الجمعة، 30 نوفمبر 2018

التراث الشعبي ونقد القصة القصيرة

مدخل نظري
كثيرة هي الدراسات التي تناولت أثر التراث الشعبي في القصة القصيرة المصرية، ولكن هل تقتصر حاجتنا على الاستمرار في تكديس المقاربات التي لا تتجاوز تحليلاتها التوظيفات المباشرة للحكايات الشعبية ـ التي تعنيني بشكل خاص ضمن هذا التراث ـ في المشاريع القصصية المختلفة؟ .. بما أن التراث حصيلة دائمة الاستزادة والتغيّر، فإنني لا أفكر في مجرد الخروج عن القوالب المنهجية في تشريح طرق الاستلهام المتعددة للتراث الشعبي في القصة القصيرة المصرية، وإنما في إعادة تعيين التراث نفسه، وذلك لا يعني سوى التحرر من التنميط الشائع للفولكلور كحاضن للخرافة والموروث الحكائي والثقافة الشفاهية، أي من الأفكار واليقينيات السائدة التي تحتكر هذا التراث داخل سياقات محددة من الرموز والتقاليد.
يزخر الواقع المصري بالأحداث الغرائبية الجديرة بخلق واكتشاف العلاقات بين تراكماتها المتنوعة، وما نعتبره مندرجًا في نطاق الحكايات الشعبية .. لنتخيل مثًلا المواويل الريفية التي كان يغنيها القتلة في القصص القديمة، أو كلمات القراصنة المغتصبين وهم ينهبون المدن ويحكمونها، أو مشاهد الغيلان التي تأكل البشر والحيوانات ليس فقط داخل الجرائم الراهنة التي توصف أحيانًا بالأعاجيب الصادمة المتخطية للخيال ـ كتعذيب واغتصاب وقتل الأطفال مثلًا ـ والتي تواجه بالاستنكار وعدم التصديق رغم استمرارها المتزايد فحسب؛ وإنما كذلك داخل ما لا يبدو على المستوى الظاهري شرًا، أو مصدرًا للعنف، أو صورة للانتهاك .. هذا التخيل ينبغي أن يكون دافعًا للانشغال النقدي بالاحتمالات المعرفية والجمالية التي يمكن أن تنشأ عن الجدل بين هذه الأحداث، والقصص القصيرة المصرية التي حملت أشكالًا من التناص مع التراث الشعبي .. لا أتحدث هنا عن المقارنات المألوفة أو المزج التقليدي بين متن سردي سابق، ومتن واقعي مماثل، بل عن رصد التأثيرات الناجمة عن خلخلة وتقويض ما هو طبيعي ومنطقي ومسالم بل ومقدس إذا ما تم إقحام ما يبدو متنافرًا ومتخاصمًا معه داخل البنية التي تكوّنه ..  سيؤدي هذا إلى إعادة تأويل وإنتاج القصة والشخصيات والأحداث، وبالضرورة إلى إعادة تأويل الموال، والقرصنة، والوحشية الخارقة .. هذه الاستراتيجية لا تعتمد فقط على التقابل بين المتشابهات سواء بين القصص التي تستخدم الموروث الشعبي وبعضها، أو بين هذه القصص والوقائع السياسية والاجتماعية، كما لا تستهدف الوصول إلى صيغ أخرى منسجمة من معطيات الفكر، بل تسعى أيضًا إلى استلهام القصص الممكنة ـ خاصة غير المتناغمة مع الدلالات الأصلية ـ والمحتجبة داخل كل سردية معلنة .. إنها مساعدة الخطاب على أن يفرز تمثلاته غير المنضبطة، أي التي لا تخضع لنظامه اللغوي الأساسي، ومن هنا لا يبقى المعنى مرهونًا للتحوّل فحسب، بل يتغيّر تاريخه أيضًا.
يتحالف نقد القصة القصيرة على هذا النحو مع إرادته النصية؛ أي يستجيب لرغبته في أن يكون قصة أخرى، لا تتوازى مع النص موضوع العمل فقط، بل تتخذ كذلك مسارًا مغايرًا له، ينفتح على إمكانيات سردية دائمة .. يكون النقد جزءًا من المخيلة الشعبية التي يفككها ويتجاوزها صانعًا أساطير مضادة للثوابت والمسلّمات التي تقوم عليها .. تجابه هذه الأساطير المضادة الحقائق المضمونة، والعلاقات الحاسمة التي تناقلت وتجذرت عبر المشافهة والتدوين الحكائي .. تتحوّل قصص النداهة والكائنات الخرافية والجان والسحر والآبار الملعونة والمستنقعات والأشباح والحوريات والمخلوقات العملاقة والصفقات مع الشيطان ونبش المقابر والتهام الجثث إلى دوافع نقدية مقاومة لنفسها، أي للدلالات المهيمنة المقترنة بها، والتي امتلكت بداهة مطلقة عبر الزمن.
إن قراءة القصص التي استوحت "الظاهر بيبرس"، أو "سيف بن ذي يزن"، أو "علي الزيبق" على سبيل المثال يمكنها ألا تتوقف عند حد إعادة التأكيد على نفس الغايات المثالية القديمة التي يتعاقب النقّاد على تمريرها بكيفية روتينية نظرًا لكونها تمثل القيم السهلة، الحاضرة في متناول الذهن على الدوام، ولا تثير بعفويتها المروّضة شعورًا بالرفض بل على العكس تُلبي احتياج القرّاء إلى لغة مُطمئِنة، ذات غنائية مخادعة، غير مستفزة، ولا تُفنى مهما تم استهلاكها.
نموذج تطبيقي
لنقرأ هذه القصة القصيرة التي كتبتها منذ وقت بسيط:
النفق
"يجلس عامل النظافة العجوز على الأرض بجوار مقشته القديمة داخل نفق المحطة حيث تصل القطارات وتغادر فوق رأسه .. يرتشف من كوب الشاي الذي في يده ويردد مع "فاطمة عيد" التي ينبعث صوتها من المسجّل الصغير في يده الأخرى: "ع الزراعية أنا رحت أقابل حبيبي" .. يعبر المسافرون أمامه وينظرون إليه فيبعد عينيه عن عيونهم .. عدا رجل واحد فقط .. رجل في منتصف العمر حينما مر أمامه ونظر إليه لم يحرّك وجهه إلى الناحية الأخرى .. كان في ملامح هذا الرجل شيئًا ما جعل عامل النظافة العجوز يريده أن يرى تلك الدموع الخافتة في عينيه، التي ترتجف دائمًا مع دوي القطارات".
ربما ينظر الناقد التقليدي إلى هذه القصة باعتبارها تجسّد حالة حنين مؤلمة، تحفزها إحدى أيقونات الفن الشعبي "أغنية فاطمة عيد" المقترنة بدوي القطارات حيث ذاكرة الرحيل الفادح وشوق الرجوع المتمنّع: إلى القرية التي غادرها عامل النظافة العجوز منذ زمن طويل ولم تعد كما كانت .. إلى حبيبته التي افترق عنها .. إلى أحلامه المبكرة التي لم تتحقق .. قد يفكر هذا الناقد في أن الرجل الوحيد الذي أراده العجوز أن يرى دموعه ربما يكون وجهه مشابهًا لأحد وجوه قريته ومن ثمّ أراد أن يحصل منه على عزاء ما، أو أنه اكتشف نفس الفقدان المعذّب في هذا الوجه فيحاول أن يستمد من خلاله نوعًا من التكاتف، أو أنه يحمل نفس ملامحه حين كان في منتصف العمر فيرسل إليه ما يشبه التحذير التائه، المتلازم بشكل من التماهي مع صورته القديمة التي لم يعد عليها، والرغبة في أن تتخذ حياته مسارًا مغايرًا، تتبدل معه بالتالي حياة العجوز ومصيره بطريقة مبهمة .. قد يلصق هذا الناقد برموز القصة ذخيرة التفسيرات المتكررة الأقرب إلى المحفوظات المدرسية: مصر هي الحبيبة التي تغني في صوت فاطمة عيد، وباعدت التحولات السياسية والاقتصادية والاجتماعية بينها وبين حبيبها الذي أصبح عجوزًا مكسور القلب .. المقشة هي علامة القهر الطبقي الذي تسبب في هذه الغربة بين عامل مسكين، وقريته التي شهدت متغيرات مدنية عنيفة كرّست لانفصال أبنائها عنها، وتركتهم عالقين في نفق لا يستطيعون اجتيازه؛ فأصبح لا فرق بين العجوز وبين ما يكنسه بهذه المقشة .. الرجل العابر الذي لم يُبعد العجوز عينيه عنه هو المخلّص المنتظر الذي يحلم العجوز أن ينقذه ـ حينما يرى دموعه ـ أي أن يعيد إليه حبيبته "مصر" كما كانت.
لكن بالنسبة لي فإن العجوز هنا ليس مجرد شخص يشعر بالحنين تجاه ذكريات معينة، ويجابه مأساته الخاصة، المترتبة على وجوده في لحظة محددة من التاريخ، في مكان كمصر، بل هو ذات تخوض مواجهة متحسّرة مع كل ما آمنت به وصدّقته .. مع الوعد الذي كان يمثله صوت فاطمة عيد في الماضي، ليس بتحقيق أحلامه تجاه القرية والحبيبة والوطن، بل بأنه سوف يكتشف ذات يوم ما هو مستتر في الأحلام نفسها، الأمر الذي لم يتحقق أبدًا .. أغنية فاطمة عيد تذكّر العجوز بالعماء الذي كان كامنًا في طموحه البدائي، ولا يزال غير قادر على الإفاقة منه، بعد أن تحوّل تدريجيًا، ومع مواصلة الإيمان والتصديق إلى ظلام كامل .. لذا يحاول العجوز عبر هذه الأغنية أن يستعيد البداية محاولًا فهمها، استنطاق ما كانت تخبئه حين سمعها للمرة الأولى، تذكيرها بالشيء الذي كان ينبغي أن تفعله رغم كون هذا الشيء لا يزال محتفظًا بغموضه ومراوغته .. الأغنية ليست مجرد حمولة عاطفية مثيرة للشجن بل ممرًا كان يجب أن ينتقل العجوز بواسطته من خيال مدرك إلى واقع ملغّز، ولكن هذا الممر المفترض تحوّل إلى نفق مقبض .. كأن العجوز يحاكم تحت وطأة المحبة المخذولة هذا المجهول الذي أصبح خبثًا متواريًا في تلك الأغنية المسالِمة .. المجهول الذي أصبح تجهيزًا ودعمًا للفقد .. وبالمثل تصبح المقشة القديمة كأنها العكاز المخاتل الذي لا يساعد العجوز كي يعبر النفق .. العكاز الذي يمثل تجاربه وخبراته كافة، ويقينياته تجاه المبادئ المطلقة تحديدًا .. أما النفق فلا يجب أن يكون أقل من الوجود نفسه، وليس ما أصبحت عليه "مصر" .. الزمن الذي يبدأ وينتهي دون إمكانية للتحرر منه، أي حيازة سفر استثنائي مستحيل يحفر دوي القطارات في جرحه الغائر .. كأن دموع عامل النظافة العجوز هي دليل عجزه عن فهم لماذا لم يحصل على الحماية من كل ما تصوّره هذه الأغنية وما يشابهها .. أي شيء في داخله أجبره على اعتناق هذا الذي يقدم نفسه كحقيقة غير قابلة للشك .. لماذا يتحتم على المرء ألا يمتلك سبيلا آخر، أو فرصة للنجاة خارج هذا الحصار، أو على الأقل أن يستوعب ما حدث .. ولن يكون غريبًا أن يكون هذا العجز هو الدافع الأكثر قوة للاستمرار في الاستماع إلى هذه الأغنية .. للتمسّك بها .. ليس بوصفها تذكيرًا بالغفلة السحرية القديمة فقط، وإنما كتوسّل لها، لجمالها الذي اعتقده العجوز منذ زمن طويل إشارة للأمان الذي لا يمكن تهديده .. أما الرجل العابر فهو الاحتمالات المرآوية لهذه الذات التي يمثلها عامل النظافة العجوز، ملامحه المختلفة عبر الزمن، الوجه المغاير الذي لا يخصه، ولكنه يعطي إيحاءات باتخاذه نفس المسار عبر الحياة والموت .. لذا فرغبة عامل النظافة العجوز لأن يرى هذا العابر تحديدًا دموعه تنطوي على الأمنية اللائقة بكل احتمال: المواساة .. التضامن .. التنبيه .. المحو .. ربما رأي عامل النظافة العجوز في ملامح هذا الرجل الذي في منتصف العمر مشابهة لما يثقل قلبه المنهك، جعلته يشعر بأن هذا الرجل يمكنه توثيق حياته القادر على تخيلها عبر هذه الدموع،أ أن يكتب حكايته، أي يُعيد خلق آلامه بالكلمات فينقذه على نحو آخر، ليس بوسعه تحديده، ولو بمجرد هذه المقاومة اليائسة للنسيان .. لكنها ليست الأمنيات المنكمشة داخل الأطر المباشرة التي سبق وتحدثت عنها، ولكنها الأمنيات التي تتعلق بالعجوز كفرد وحيد، خارج الهويات المتعسّفة، يجمع فقط القمامة التي يخلّفها لعب الزمن بالقطارات، وهي تتوهم أنها تنتقل من مكان لآخر.
صحيفة "المثقف" العراقية ـ 29 نوفمبر 2018

الثلاثاء، 27 نوفمبر 2018

ممدوح رزق: تذكر الماضي ليس الماضي نفسه

"ممدوح رزق"، انتبه له جيدًا، إذا كُنت في تجمع ما، وبدأت في سرد حكاية، أو موقف مُختلف، أو أمر مغاير غير عادي قد مررت به، فستجده يُدير كُرسيه، ويلتفت إليك كُليًا، الحكاية استحوذته، وبالتالي يُوجه دفة عقله وتفكيره ناحيتك، وعند هذه اللحظة، عليك أن تعرف معرفة مؤكدة أنّه عمل على تفعيل المُخبر السري داخله، ليلتقط من حديثك ما شرد، يُخبيء ما أفضيت به، يسألك عن أدق التفاصيل، عن شكل المكان، الزمان، الأشخاص، يعمل على تجميع أرشيف لك أنت شخصيًا، بالطريقة التي تتحدث بها، باللكنة والتأكيد على بعض مخارج الحُروف، كانسًا كُل ذلك ومُحتويه داخل طبقات ذاكرته ليستخدمها في وقت ما، بل عليك التيقين من أنّه سيستغلها داخل أي نصالحياة بالنسبة له هي الحكاية، ومن الحكاوي المدفونة والمُتكونة عبر التقاطعات الزمانية ينشأ سرده.
قام العمود الفقري للنص عبر الإتكاء على عنصر الذاكرة، وكيفية تكونّها خلال شريحة الزمن. فما هو تعريفك الشخصي للذاكرة؟
أفكر في الذاكرة باعتبار أن تذكر الماضي ليس الماضي نفسه، وأن تدوينه يحوّل التذكّر إلى خسارة للتذكّر، أي أنها هزائم مضاعفة مهما كانت قوة الثقة لمشاعرنا أو لقراراتنا اللغوية تجاه الذكريات
.
 ميت حدر منطقة الطفل داخل النص،هي نفس المنطقة التي سكنتها في طفولتك. فهل يحكي الطفل التقاطعات الزمانية والمكانية بينه وبين الطفل ممدوح رزق؟
نعم، يحاول طفل الرواية أن يحكي ما يعتقد أنه التاريخ الواقعي لطفل الثمانينيات داخل هذا المكان، وهذا ما قد يجعل الرواية متطابقة مع ما حدث فعلًا، أو مختلفة ـ كخيال صادق ومجسّد ـ عن ماضي الطفل المسرود عنه.
اتجه بعض القُراء إلى اعتبار: فراش المدرسة، المعلمات، الخبّاز، بائع المخدرات، وغيرهم، إلى كونهم أشخاص موجودين  بالعفل وحتى الآن. هل هذا صحيح؟
جميع شخصيات الرواية حقيقية، ومعظمهم لا يزال على قيد الحياة.
إذَا، هذا قد يدفع البعض إلى التفكير في إشكالية شهيرة، وهي عدم أخلاقية الكِتابة عن أحدهم ولايزال على قيد الحياة؟
الرواية من ضمن ما تقوم عليه هو التوثيق الحرفي التام لكل ما يتم تذكره، أو ما يبدو أن هناك نجاحًا في استرجاعه ـ وسرده مهما كان، وليس هناك أي محظور أخلاقي يمكنه أن يعطل استجابتي العفوية لما تتطلبه وتقتضيه الكتابة.
انتهي كُل فصل بتجميعة كبيرة تضم تذكير بـ: إعلانات، أغاني، صور، كُتب، مجلات، حكاوي وغيره عن طفولة فترة الثمانينات. هل يُمكن القول بأنّ هذا كان بمثابة الموسيقى التصويرية للرواية؟
هذا تعبير واع وملائم بالفعل .. هي ظلال لروح الطفل أو هويته الباطنية التي تضيء طبيعة وجوده داخل كل فصل، وأيضًا رسائل توثيقية إلى الذين تنتمي طفولتهم لحقبة الثمانينيات، كما تمثل كذلك شفرات لـ "الحادث الأليم" في الفصل الأخير من الرواية.
يذكر الناقد روبرت همفري أن تيار الوعي يعمل على إبراز الجوانب الذهنية للشخصية، أما المنولوج الداخلي المباشر فيه استرسال وعدم اهتمام المؤلف بالقاريء. و"إثر حادث أليم" تقف في منقطة وسطى  وفاصلة بين هذا وذاك.
نعم، الرواية يقودها هذا الصوت الجوّاني، بتمثيلاته السردية المختلفة، حيث ينعكس وعيه المتعدد بالذكريات، وعواطفه تجاه ما يستدعيه، وطريقة تدوينه للماضي على طبيعة هذا الصوت .. حرصت بشكل كامل على توثيق ما أردت له أن يظل موجودًا في العالم بواسطتي، أو أن يبقى من خلال أثر سأتركه .. تعمدت أن أنقل طفولتي أو جزءًا منها بكل الأوصاف والسمات والخصائص التي كانت لشخصياتها وأحداثها وأشيائها من الخفاء إلى الوضوح الساطع، وبدقة متناهية خصوصًا كل ما يبدو صغيرًا وبسيطًا وعابرًا وهامشيًا أو لا يمثل ظاهريًا أكثر من نفسه.
يذكر البطل قُرب النهاية أنّه يكتب كمحاولة لعدم التذكر، أو على حد تعبيره" لعدم ترويض الذاكرة". فكيف يٌمكن ذلك؟ وهل هو أمر من المستطاع تحقيقه؟
الماضي يُذكّر كاتب المذكرات في كل لحظة أن كلماته لا تمثّل الحقيقة كما كانت تمامًا، وهذا ما يدفعه أحيانًا للاعتقاد بأن إصراره على التذكر والكتابة هو نوع من محو الذاكرة طالما أن كل ما يرتكبه يساهم في إبعاده عن نقائها الخالص، وبالتالي وكما جاء في الرواية، يبدو كل استرجاع كأنه فقدان للماضي كما كان حقًا، ولأن الكتابة معادية للتذكر القاصر والمخذول أصلاً، فهي تضمن أن يبقى الماضي مُغيّبا، غير خاضع لسلطة الحاضر، أي غير مروّض، ولا يعلن لصاحبه عن هذا الوجود المقصي، الحصين والمتمنّع إلا بواسطة ما لا يمكن تذكره أو تدوينه، أي عبر الإشارات الذهنية الخاطفة، كما جاء في الرواية أيضًا، التي تمحو العالم بشكل مباغت وتعيدك بدهاء إلى طفولتك للحظة غير مكتملة، تتلاشى على الفور، كأنّ الموت نفسه هو الذي يفعل ذلك
.
تكتسب النهاية نوع من الغموض، فالفصل الأخير يُمكن اقتطاعه من السياق واعتباره قصة ترتسم بطابع السوريالية الوحشية. ويُمكن الربط بينه وبين السياق  من خلال نعي جريدة الأهرام في المقدمة وكذلك  عنوان الفصل نفسه (لغز كاتب المسرح) ، فإلى أي مدى يُمكن اعتبار الغموض مقصود؟
بالطبع لا أستطيع أن أتحدث، الآن على الأقل ـ بشكل تفسيري عن ما يبدو غموضًا في الفصل الأخير، ولكن يُفترض أن “لغز كاتب المسرح” مبني على ما أعتقد أنها استفهامات أساسية للرواية: من هو الابن؟ .. من هو الأب؟ .. لماذا يستعير الأب الذي هو بالتأكيد على قيد الحياة ابنًا وهميًا لينشر مذكرات طفولته؟ .. هل الأب هو كاتب المسرح نفسه؟ .. ما هو الحادث الأليم؟ .. هل ما جرى في اليوم السابق لهذا الحادث كان كابوسًا وصلت فيه رغبة طفولية قديمة إلى هلاكها حينما حاولت أن تتحقق؟ .. هل وقع الحادث كنبوءة لكاتب المسرح أم لحقبة الثمانينيات؟ .. هو بالفعل لغز لا يمكن حله مهما كانت الإجابة على هذه التساؤلات.
 إلى أي مدى اختلفت معالم المنصورة في الثمانينيات عمّا هي عليه الآن؟
اختلفت كثيرًا جدًا .. وما بقي كما هو ـ أو ما أظنه كذلك ـ  غابت "العيون الثمانينية" التي كانت تبصره.
"إثر حادث أليم" رواية تحكي عن منصورة الثمانينات؟ عن الطفولة وقتها عامة؟ أم ..؟
عن الطفل أو “المسرود عنه” بواسطة الرجل الذي صار إليه، والذي يُشهر مذكراته في وجه هذه التساؤلات التي كرّست لجحيمه الشخصي: ما الذي حدث؟، ما الذي لم يحدث؟، لماذا جرت الأمور هكذا؟، هل هناك نهاية أخرى؟، هل ستحدث معجزة ما قبل أن يأتي دوره في الفناء؟ .. المذكرات التي تتضمن ما تعتقد طفولة شخصية أنها تعرفه من الفضاءات المكانية التي اختبرتها داخل المدينة في ذلك الزمن.
تكتب في النقد والرواية والقصة والشعر والمسرح والنصوص الغير مقيدة بتصنيف معين. فأي هذه المجالات هي الأقرب إليك؟
القصة القصيرة بالتأكيد.
 ما هو جديدك القادم؟
نوفيلا "جرثومة بو" .. مجموعة قصصية جديدة .. كتاب نقدي عن فلسفة السرد عند جورج باتاي.
حوار: أحمد أبو الخير.
جريدة "القاهرة" ـ الثلاثاء، 27 نوفمبر 2018

الأحد، 18 نوفمبر 2018

تفكيك موسوعة الشر

تقوم قائمة الانتقادات والمآخذ على إرادة دائمة لاكتساب الأنا الفردية القارئة تلك الذات كلية المعرفة، المنطوية على قوة إدراكية مطلقة، وبالتالي يجدر بها امتلاك سلطة الهيمنة خارج ما يمكن أن يُفترض كحدود لوعيها.
تستدعي هذه الذات الصوت البلاغي الذي يحتّم أن يكون لرؤيتها في لحظة معينة بداهة عامة، حكمًا استحواذيًا قادرًا على توظيف التعارضات كافة لإثباته .. كأنها ـ مع اختلافاتها ـ تكرّس خطابًا ضمنيًا جماعيًا، تتباين مستويات حدته يقول: "أنا أعرف ما هي الكتابة، والكيفية الصائبة الوحيدة لمقاربتها .. ما الذي يجب أن يُكتب وما لا ينبغي .. كيف، ومتى يُكتب؛ ذلك لأنني دائمًا أتخذ الجانب الصحيح من كل شيء، وهذا ما يعطيني الحق الشامل في أن أكون معيارًا واجبًا للجميع، وبالضرورة ليس للآخرين الحق في رفض أو معاداة ذلك".
هذه الذات تتحدث كإله يتفرّد بالهيمنة على الحياة والموت .. التراث .. الحداثة .. السلوك الإنساني .. الأفكار .. التفسيرات النفسية .. التاريخ .. التحليل الاجتماعي .. الحرية .. الجرائم .. الأخلاق .. الحضارة .. الديانات .. القضايا الأساسية .. تتحدث كإله يحتاج للنجاة من إنسانيته .. تريد أن تدافع عن وجودها ـ غير الإلهي ـ أو كـ "أنا" عمياء في مقابل الحياة والموت التي لا يمكنها السيطرة عليهما .. لذلك؛ فمساحة العماء الشخصية بكل ما تتضمنه من أوهام مؤقتة أو دائمة لابد أن تُستثمر لتتخطى نفسها .. لتصير حقيقة لا تقبل الإرجاء أو التعطيل ومن ثمّ تكتسب تعويضًا عادلًا من الأبدية المفترضة للسلطة التي تستعملها .. هكذا يكون لهذه الذات حق التعبير "الصحيح" دون غيرها عن المعنى والمنطق والقيمة والجدوى والابتكار واللغة والأسلوب والعمق والتوافق والدلالة والمتعة والإشباع .. يكون لهذه الذات الحق في أن تفرض خبرتها الخاصة ليس على الكتابة المتحققة ونقدها فحسب، بل على ما لم يُكتب بعد، وبالتالي على طريقة تناوله وتحليله؛ أي تصبح هذه الخبرة "رادعًا مقدسًا" يتقدّم على كل نص محتمل ونقده بخطوة تفاديًا لأخطاء الماضي، وهو ما يفسّر التكدّس المتواصل للأعمال الأدبية والنقدية المتناسخة .. لا يسمح خطاب هذه الذات بالكشف إلا عما تنحاز إليه، وهو بذلك يقيم الحواجز اللغوية التي تمنع ما يقاومه من التسلل إليها .. تعلن عن يقين، وتصمت عن ما يمكنه انتهاكه .. ترسّخ خبرة وتزيح علامات خلخلتها.
أعود لكلمات سابقة عن تدوينات القراءة وكيفية تبرير الخطاب لنفسه: "هكذا نحن لا نتحدث عن "أخلاق" من أي نوع، ولا عن جماليات أدبية بل عن انتهاز متبادل، غير محكوم بين القارئ والسلطة ينتج دومًا ما لم يكن يبدو متضمنًا فيه منذ البداية".
إن ما يسمح بوجود مساحات التوافق والتقارب الطاغية بين هذه الممارسات اللغوية العدائية هو استعمالها المستمر لمجاز السلطة حيث كل ما تم الاستقرار عليه ـ أو ما يبدو كذلك ـ في الذاكرة الفردية، والذي يتخذ ظاهريًا شكل المسلّمات العمومية، أصبح حاكمًا باختلافاته وتناقضاته؛ لذا تتحوّل المحاذير الشائعة إلى خامات يجب توظيفها مهما كانت متغيّرة، ومهما كانت غير قابلة للتجانس مع مفاهيم / أحكام أخرى .. تتحوّل العاطفة، والتميات المتصفة بالتقليدية، والخيالات التي يُشار إليها كصور نمطية إلى فرص للإدانة .. "كيف تجرؤ أن تتألم بهذه الطريقة الخاطئة؟" .. يتحوّل التأويل الذي يخلق الاستفهامات، ويؤجّل المعنى، ويحرر النص من الغايات القاصرة إلى مبرر للاتهام .. "مهما تكن حياتك التي أجهلها؛ لكنك يجب أن تفكر في العالم، وتعبّر عن تجاربك من خلال بصيرتي" .. هذا ما يُفسر أيضًا لماذا تتشابه الذخيرة اللغوية المستخدمة ضد العمل الأدبي الذي لا يسعى  وراء هدف مثالي، أو على الأقل لا يحوم حول غرض مناوئ للقبح "كما يتم تعريفه في وعي القارئ"، وبين العمل النقدي الذي لا يحاكم هذا النص وصاحبه، ولا يعيد تذكيره بـ"الهموم الحقيقية" للواقع أو الوطن أو العقيدة أو الأمة أو الإنسانية ... إلخ، ولا يضيء له "الطريق الصحيح" ليكون إنسانًا وكاتبًا أفضل.
هذا هو المقال الأخير من سلسلة مقالات الباب الأسبوعي "نقد استجابة القارئ العربي"، وقد مثّلت هذه المقالات متنًا مختزلًا على نحو ما للمشروع الذي سيُنشر في كتاب كاملًا، كما يسعدني أن أختتم هذه السلسلة بمقال أعتز به للكاتبة منال حسين نُشر على منصة "رقيم" في 9 نوفمبر  2018 عن "نقد استجابة القارئ العربي":
وللرواية محاكم تفتيش!
منال حسين
بدافع ما تكاد تجهله معظم المرات كُتبت تلك الرواية وتلك القصة؛ فإما أن تقرر خوض خبايا تلك المعاني والأسرار والعواطف الخفية التي بالكاد تُظهرها النصوص والحوارات كأنها قد خبأت نفسها خلف وشاح مستتر،خشية الحكم عليها بقذيفة مباشرة من قبلك أنتَ أيها القارئوإما أن تكون ذلك الحاكم المستبدّ الذي تخشاهُ الرواية متسلحاً بأدوات من النقد اللغوي والبلاغي والقيميّ والجمالي الذي لم يشهد أحد حتى الآن مَن أرسى قواعده وقدّس أحكامه!
لا يمكن للفنون أن تنزل منازل الأحكام النفعية الاستهلاكية؛ أن تنحصر بين قطبيّ"ناجحة،فاشلة" أن تتقزم وتتقلص أسباب انتشارها بجائزة معيارية محدودة؛ أو أن تتلاشى قيمتها ويُمحى أثرها كونها ذات معايير وتقيميات لا تخضع لسباق الجوائز ذلك! جرب لمرة أن تتجرد من تلك الأحكام المتعجلة السهلة؛ الأحكام التي تُطلقها عليها كوجبة غداء سريعة تناولتها في أحد مطاعم الوجبات السريعة:"جيدة،سيئة،عادية،مذهلة، تقليدية،ممتعة.."؛ أن تنزلها منزلة نظرية علمية متأرجحاً بها بين أخطأ في هذا وأصاب في ذاك وكان لابد من تلك! جرب أن تتعامل مع النص كلغزٍ متشابك عسير تحاول أن تفكك أسراره وأُحجياته، ولو بدا لك شديد البساطة تأكد بأن فك اللغز هنا أصعبحاول أن تتفاهم مع النص أن تتحاور معه أن تخلق جسر انسجام يربطك به، وذلك الذي لم تستطع أن تُفك لغزه أو تكشف الحُجب عنه استسلم حينها ولا بأس بذلك؛ حتى لو أمضيت وقتاً تحاول أن تكشف ما كان يقال وما لم يقال ولم تصل لنتيجة تُرضيك؛ جرب عندها لمرة أن تقول بأنك لم تستطع أن تندمج في تلك الألغاز البسيطة ذات المعنى المُبهم لك؛ جرب لمرة أن لا تُحمّل الرواية ضيق الأفق لديك أو توسع المدارك لديك فوجدتها أصغر مما لديك؛ أن لا تحملها فوق محدودية ذوقك الخاص
جرب لمرة أن تتواضع وتجيب بأنك لم تفهم الأنا الكامنة وراء تلك الرواية!
حاول أن تتذكر لمرة بأنك الآن لست في مقام دروس علمية وعظية، تناسى تلك الأطر الاجتماعية الدينية الأدبية التي تضع الرواية في زاوية الواعظ المرشد أو العالم الخبير؛ لأن الرواية هي من سُتخبرنا بما يمكن لتلك الأُطر أن تؤثر على الذات البشرية عن طريق تلك الرواية "الخيالية".
حاول أن تتعامل مع الرواية كقطعة من الأثر الماضي؛ قد نصل لشيء من حقيقتها لكن ثق بأننا لن نصل لحقيقتها الكاملة!
بتصرف مما كتب عنه بتفصيل مُستفيض الكاتب "ممدوح رزقناقداً على استجابة القارئ العربي.
موقع "الكتابة" ـ 18 نوفمبر 2018

الخميس، 15 نوفمبر 2018

كتمثال يحدّق في حائط

من وراء هذه النافذة الزجاجية الكبيرة
التي تطل على الميدان الواسع
رأيت كثيرات يشبهونكِ من بعيد
ملامحك                     
جسدك
طريقة خطوك
وكلما اقتربت أي منهن
أتأكد أنها سرابك الخبيث
الذي يعرف كيف يكون بصرًا حادًا
أتدركين ماذا يعني هذا
أنكِ لن تدخلي أبدًا من هذا الباب
دون موعد لا أقدر على تبريره
بابتسامتك التي لم تومض خارج مخبئي
منذ ثمانية أشهر ويومين وأربع ساعات
وأنكِ لن تجلسي أمام احتضاري الغافل
الذي جررته من أمام صورتك على شاشة اللابتوب في بيتي
إلى هذا المقعد الذي لم يتحوّل رغم الانتظار الطويل
ومراقبة الموتى
إلى عرش سماوي...
أنكِ لن تقرأي لي قصتك الجديدة
لا لكي أساعدك على إعادة خلقها
مثلما تعوّدت الحياة أن ترسم يقينًا قاصرًا لنا
بل لأكتشف أنها رسالتك المشفّرة
التي ليس بوسعها أن تكون خطابًا عاريًا
يخبرني بأنه إذا كان هذا شتائي الأخير
فإنني أستطيع اختلاس نهايتي داخلك.
أتدركين ماذا يعني هذا أيضًا
أن كل من رأيتهن من وراء النافذة الزجاجية الكبيرة
التي تطل على الميدان الواسع
كانوا حقًا أنتِ.
منصَّة (Rê) الثقافيَّة ـ 13 نوفمبر 2018
اللوحة للفنان التشكيلي: أكرم زافي ـ سوريا.

الاثنين، 12 نوفمبر 2018

تأويل المسافات المضمرة في قصائد زهرة يسري

كيف يمكن أن يكون التصاق الجسد بالأشياء التي تمثّل علامات متغيّرة لسجنه المتنقّل واشيًا بالمسافات الموحشة بين الأنا والتفاصيل الأزلية لحصار الواقع؟ .. تحاول قصائد "زهرة يسري" التفكير في هذا الاستفهام بتوالداته الممكنة عبر مشاهد موجزة، وتكثيف لغوي يمرر الكلمات المقتضبة بنعومة نصل بالغ الحدة، ليخلق إيحاءً مستمرًا بطقس مقبض؛ كأن انفجارًا وشيكًا لم يوجد داخل النص، ولكن تم التجهيز لحدوثه لاحقًا، أي في صمت ما بعد الكلمة الأخيرة .. رغم الالتصاق الذي لا يفترض مساحة فيما بين الشيء والآخر؛ إلا أنه يمكن تأمل ذلك الفراغ القاتم والمضمر بين الجسد والأشياء التي تُغلق الحياة من حوله .. الفراغ الذي لا تنجم فداحته عن الرسوخ الدائم فحسب، وإنما في المقام الأول عن غموضه الذي لا يختل أيضًا .. عن كونه متاهة صلبة، وطائشة من الضلالات العدائية بين الأنا والتفاصيل الملتصقة بها .. هو دليل الخصومة بين الجسد وأشياء العالم التي لم يكن بمقدوره سوى أن يتوحّد بها كقرائن شخصية لهوية مسمومة.
"امرأة تنقل النظر من الحائط إلى الكأس 
من الكأس إلى السيجارة                        
من السيجارة إلى الحائط
من الحائط إلى الكأس...
لو كنتَ فى الشرفة المجاورة
لقلت إنها مجرد كائن 
يشرب و يدخن
ستفكر أنها فى يوم 
ستنهض
لتدفن رأسها فى طين الزرع
أعرفها كما أعرف نفسى
الكأس والحائط والسيجارة
ليسوا الأبطال الحقيقيين
المهم هو اختزال المسافة
بين السيجارة وفمها
بين الحائط وعينيها
بين الكأس وأمعائها
الأهم هو ملء الفراغ بين المركز والجسم المتحرك
فى دورانه يغزل شبكة كثيفة من التوهم
كلما ابتعد الجسم كلما ازداد المركز ثقلا".
نحن لا نلمس مجاورة أو اقترابًا بين العينين والحائط، أو الفم والسيجارة، أو الأمعاء والخمر بقدر ما ندرك التصاقًا بين هذه التفاصيل وبعضها، لا تشترطه الحركة الآلية للنظر أو التدخين أو الشُرب .. هناك نوع من الإقرار الضمني بالمداومة لعلاقة الجسد وهذه الموجودات الأمر الذي يجعلها أجزاءً أصيلة من تكوينه لا ترتبط بالفعل الظاهري الذي يحققها .. لهذا لا تكوّن المسافة بين الجسد والأشياء فراغات حسية، وإنما خلاءات وجدانية أشبه بدروب وعرة من الحنين الملتبس .. لهذا أيضًا ستكون الرغبة في اختزال المسافة بين الجسد والأشياء محاولة لترويضها في الذهن .. الاختزال المرادف لجعل الفراغ في موضع المراقبة الاستثنائية .. داخل نطاق التشريح الاستفهامي، المكافح للانفصال عن مكان وزمن النظر إلى الحائط، وتدخين السيجارة، وشُرب الخمر .. ستكون محاولة لتضليل التواطؤ الملغز فيما بين هذه الأشياء، ومقاومة ذلك التواطؤ كي يحصل الجسد على خفة متمنّعة من الخيالات خارج الحدود القهرية لتفاصيله .. هي الطريقة التي يمكن بواسطتها أن نبصر الأشياء كأنما تؤلف جسدًا كونيًا ثابتًا، أما الأجسام الحية التي تمتلك عيونًا وأفواهًا وأمعاءً كأنها جزيئات عابرة، تتلاشى تدريجيًا في رحلات دورانها العمياء حول الجسد الثابت.
"عندما استيقظت كان السقف ملتصقا بأنفي
ارتديت ملابسي
أو بالأحرى ارتدى السقف ملابسي
في العمل حياني الزملاء
أو بالأحرى حيوا السقف
سألتهم ألم تلاحظوا شيئا غريبا
قالوا لا
قلت هناك سقفا ملتصقا بأنفي
قال أحدهم أنه استيقظ يوما
ووجد السرير ملتصقا بظهره وأنه لحسن الحظ
لم يكن ملتصقا بجانبه
هكذا صرح النجار الذي نشر حواف السرير".
هناك من يرصد الأنا في هذا الشكل من الصراع بينها وبين تفاصيلها كأنه حصيلة المراقبة الاستثنائية، والتشريح المكافح للانفصال عن المكان والزمن .. كأنه ناتج الخيالات المتخطية للقهر (أحد ما في الشرفة المجاورة مثلًا) .. الراصد الذي يتخذ طبائعًا مختلفة من التمثّل، وصورًا متفاوتة من الوضوح والاختفاء .. هذا الذي يرصد الأنا هو المسافة المضادة لتلك التي بين الجسد والأشياء .. النسخة المقابلة لهذا الجسد الممتزج بالمسافة كرجاء يكمن على بُعد خطوات من العزلة .. لذا؛ فذلك الراصد ـ لكونه محتفظًا بهذه المساحة المفترضة والفارقة بينه وبين نفسه في لحظة التفاوض مع وحشية المسافات ـ  ربما بوسعه تأويل هذا الفراغ القاتم والمضمر بين الجسد الأصلي أو الواقعي، والأشياء التي تُغلق الحياة من حوله .. هو رغبة في وجود هذه الكينونة المبهمة التي تتأمل الأنا من نقطة تبدو خالصة من التورط .. أن تكون هذه الكينونة هي الذات لتلك الأنا العالقة .. لذلك ستدعي هذه الذات مع تكرارها المتباين في قصائد زهرة يسري حيادًا ضروريًا .. ستتظاهر بالغياب، أو تتنكر في انعدام الصلة، أو تختلس حضورًا غير منحاز .. لا تريد هذه الذات أن تكون جزءً من المتاهة الصلبة، والطائشة التي تُشكّلها الضلالات العدائية بين الأنا والتفاصيل الملتصقة بها .. لكنها تكشف عن وجودها أحيانًا كراصد مختبئ ومؤوّل للمسافة بين الجسد والأشياء عبر إشارات متناثرة .. كأن هذه الإشارات رموز من الآثار الناجمة عن تأمل الذات للأنا التي تخوض الصراع (أعرفها كما أعرف نفسي).
"معنى أن تنجو
أن تفيق في أي وقت فيقتحمك سطوع الضوء
يرغمك الليل أن تصير جزءًا منه
التماهي مع السواد يجعل عينيك وأسنانك كألق النجوم
يصير قلبك جزءًا من الخشب الذي تجلس عليه
تتوحد عيناك بعيني خروف قبل ذبحه
وصوتك بنباح كلب ضال .
معنى أن تنجو
أن تتلوى مثل قطط الربيع
على الرصيف المدبب بالليل والصمت.
لكن لماذا يجب أن تنجو
ويدك المرفوعة في الفراغ
ما هي إلا يد في وضع التشبث المخيف".
ليس غريبًا أن ترصد الذات تشبث الأنا بتفاصيلها رغم الوعي بكونها قرائن لهوية مسمومة .. هي مرغمة على ذلك لأن هذا فقط هو كل ما لديها، وما يحتّم عدم النجاة .. خبرة الخوف التي لا ينبغي استبدالها بخبرة خوف أخرى لم تُجرّب، وهذا ما يعنيه حصار الواقع؛ حيث يقدر الكأس أن يكون الليل، والسيجارة أن تكون عيني الخروف، والحائط أن يكون نباح الكلب الضال .. لهذا فإن ما يمكن أن تؤديه الذات هو تحويل المسافة بين الأنا وهذه التفاصيل أو "إطار التشبث" إلى ما يشبه الحلم من خلال توحّد مناقض .. الحلم الذي يُعادل شرطًا لحقيقة مجهولة، محرّضة على اقتفاء الاحتمالات المتعددة لتجسيدها .. الذي يستطيع ـ كنجاة واردة تتبدل ملامحها المعتمة باستمرار ـ أن يتضمن كل ما يمكن أن يكون خارج الفضاء الأساسي للخوف، أي الفراغ الأصلي بين الجسد والأشياء ..  كأن الذات تطمح بهذا الحلم لجعل الأشياء عناصر لهوية كونية مغايرة .. هوية فاضحة لتفاصيل الأنا، وتحديدًا للكيفية التي تُدبّر تعارضاتها هذا التواطؤ ضد الأنا .. هكذا يتوقف التشبث عن أن يكون أداءً قهريًا، ويتحوّل إلى مطلق آخر يجب مراقصته دون الإمساك به.
مجلة "عالم الكتاب" ـ أكتوبر 2018

الاثنين، 5 نوفمبر 2018

الكتابة والنقد الأدبي: ما يشبه موسوعة للشر "3"

أقدم في هذا المقال الجزء الأخير من قائمة الانتقادات والمآخذ التي اعتادت الدراسات النقدية والمراجعات وتدوينات القراءة على توجيهها للأعمال الأدبية والنقدية العربية مع ضرورة الأخذ في الاعتبار أن كل "ممارسة لغوية عدائية" مما تتضمنه هذه القائمة من الممكن أن ينجم عنها سياقات لا نهائية من ظواهر "القهر الاستباقي" التي تستمد طاقتها البلاغية من الممارسة نفسها .. من الضروري أيضًا الانتباه إلى أن هذه الانتقادات دائمة الاستهداف للنص الأدبي لا تنفصل عن تلك المجابِهة للمتون النقدية حيث تتخذ هذه المآخذ أنساقًا لغوية تستوعب هذا التمايز بين "الكتابة" و"النقد" دون أن تتخلى عن شروطها المعرفية .. لذا فالعداء البلاغي ـ كسلطة للقهر الاستباقي ـ ليس كاتبًا أصليًا فحسب، بل ناقدًا أصليًا أيضًا .. في الأسبوع القادم سأطرح تفكيكًا مختصرًا لموسوعة الشر هذه يتضمن المقارنة بين محتوياتها، تحليل ما تنحاز إليه وما تحجبه، ومقاربة الدوافع التي تُسيّرها:
ـ استخدام المجاز الرومانسي، واستعمال التشبيهات والاستعارات العاطفية المركّبة خاصة تلك التي تعتمد على الربط بين المشاعر الشخصية، وعناصر الطبيعة وتحولاتها.
ـ الاعتماد على التيمات المستهلكة سواء فيما يخص العلاقات البشرية، سرد الواقع، الرصد التاريخي، الأبنية الخيالية، تناول العالم الخاص وتبدلاته وحركة التفاصيل المتناقضة داخل وخارج حدوده، تفسير الحياة والموت، أو مشاهد التنبؤ.
ـ عدم تأويل النص بشكل يضمن الحصول على معنى محدد أو قيمة ثابتة أو مغزى واضح.
ـ تحويل جماليات العمل الأدبي إلى شذرات من عدم الثقة، احتمالات تفتقر للاستقرار، وخيالات جدلية، محرومة من تأكيد الغاية.
ـ التغاضي عن تعيين الوجود خارج النص كمسار معرفي تتم القراءة من خلاله: حياة الكاتب الشخصية ـ أعماله السابقة ـ الواقع السياسي والاجتماعي الذي أثّر في كتاباته.
ـ استدعاء التناص الذي يساهم في تشتيت الدلالة، وضياع الغرض وسط المعاني التي تفرضها النصوص المستعادة داخل العمل الأدبي، وهو السلوك النقدي الذي يرمز إلى عدم الاعتراف بوجود حقيقة مطلقة، أو أصل للإدراك.
ـ تجاهل النقد لمحاربة الأفكار والسلوكيات والظواهر "الغربية" في النص.
ـ المساهمة في امتهان الجسد بتطويع الأدوات النقدية للاحتفاء بالأعمال المنحلة أخلاقيًا.
ـ عدم إرشاد النقد الأدبي للكاتب كي يتمكن من تحسين كتاباته على المستوى الجمالي والإنساني.
موقع "الكتابة" ـ 4 نوفمبر 2018

السبت، 3 نوفمبر 2018

شال أحمر يحمل خطيئة: إنقاذ أجاممنون من أبوته


ثمة جسد أنثوي يحاول أن ينتج خطابه في مجموعة "شال أحمر يحمل خطيئة" لسعاد سليمان والصادرة عن دار روافد لا بواسطة التحرر من "الأبوة" بل عبر تحرير "الأبوة" نفسها .. تخليص هذه الأبوة من قهرها الذاتي "التاريخي"، وبالتالي تعطيل الأسباب العدائية التي يمكن أن تمنع الجسد الأبوي من الاستجابة للأحلام الأنثوية التي تسعى للتمثّل .. كأن "إلكترا" تكافح لإنقاذ أبيها من الصور المتعددة للخصاء / الموت حيث تتجاوز فكرة الانتقام إلى إعادة خلق الأب خارج هويته القامعة، وبالضرورة منح تجسدّاته المختلفة طبائعًا مغايرة، قادرة على تخليص الجسد الأنثوي مما يبدو مصيرًا حتميًا.
"برأسي أسئلة لا أستطيع الإجابة عليها؛ فهل لديك ما يبدد حيرتي؟ أفتش في عيونها الوقحة، أبحث داخلهم عن ذرة إحساس بالذنب، عن صحوة ضمير! .. تبتلعني شراستها، تنهرني، تهددني، أنكس رأسي، أخاف وعيدها، أخشى أن يفضحني يقيني، فتنكل بي، لم أعرف كيف أوقف الطوفان، ولا كيف أتقيه، كنت على الحافة أستمسك بيقظتك".
الكتابة هي سبيل هذا الانقاذ الأنثوي للأب من الخصاء / الموت الذي يتمثل كما في قصة "دورق أخضر فارغ" في الغياب والغفلة .. تتخطى الذات في القصة محاولة الثأر البديهية من الأم مصدر الخوف والتهديد والعقاب التي تعشق الصهيل تحت الذئاب والثعالب والكلاب أو بشكل آخر "إعادة الأب إلى عرينه" إلى جذب هذا الأب نحو الحضور داخل ذكوريته المطموسة تحت "الحنان" الذي يرمز له اللون الأخضر في الدورق الفارغ .. إلى استرداد الهوية الأصلية الجديرة به، والتي تكمن لدى ابنته .. هنا يبدو الوصف الذي تقدمه الابنة لخطوط الشبق في وجه الأم كأنه في حقيقة الأمر رسمًا متنكرًا لشبق الابنة نفسها .. الشبق الذي لا يريد أن ينتقم من جسد الأم الممنوح للجميع، المتمنّع على الأب، بقدر ما يكافح لإرجاع هذا الجسد للأب في صورة أخرى، نقيًا ومتجاوزًا حدوده .. بقدر ما يكافح هذا الشبق لتذويب هؤلاء "الجميع" في جسد الأب وهو يكتشف ويشكّل هذا الجسد الأنثوي الذي عاد إليه في صورة بديلة من خلال الابنة.
"فارغ أنت أيضًا يا أبي، لم تر مواجعي، لم تدرك ما لم يقله لساني، لم تصلك ذبذبات الجسد الممنوح للجميع، المتمنع عليك، لم يتوقف عقلك دقيقة للتحليل والتفسير، كيف لا تعرف خطوط الشبق في وجه امرأتك؟، الجميع يلتقطون رغبتها المتوهجة، يقدمون وجباتهم السريعة لنهم لا يشبع".
علينا أن ننتبه إلي الحيلة الرمزية التي خطتها سعاد سليمان في نهاية هذه القصة؛ إذ حوّلت حضور الدورق الأخضر الفارغ من إشارة لاختفاء الأب وحضور عاشق متلهف على وطء الأم إلى جعل اختفاء هذا الدورق قرينًا لاختفاء الأب، وهو ما استهدف غرضين مزدوجين: الأول؛ وضع الأب ـ كعاشق أكثر رجولة ـ في مكانة استحواذية تزيح أنصاف الرجال كافة من عشاق الأم بحيث يعلن غياب الدورق عن عدم الحاجة للوجود على سور الشرفة حين يختفي الأب، والثاني تجريد الأم من سلاح خيانتها "الدورق المنتصب" كي لا تستطيع استخدامه في غياب الأب .. هكذا يمكن لانتصاب الدورق الفارغ في الذاكرة أن يكون علامة لاسترداد الأب بمعزل عن الأم، ومن ثمّ يمكنه أن يواصل خلق أحلام هذه الابنة مع كل أب آخر.
"أوشوش لأبي بما يجهل، صارت أذناه شمعًا أحمر، تضخم فمه يحاول ابتلاعي، ينهرني بعصبية ونفاذ صبر، يبحث عن عصا يؤدبني بها، أحوم حوله بإصرار: تمهل يا أبي، أنا الأثيرة لديك، كيف تنكرني؟!".
تتخذ قصة "دموع الفراشة" المسار ذاته أثناء توجيه الخطاب الأنثوي / الطفولي بشكل مباشر إلى الأب مع استمرار المحاولة لإنقاذه من "الغفلة"، والتي تتجسّد هذه المرة في صورة صمم يمنع هذا الأب من الإنصات إلى الألم السري لطفلته .. الطفلة التي تريد من أبيها تحديدًا أن يساعدها على النجاة التي لا تقتصر على فرديتها بل تلك النجاة المشتركة التي يمكن أن تتسم بنوع من التواطؤ بين الأب وابنته ..التواطؤ القادر على تضليل الأم والإخوة، وبناء مخبأ غامض تجد فيه الأبوة المحررة والبنوّة الأنثوية نشوتهما المتوحّدة .. حيث يمكن لجسدين متباعدين أن يمتزجا خارج سلطة العائلة .. لكن سعاد سليمان لا تترك هذا "الحلم" دون علامات تفكيكه .. المعاول الاستفهامية التي تحفر في الصلابة الأبوية اللامبالية، الراسخة في الاتجاه المضاد .. لهذا فالذي يكتب الخطاب الأنثوي هنا هو تلك التساؤلات حول إنكار الأب للانتهاك الذي يحاصر ابنته .. عدم الإنصات لها .. عدم فهم رسائلها المتوارية .. القهر في استجابته لوشوشتها عن الألم .. هذه الاستفهامات لا تخص الطفلة وحدها بل تتعلق بالأب أيضًا .. باستسلامه للخصاء .. للموت الذي يؤجّل تحرير "الأبوة"، وبالتالي يقف ضد اكتشاف هذه الأبوة للحلم الأنثوي .. الحلم الذي تحوّل عند الطفلة إلى كابوس مبهم لا يمكن معه أن تميّز البول الناجم عن خوفها رغم الاختباء في ملابس أبيها عن دموع الفقد.
"لم يشفع شرحه الوافي الذي يؤكده بفخر لا يروق لهن، إن شظية استهدفته في حرب لم نكد نخوضها، عاد بعين زجاجية أقصى ما قُدم له حتى لا تصير بقعة مجوفة تثير الأسى، يرحلن بكثير من الشفقة ومشاعر الأسى وأمنيات طيبة بالسعادة مع أخرى، يتجاوز غيظه وسخريته من سطحيتهن، هل يعيبه نصف العمى وهو المقاتل بغير سلاح؟".
تتكرر محاولة الإنقاذ الأنثوي للأب في قصة "عين زجاجية لرجل وسيم"، حيث تتخذ غفلته شكل العماء المجسّد في عين زجاجية لرجل اكتسب أبوته المجازية من الحرب التي أفقدته إحدى عينيه .. الراقصة "ياسمين" التي منحها عشقها للعائد من "النكسة" طبيعة الابنة التي تحلم بتخليص الوسيم صاحب العين الزجاجية من رفض بنات الحي له، وتنبيهه إلى الفخورة المحبة التي لا يستطيع رؤيتها إلا كشبح عابر .. التي تحلم بأن يخوض هذا الرجل "قتالًا حقيقيًا" ضد عمائه، يحرره من أثر حرب "لم نكد نخوضها"، الأمر الذي سيساهم في تحريره للأنثى / الراقصة "منقوصة الإنسانية" عند النساء، والشهية التي لا يمكن المجازفة بالزواج منها عند الرجال.
"كيف تملكين جسدًا يحمل كل هذه الوقاحة، أتوه فيه يا سيدتي، فهو دائمًا منفلت الشهوة، لا يعرف حد الاكتفاء، خارج مقاييس الالتزام، وأنا رجل مخدوع بتاج السيادة، أهكذا كل النساء؟ أم أنتِ فقط من تحترف الشراهة؟".
يتقمص الخطاب الأنثوي في قصة "قلب موشوم على قدم" صوت الرجل كي يمرر جوهره الشبقي من خلال هذا الصوت .. كأن صوت الرجل هذا هو محاولة تفسير عدم إنصات الأب لابنته  في قصة "دموع الفراشة" .. لا تحتجب الشهوة الأنثوية هنا وراء انشغال بأب غافل أو حبيب نصف أعمى، وإنما تعلن عن نفسها بشكل مباشر ومراوغ في الوقت ذاته من خلال العجز الذكوري عن مجابهة الشبق الأنثوي الذي يصفه الرجل بالوحشية .. لا يبدو أن الرجل هو الذي يتكلم بقدر الأنثى التي تتقمصه .. هذا التقمّص المخادع لا يمنح الحرية للأنثى ـ في المجموعة ككل ـ للإعلان عن شبقها فحسب، وإنما يمنح الحرية للرجل / الأب أن يفضح سر خصائه أيضًا .. عدم القدرة على مواجهة النهم الأنثوي .. يفضح الجدران اللغوية التي يستعملها الرجل في الاختباء من الرغبة الجامحة للأنثى: الوقاحة ـ عدم الكفاية ـ الخروج عن مقاييس الالتزام .. لذا فالرجل الكسيح بفعل الشهوة الأنثوية العاتية لا يتحدث عن نفسه فقط، وإنما عن "الرجل / الأب" في ذاته، مثلما لا يخاطب أنثى محددة، وإنما "الأنثى / الابنة" في ذاتها التي لا يستطيع مفارقتها، وفي الوقت نفسه يكره "توحشها في التهامه".
ربما يشعر قارئ "شال أحمر يحمل خطيئة" أن سعاد سليمان تتحرك داخل ما يمكن أن يعد إرثًا هائلًا من الثوابت الحاكمة للعلاقات بأشكالها المتباينة، ولكن علينا مراقبة كيف تفكر قصصها في الطريقة التي تكوّن بها هذه العلاقات نماذج بشرية لا تستطيع الهروب من تصديق "تاريخيتها" .. لا تضع سعاد سليمان هذا التاريخ كوجه واحد متعدد التفاصيل، وإنما كـ "خطايا" ملتبسة، لا تتوقف عن تشكيل ملامح الموت في وجوهنا .. لذا فإننا بطريقة ما يمكننا العثور على هذه الرغبة الأنثوية "الأمومية" لدى الابنة في إنقاذ الأب داخل حتى ما يبدو فارغًا منها أو يُظهر تنافرًا أو تناقضًا معها .. هناك دائمًا إلكترا التي ربما لا تريد دائمًا أن تقتل كليتمنيسترا بقدر ما تريد إنقاذ أجاممنون من أوهامه الأبوية كي لا تبقى عالقة في كابوسها للأبد.
جريدة "أخبار الأدب" ـ 4 نوفمبر 2018