقة الابتسامات" الصادرة حديثًا عن دار صفصافة سندريلا إلى الهرب عند الثانية عشرة مساءًا بحثًا عن حريتها .. سندريلا التي ليس لديها شيء بحسب أغنية نينا سيمون " "Ain't Got No, I Got Life، والتي تمثل في قصة "الثانية عشرة" ما يشبه تعويذة المقاومة للابنة / الأم في مواجهة الأمير / الأب الذي استيقظ من موته كأنما يقيم حفله الخاص .. تحاول الابنة إنقاذ نفسها، بالانفلات خارج المسار الذي قطعته خطوات الأم، لكنها تدرك أن الأمر لا يتعلّق بها فحسب، وإنما بالحياة نفسها؛ لذا سيتم تثبيت الوقت في القصة عند الثانية عشرة مساءًا كي تصبح لحظة التحرر ممتدة كزمن كوني، وبالضرورة كحقيقة بشرية شاملة .. تكافح الابنة / الأم للنجاة بما لديها ـ بحسب أغنية نينا سيمون أيضًا ـ وهو حياتها / حريتها، أي ما يمثّل الواقع بالنسبة للراوية، والماضي بالنسبة للأم الذي يسعى للمحو، والبدء منذ اللحظة القديمة على نحو مضاد .. ورغم تثبيت الوقت عند الساعة الثانية عشرة إلا أن دقات الساعة كانت تتواصل "كأن حدثًا جللًا سوف يحدث"، وهو ما يشير إلى تحوّل الوقت المثبّت إلى مجاز تحذيري على حافة النهاية أو الموت .. إما أن تحصل هذه اللحظة على أبديتها أو يلتهمها الفناء .. كأن الزمن الفعلي يواصل التقدم حول الوقت الذي تم تجميده، وليس هناك سبيل لإيقافه إلا بتحويل هرب السندريلا إلى وجود أصلي للعالم .. يمكن النظر إلى استخدام سندريلا "المناقضة" للدراجة كدليل على هذه اللعبة .. امتلاك سرعة إضافية لإنجاز الأمر قبل انتهاء الوقت .. الهرب، واستبدال اللحظة العابرة بلحظة ثابتة، وتعميمها كزمن كلي قبل نهاية الحياة .. سيدعم هذا الدليل أيضًا الدم النازف من باطن قدميها نتيجة الضغط على بدال الدراجة .. لم يكن الهروب هيّنًا، وكأن هذه الدماء هي ثمن عدم ترك الحذاء قبل الهرب، أي ما يعادل نزف الحياة ذاتها .. لكنها ليست دماء الراوية وحدها بل دماء الأم أيضًا، ليس لأنها ترتدي حذاء الأم ـ كما في القصة الشهيرة ـ بل لأنها كانت تحمل قدمي أمها أيضًا أثناء الهرب .. على جانب آخر، يمكن مقاربة الدماء بصورة عكسية، باعتبار أن النزيف هو تخلّص من أشباح الإخضاع البدائية التي كان الجسد مسكونًا بها، أما ذلك الذي يشبه التطهّر فقد كان ينبغي إنجازه في أسرع وقت ممكن .. لكن هذه الصورة ليست عكسية على نحو كامل، فهذا الخلاص من الأشباح ـ نتيجة تأصلّها الغيبي ـ قد يعني نزف الحياة ذاتها أيضًا .. ربما يقودنا هذا إلى التفكير في أن التحرر هو الآخر جزء من الموت .. أن الموت والتحرر شيء واحد، كليهما شرط للآخر، حيث تُفقد الحياة، أو الصورة الحية للموت عند محاولة الحفاظ عليها خارج التسلّط المهيمن، أو عند تجريدها من القهر .. كأن هناك ما يشبه الحكمة تتجسّد في رغبة الراوية بنهاية القصة في شراء مشط باللون الأزرق السماوي بينما تفكر في أن الهواء يبعثر شعرها وهي فوق الدراجة .. ربما مشط بهذا اللون سيجعلها أثناء التحرّك بالدراجة أشبه بطائر .. كأنها حيلة لأن تكون هي الإله الذي ليس لديها .. الحكمة التي تقول بأن تلك هي طبيعة الحياة التي تمتلكها حقًا .. الطبيعة الحلمية العاقلة، الكاشفة للتحرر، كمجاز، وكفخ عقابي في مواجهة جنون اليقظة ـ وفقًا لفيسوافا شيمبورسكا في تصدير المجموعة ـ الذي تعود إليه سندريلا كما لو كان كابوس الغياب في نوم عميق.
"أصبح الرجل حرًا أخيرً. انفصل جسده تمامًا من الجدار. نزل على الأرض، وسار تجاهي خطوات، وعلى وجهه ابتسامة شبحية. جسده مفرود في كامل أناقته غير المألوفة على المكان، كأنه أتى من ستينيات القرن، أو كأنه مغنّي روك غربي أتى إلى هذه المدينة بسبب خطأ في القدر. خُيّل إليّ أنه يشبه أبي. كان يحاول أن يقول شيئًا، لكني خفتُ بشدة حتى كاد قلبي ينخلع من صدري".
علينا أن ننتبه إلى أن الهيئة الأنيقة الملونة التي منحتها الراوية في القصة للرجل المرسوم الذي يشبه أباها، وانفصل عن الجدار "كأنه مغني روك غربي" ليست مجرد سمة احتفالية، عدائية بالنسبة لها؛ إذ أن خوفها الشديد الذي دفعها للهرب ثم الجلوس إلى إحدى موائد المقهى، وشعورها بالصفو والجلال والسكينة، كل هذا لا ينفي أن ثمة من أعطى لهذا الرجل تعويضًا ما عن التصاقه الطويل بالجدار ولو بشكل مؤقت، وهنا يجب ملاحظة استخدام تعبير مثل "يحاول الهرب"، وكذلك "أتى إلى هذه المدينة بسبب خطأ في القدر" .. الرجل يشبه الأب، ولكنه أب يجدر أن يتحرر هو الآخر.
"ليس من السهل عليّ أن أخبرك تلك الأمور الدقيقة بيننا الآن، لكن من العدل أن تعرفي كيف كانت الأمور. سنوات انقضت دون أن أحظى براحة النفس، بقبلة شهية، بمضاجعة ممتعة، بنزهة على شاطئ البحر، أو بتربيتة في عيد ميلادي. كيف تملّك الخوف قلبي؟ كيف أكل الحزن ملامحي يومًا بعد يوم؟ كيف حملت هذا البيت فوق رأسي كي أحمي رؤوسكم؟ ليس من السهل أن تنتقلي من بيت أبيكِ إلى بيت رجل يعتبر نفسه أبًا لكِ؛ أنتِ الفتاة المهذبة في حضن أبيكِ، لست العاشقة في حضن رجلها الأثير، الخائفة أمام معلمها، العاصية دومًا أمام قس اعترافها، الباكية أبدًا من ذنب لا تعرفه، التائهة بلا خطى ولا طريق".
في قصة "حقائق صغيرة عن السيد بابا" لن نتعرّف فحسب على حياة الأم التي أرادت الابنة تضليلها في قصة "الثانية عشرة"، أو المصير الذي أرادت الابنة أن تنقذ الأم منه عبر العودة لتفادي البداية في القصة نفسها؛ بل سنتعرّف أيضًا على تأكيد لهذا التعويض المؤقت الذي منحته الابنة لأبيها، وذلك حينما نقارن بين "المرض الذي أقعده عن الحركة"، و"حياته التي تسرّبت بين يديه دون أن يعرف معنى السعادة الحقيقية" كما وصفته الأم في قصة "حقائق صغيرة عن السيد بابا"، وبين الحياة التي دُفعت لأوردته، وكذلك حركته، وانتزاع نفسه خارج الجدار مبتسمًا، وفي كامل أناقته في قصة "الثانية عشرة" .. كأنما كانت سندريلا تحقق أمنية أمها في الانفلات قبل فوات الأوان، وقبل أن تحدث القصة من الأساس، وأن تحرم الأمير من أن يكون أبًا آخر، ولكن دون مرض يقعده عن الحركة.
"عند أبواب المدارس، تقترب من الصغار. تعرض عليهم الحلوى والعصائر. تسألهم عن ابن وهمي في مدرستهم. تقول أنه مريض وأنها تريد أن توصل له الشطائر التي نسيها بالمنزل، أو تقول أنه نسي دواءه. كان بعض الأطفال يخافون منها ويبتعدون بظهوره، وفي آذانهم نصائح الأمهات وتحذيراتهم من الغرباء، ولكن بعضهم يبقى ويتبادل الحديث مع المرأة، فإذا آمن لها، وضعت كفها على جبهته، وسرقت ابتسامته، بعدها يبقى متجهمًا، عيناه مليئتان بالدموع، ووجهه شاحب للأبد".
لهذا فإن الابتسامات المسروقة في قصة "سارقة الابتسامات" هي حيوات تسكن المرأة سارقة الابتسامات نفسها، والتي لا يدري رجلها شيئًا عنها .. سرقة الابتسامات هو الفعل ذاته الذي كانت تمارسه الزوجة / الأم في قصة "حقائق صغيرة عن السيد بابا" .. فالابتسامات المسروقة هي ابتسامات هذه المرأة "السارقة" داخل تنويعات الألم الذي يعيش في جسدها .. نفس أشكال المكابدة المخبوءة للمرأة التي كانت تسرد حياتها مع زوجها لابنتها، ولم تنجح في التملّص منها .. هنا تتوقف المرأة عن أن تكون شخصًا محددًا، وتتحوّل إلى الذات الأنثوية كوجود .. فكرة أو هاجس الحياة عن تعاستها .. الحياة التي تقتل نفسها حينما يكون هناك سبب أزلي ومطلق يضطرها لذلك .. الرجل لن يكون شخصًا محددًا هو الآخر، وإنما يتحوّل إلى الذات الذكورية "الجائعة" واللامبالية .. المبرر المحتمل الذي يجبر الحياة على تدمير نفسها من أجله .. الدافع الاستعبادي الممكن، الذي يبقى متبطلًا دائمًا بعد نهاية هذه الحياة ـ أي حياة ـ ولا يشعر سوى بجوع لن يشبع لمزيد من السعادة التي لا تسرقها المرأة إلا من نفسها.
"الخوف وحش عملاق وأنا خائفة. تراجعت عن أن أدس خطابًا لزوجي بين طيّات القمصان، أو في صندوق بريده. كانت تلك الفكرة قد راودتني في الليلة السابقة؛ أن أخبره أنني أريد الطلاق، وأن حياتنا انتهت، وأني لن أخرج من المستشفى للبيت ثانية. لكن ما جدوى هذا الكلام إن مت في النهاية. إن نجوت فسأضطر لمواجهته بما أريد، وإن رحلت، فبلا إجابات أفضل. ربما لو تركت تلك الفقرة من حياتي معلقة بيضا، فسيكون ذلك أكثر نبلًا وعدلًا، وربما لا ينتبه لصندوق بريده بالأساس".
يمكن للتحرر، أو بالأحرى للتصوّر الخاص عن التحرر أن يُستبدل بما قد يساعد على الاستمرار في الرضوخ .. على كتمان الألم الناجم عن مواصلة الإذعان .. بما قد يضاعف الألم الناجم عن عدم الانفلات أو التأجيل المرغم للتملّص .. الحلوى مثلًا في قصة "ماكنتوش" .. إنها قد تعادل شيئًا مشابهًا "ابتلعته" الأم في قصة "حقائق صغيرة عن السيد بابا" كي تبقى مكانها .. كأن "ماكنتوش" هي صورة أخرى للموت الذي يبدو أن الراوية قد نجت ظاهريًا منه في القصة التي تحمل الاسم ذاته بعد عملية جراحية .. لذا فالنجاة ليس سوى تنقّل بين الأشكال المختلفة للموت .. هذا ما يتم تمريره عبر قصص المجموعة .. خلق حواف مصطنعة بين ما يبدو أنها الحياة والموت .. حواف وهمية يتم تكوينها من أجل تلك اللحظة التي يكُتشف خلالها أنها مجرّد ظنون تقتضيها مسايرة الزمن .. بين الحرية، والانكماش داخل المصيدة الحتمية .. بين الوقت الذي يخلو من الحياة كمهلة غير معلومة تنتهي فجأة كما في قصة "الخميس التالت"، والموت الذي يعقب هذه النهاية .. الحواف التي تدعي قدرتها على الفصل بين مصائر متباينة بينما الدم ينزف من قدمي سندريلا في جميع الأحوال .. هل أرادت سندريلا ـ بذاكرة الشعر الصبياني القصير كما في قصة "في البيت القديم" ـ أن تقبض على الشراهة الذكورية داخل خيالاتها قبل أن يضع أحدهم بيد خائنة زبدة الكاكاو على شفتيها وهي تحتضر كأنه الاحتفال الهازئ للعالم بيوم ميلادها كما في قصة "رجل زبدة الكاكاو" ـ كأن الراوية في قصة "ماكنتوش" قد ماتت حقًا، وعلى شفتيها زبدة الكاكاو ـ أو يتمادى الشعر الأبيض في قتلها كما في قصة "خيط رمادي"؟ .. حتى يكون بوسعها حينئذ أن تخلع أسنان الرجل عندما تكون أسنانها هي، فتخلّصه من قدرته الراسخة على المضغ، وبالتالي يمكن للابنة حين تساعد نفسها على وضع طلاء الأظافر، أو تعاون أمها على هذا داخل الترام ـ عندما تقوم بذلك الفعل للفتاة الغريبة ـ أن تمتلك أي قدر من الحماية الملتبسة، أو تزيح الإبهام عما يُفترض أنها الحماية؟ .. ربما أرادت أن تمنح الذات الأنثوية تاريخًا مغايرًا بعد ما يشبه فقدانًا تامًا للذاكرة الكونية التي لا تثبّت أبدًا تلك اللحظة التي يتردد خلالها صوت نينا سيمون داخل رأس السندريلا.
جريدة "أخبار الأدب" ـ 1 سبتمبر 2019