الاثنين، 12 نوفمبر 2018

تأويل المسافات المضمرة في قصائد زهرة يسري

كيف يمكن أن يكون التصاق الجسد بالأشياء التي تمثّل علامات متغيّرة لسجنه المتنقّل واشيًا بالمسافات الموحشة بين الأنا والتفاصيل الأزلية لحصار الواقع؟ .. تحاول قصائد "زهرة يسري" التفكير في هذا الاستفهام بتوالداته الممكنة عبر مشاهد موجزة، وتكثيف لغوي يمرر الكلمات المقتضبة بنعومة نصل بالغ الحدة، ليخلق إيحاءً مستمرًا بطقس مقبض؛ كأن انفجارًا وشيكًا لم يوجد داخل النص، ولكن تم التجهيز لحدوثه لاحقًا، أي في صمت ما بعد الكلمة الأخيرة .. رغم الالتصاق الذي لا يفترض مساحة فيما بين الشيء والآخر؛ إلا أنه يمكن تأمل ذلك الفراغ القاتم والمضمر بين الجسد والأشياء التي تُغلق الحياة من حوله .. الفراغ الذي لا تنجم فداحته عن الرسوخ الدائم فحسب، وإنما في المقام الأول عن غموضه الذي لا يختل أيضًا .. عن كونه متاهة صلبة، وطائشة من الضلالات العدائية بين الأنا والتفاصيل الملتصقة بها .. هو دليل الخصومة بين الجسد وأشياء العالم التي لم يكن بمقدوره سوى أن يتوحّد بها كقرائن شخصية لهوية مسمومة.
"امرأة تنقل النظر من الحائط إلى الكأس 
من الكأس إلى السيجارة                        
من السيجارة إلى الحائط
من الحائط إلى الكأس...
لو كنتَ فى الشرفة المجاورة
لقلت إنها مجرد كائن 
يشرب و يدخن
ستفكر أنها فى يوم 
ستنهض
لتدفن رأسها فى طين الزرع
أعرفها كما أعرف نفسى
الكأس والحائط والسيجارة
ليسوا الأبطال الحقيقيين
المهم هو اختزال المسافة
بين السيجارة وفمها
بين الحائط وعينيها
بين الكأس وأمعائها
الأهم هو ملء الفراغ بين المركز والجسم المتحرك
فى دورانه يغزل شبكة كثيفة من التوهم
كلما ابتعد الجسم كلما ازداد المركز ثقلا".
نحن لا نلمس مجاورة أو اقترابًا بين العينين والحائط، أو الفم والسيجارة، أو الأمعاء والخمر بقدر ما ندرك التصاقًا بين هذه التفاصيل وبعضها، لا تشترطه الحركة الآلية للنظر أو التدخين أو الشُرب .. هناك نوع من الإقرار الضمني بالمداومة لعلاقة الجسد وهذه الموجودات الأمر الذي يجعلها أجزاءً أصيلة من تكوينه لا ترتبط بالفعل الظاهري الذي يحققها .. لهذا لا تكوّن المسافة بين الجسد والأشياء فراغات حسية، وإنما خلاءات وجدانية أشبه بدروب وعرة من الحنين الملتبس .. لهذا أيضًا ستكون الرغبة في اختزال المسافة بين الجسد والأشياء محاولة لترويضها في الذهن .. الاختزال المرادف لجعل الفراغ في موضع المراقبة الاستثنائية .. داخل نطاق التشريح الاستفهامي، المكافح للانفصال عن مكان وزمن النظر إلى الحائط، وتدخين السيجارة، وشُرب الخمر .. ستكون محاولة لتضليل التواطؤ الملغز فيما بين هذه الأشياء، ومقاومة ذلك التواطؤ كي يحصل الجسد على خفة متمنّعة من الخيالات خارج الحدود القهرية لتفاصيله .. هي الطريقة التي يمكن بواسطتها أن نبصر الأشياء كأنما تؤلف جسدًا كونيًا ثابتًا، أما الأجسام الحية التي تمتلك عيونًا وأفواهًا وأمعاءً كأنها جزيئات عابرة، تتلاشى تدريجيًا في رحلات دورانها العمياء حول الجسد الثابت.
"عندما استيقظت كان السقف ملتصقا بأنفي
ارتديت ملابسي
أو بالأحرى ارتدى السقف ملابسي
في العمل حياني الزملاء
أو بالأحرى حيوا السقف
سألتهم ألم تلاحظوا شيئا غريبا
قالوا لا
قلت هناك سقفا ملتصقا بأنفي
قال أحدهم أنه استيقظ يوما
ووجد السرير ملتصقا بظهره وأنه لحسن الحظ
لم يكن ملتصقا بجانبه
هكذا صرح النجار الذي نشر حواف السرير".
هناك من يرصد الأنا في هذا الشكل من الصراع بينها وبين تفاصيلها كأنه حصيلة المراقبة الاستثنائية، والتشريح المكافح للانفصال عن المكان والزمن .. كأنه ناتج الخيالات المتخطية للقهر (أحد ما في الشرفة المجاورة مثلًا) .. الراصد الذي يتخذ طبائعًا مختلفة من التمثّل، وصورًا متفاوتة من الوضوح والاختفاء .. هذا الذي يرصد الأنا هو المسافة المضادة لتلك التي بين الجسد والأشياء .. النسخة المقابلة لهذا الجسد الممتزج بالمسافة كرجاء يكمن على بُعد خطوات من العزلة .. لذا؛ فذلك الراصد ـ لكونه محتفظًا بهذه المساحة المفترضة والفارقة بينه وبين نفسه في لحظة التفاوض مع وحشية المسافات ـ  ربما بوسعه تأويل هذا الفراغ القاتم والمضمر بين الجسد الأصلي أو الواقعي، والأشياء التي تُغلق الحياة من حوله .. هو رغبة في وجود هذه الكينونة المبهمة التي تتأمل الأنا من نقطة تبدو خالصة من التورط .. أن تكون هذه الكينونة هي الذات لتلك الأنا العالقة .. لذلك ستدعي هذه الذات مع تكرارها المتباين في قصائد زهرة يسري حيادًا ضروريًا .. ستتظاهر بالغياب، أو تتنكر في انعدام الصلة، أو تختلس حضورًا غير منحاز .. لا تريد هذه الذات أن تكون جزءً من المتاهة الصلبة، والطائشة التي تُشكّلها الضلالات العدائية بين الأنا والتفاصيل الملتصقة بها .. لكنها تكشف عن وجودها أحيانًا كراصد مختبئ ومؤوّل للمسافة بين الجسد والأشياء عبر إشارات متناثرة .. كأن هذه الإشارات رموز من الآثار الناجمة عن تأمل الذات للأنا التي تخوض الصراع (أعرفها كما أعرف نفسي).
"معنى أن تنجو
أن تفيق في أي وقت فيقتحمك سطوع الضوء
يرغمك الليل أن تصير جزءًا منه
التماهي مع السواد يجعل عينيك وأسنانك كألق النجوم
يصير قلبك جزءًا من الخشب الذي تجلس عليه
تتوحد عيناك بعيني خروف قبل ذبحه
وصوتك بنباح كلب ضال .
معنى أن تنجو
أن تتلوى مثل قطط الربيع
على الرصيف المدبب بالليل والصمت.
لكن لماذا يجب أن تنجو
ويدك المرفوعة في الفراغ
ما هي إلا يد في وضع التشبث المخيف".
ليس غريبًا أن ترصد الذات تشبث الأنا بتفاصيلها رغم الوعي بكونها قرائن لهوية مسمومة .. هي مرغمة على ذلك لأن هذا فقط هو كل ما لديها، وما يحتّم عدم النجاة .. خبرة الخوف التي لا ينبغي استبدالها بخبرة خوف أخرى لم تُجرّب، وهذا ما يعنيه حصار الواقع؛ حيث يقدر الكأس أن يكون الليل، والسيجارة أن تكون عيني الخروف، والحائط أن يكون نباح الكلب الضال .. لهذا فإن ما يمكن أن تؤديه الذات هو تحويل المسافة بين الأنا وهذه التفاصيل أو "إطار التشبث" إلى ما يشبه الحلم من خلال توحّد مناقض .. الحلم الذي يُعادل شرطًا لحقيقة مجهولة، محرّضة على اقتفاء الاحتمالات المتعددة لتجسيدها .. الذي يستطيع ـ كنجاة واردة تتبدل ملامحها المعتمة باستمرار ـ أن يتضمن كل ما يمكن أن يكون خارج الفضاء الأساسي للخوف، أي الفراغ الأصلي بين الجسد والأشياء ..  كأن الذات تطمح بهذا الحلم لجعل الأشياء عناصر لهوية كونية مغايرة .. هوية فاضحة لتفاصيل الأنا، وتحديدًا للكيفية التي تُدبّر تعارضاتها هذا التواطؤ ضد الأنا .. هكذا يتوقف التشبث عن أن يكون أداءً قهريًا، ويتحوّل إلى مطلق آخر يجب مراقصته دون الإمساك به.
مجلة "عالم الكتاب" ـ أكتوبر 2018