مدخل نظري
كثيرة هي الدراسات التي تناولت أثر التراث الشعبي في القصة القصيرة
المصرية، ولكن هل تقتصر حاجتنا على الاستمرار في تكديس المقاربات التي لا تتجاوز
تحليلاتها التوظيفات المباشرة للحكايات الشعبية ـ التي تعنيني بشكل خاص ضمن هذا
التراث ـ في المشاريع القصصية المختلفة؟ .. بما أن التراث حصيلة دائمة الاستزادة
والتغيّر، فإنني لا أفكر في مجرد الخروج عن القوالب المنهجية في تشريح طرق
الاستلهام المتعددة للتراث الشعبي في القصة القصيرة المصرية، وإنما في إعادة تعيين
التراث نفسه، وذلك لا يعني سوى التحرر من التنميط الشائع للفولكلور كحاضن للخرافة
والموروث الحكائي والثقافة الشفاهية، أي من الأفكار واليقينيات السائدة التي تحتكر
هذا التراث داخل سياقات محددة من الرموز والتقاليد.
يزخر الواقع المصري بالأحداث الغرائبية الجديرة بخلق واكتشاف العلاقات
بين تراكماتها المتنوعة، وما نعتبره مندرجًا في نطاق الحكايات الشعبية .. لنتخيل
مثًلا المواويل الريفية التي كان يغنيها القتلة في القصص القديمة، أو كلمات
القراصنة المغتصبين وهم ينهبون المدن ويحكمونها، أو مشاهد الغيلان التي تأكل البشر
والحيوانات ليس فقط داخل الجرائم الراهنة التي توصف أحيانًا بالأعاجيب الصادمة
المتخطية للخيال ـ كتعذيب واغتصاب وقتل الأطفال مثلًا ـ والتي تواجه بالاستنكار
وعدم التصديق رغم استمرارها المتزايد فحسب؛ وإنما كذلك داخل ما لا يبدو على المستوى
الظاهري شرًا، أو مصدرًا للعنف، أو صورة للانتهاك .. هذا التخيل ينبغي أن يكون
دافعًا للانشغال النقدي بالاحتمالات المعرفية والجمالية التي يمكن أن تنشأ عن الجدل
بين هذه الأحداث، والقصص القصيرة المصرية التي حملت أشكالًا من التناص مع التراث
الشعبي .. لا أتحدث هنا عن المقارنات المألوفة أو المزج التقليدي بين متن سردي
سابق، ومتن واقعي مماثل، بل عن رصد التأثيرات الناجمة عن خلخلة وتقويض ما هو طبيعي
ومنطقي ومسالم بل ومقدس إذا ما تم إقحام ما يبدو متنافرًا ومتخاصمًا معه داخل
البنية التي تكوّنه .. سيؤدي هذا إلى
إعادة تأويل وإنتاج القصة والشخصيات والأحداث، وبالضرورة إلى إعادة تأويل الموال،
والقرصنة، والوحشية الخارقة .. هذه الاستراتيجية لا تعتمد فقط على التقابل بين
المتشابهات سواء بين القصص التي تستخدم الموروث الشعبي وبعضها، أو بين هذه القصص
والوقائع السياسية والاجتماعية، كما لا تستهدف الوصول إلى صيغ أخرى منسجمة من
معطيات الفكر، بل تسعى أيضًا إلى استلهام القصص الممكنة ـ خاصة غير المتناغمة مع
الدلالات الأصلية ـ والمحتجبة داخل كل سردية معلنة .. إنها مساعدة الخطاب على أن
يفرز تمثلاته غير المنضبطة، أي التي لا تخضع لنظامه اللغوي الأساسي، ومن هنا لا
يبقى المعنى مرهونًا للتحوّل فحسب، بل يتغيّر تاريخه أيضًا.
يتحالف نقد القصة القصيرة على هذا النحو مع إرادته النصية؛ أي يستجيب لرغبته
في أن يكون قصة أخرى، لا تتوازى مع النص موضوع العمل فقط، بل تتخذ كذلك مسارًا
مغايرًا له، ينفتح على إمكانيات سردية دائمة .. يكون النقد جزءًا من المخيلة
الشعبية التي يفككها ويتجاوزها صانعًا أساطير مضادة للثوابت والمسلّمات التي تقوم
عليها .. تجابه هذه الأساطير المضادة الحقائق المضمونة، والعلاقات الحاسمة التي
تناقلت وتجذرت عبر المشافهة والتدوين الحكائي .. تتحوّل قصص النداهة والكائنات
الخرافية والجان والسحر والآبار الملعونة والمستنقعات والأشباح والحوريات
والمخلوقات العملاقة والصفقات مع الشيطان ونبش المقابر والتهام الجثث إلى دوافع
نقدية مقاومة لنفسها، أي للدلالات المهيمنة المقترنة بها، والتي امتلكت بداهة
مطلقة عبر الزمن.
إن قراءة القصص التي استوحت "الظاهر بيبرس"، أو "سيف
بن ذي يزن"، أو "علي الزيبق" على سبيل المثال يمكنها ألا تتوقف عند
حد إعادة التأكيد على نفس الغايات المثالية القديمة التي يتعاقب النقّاد على
تمريرها بكيفية روتينية نظرًا لكونها تمثل القيم السهلة، الحاضرة في متناول الذهن
على الدوام، ولا تثير بعفويتها المروّضة شعورًا بالرفض بل على العكس تُلبي احتياج
القرّاء إلى لغة مُطمئِنة، ذات غنائية مخادعة، غير مستفزة، ولا تُفنى مهما تم
استهلاكها.
نموذج تطبيقي
لنقرأ هذه القصة القصيرة التي كتبتها منذ وقت بسيط:
النفق
"يجلس عامل النظافة العجوز على الأرض بجوار مقشته القديمة داخل
نفق المحطة حيث تصل القطارات وتغادر فوق رأسه .. يرتشف من كوب الشاي الذي في يده
ويردد مع "فاطمة عيد" التي ينبعث صوتها من المسجّل الصغير في يده
الأخرى: "ع الزراعية أنا رحت أقابل حبيبي" .. يعبر المسافرون أمامه
وينظرون إليه فيبعد عينيه عن عيونهم .. عدا رجل واحد فقط .. رجل في منتصف العمر
حينما مر أمامه ونظر إليه لم يحرّك وجهه إلى الناحية الأخرى .. كان في ملامح هذا
الرجل شيئًا ما جعل عامل النظافة العجوز يريده أن يرى تلك الدموع الخافتة في
عينيه، التي ترتجف دائمًا مع دوي القطارات".
ربما ينظر الناقد التقليدي إلى هذه القصة باعتبارها تجسّد حالة حنين
مؤلمة، تحفزها إحدى أيقونات الفن الشعبي "أغنية فاطمة عيد" المقترنة
بدوي القطارات حيث ذاكرة الرحيل الفادح وشوق الرجوع المتمنّع: إلى القرية التي
غادرها عامل النظافة العجوز منذ زمن طويل ولم تعد كما كانت .. إلى حبيبته التي
افترق عنها .. إلى أحلامه المبكرة التي لم تتحقق .. قد يفكر هذا الناقد في أن
الرجل الوحيد الذي أراده العجوز أن يرى دموعه ربما يكون وجهه مشابهًا لأحد وجوه
قريته ومن ثمّ أراد أن يحصل منه على عزاء ما، أو أنه اكتشف نفس الفقدان المعذّب في
هذا الوجه فيحاول أن يستمد من خلاله نوعًا من التكاتف، أو أنه يحمل نفس ملامحه حين
كان في منتصف العمر فيرسل إليه ما يشبه التحذير التائه، المتلازم بشكل من التماهي
مع صورته القديمة التي لم يعد عليها، والرغبة في أن تتخذ حياته مسارًا مغايرًا،
تتبدل معه بالتالي حياة العجوز ومصيره بطريقة مبهمة .. قد يلصق هذا الناقد برموز
القصة ذخيرة التفسيرات المتكررة الأقرب إلى المحفوظات المدرسية: مصر هي الحبيبة
التي تغني في صوت فاطمة عيد، وباعدت التحولات السياسية والاقتصادية والاجتماعية
بينها وبين حبيبها الذي أصبح عجوزًا مكسور القلب .. المقشة هي علامة القهر الطبقي
الذي تسبب في هذه الغربة بين عامل مسكين، وقريته التي شهدت متغيرات مدنية عنيفة
كرّست لانفصال أبنائها عنها، وتركتهم عالقين في نفق لا يستطيعون اجتيازه؛ فأصبح لا
فرق بين العجوز وبين ما يكنسه بهذه المقشة .. الرجل العابر الذي لم يُبعد العجوز
عينيه عنه هو المخلّص المنتظر الذي يحلم العجوز أن ينقذه ـ حينما يرى دموعه ـ أي
أن يعيد إليه حبيبته "مصر" كما كانت.
لكن بالنسبة لي فإن العجوز هنا ليس مجرد شخص يشعر بالحنين تجاه ذكريات
معينة، ويجابه مأساته الخاصة، المترتبة على وجوده في لحظة محددة من التاريخ، في
مكان كمصر، بل هو ذات تخوض مواجهة متحسّرة مع كل ما آمنت به وصدّقته .. مع الوعد
الذي كان يمثله صوت فاطمة عيد في الماضي، ليس بتحقيق أحلامه تجاه القرية والحبيبة
والوطن، بل بأنه سوف يكتشف ذات يوم ما هو مستتر في الأحلام نفسها، الأمر الذي لم
يتحقق أبدًا .. أغنية فاطمة عيد تذكّر العجوز بالعماء الذي كان كامنًا في طموحه
البدائي، ولا يزال غير قادر على الإفاقة منه، بعد أن تحوّل تدريجيًا، ومع مواصلة
الإيمان والتصديق إلى ظلام كامل .. لذا يحاول العجوز عبر هذه الأغنية أن يستعيد البداية
محاولًا فهمها، استنطاق ما كانت تخبئه حين سمعها للمرة الأولى، تذكيرها بالشيء
الذي كان ينبغي أن تفعله رغم كون هذا الشيء لا يزال محتفظًا بغموضه ومراوغته ..
الأغنية ليست مجرد حمولة عاطفية مثيرة للشجن بل ممرًا كان يجب أن ينتقل العجوز
بواسطته من خيال مدرك إلى واقع ملغّز، ولكن هذا الممر المفترض تحوّل إلى نفق مقبض
.. كأن العجوز يحاكم تحت وطأة المحبة المخذولة هذا المجهول الذي أصبح خبثًا
متواريًا في تلك الأغنية المسالِمة .. المجهول الذي أصبح تجهيزًا ودعمًا للفقد ..
وبالمثل تصبح المقشة القديمة كأنها العكاز المخاتل الذي لا يساعد العجوز كي يعبر
النفق .. العكاز الذي يمثل تجاربه وخبراته كافة، ويقينياته تجاه المبادئ المطلقة
تحديدًا .. أما النفق فلا يجب أن يكون أقل من الوجود نفسه، وليس ما أصبحت عليه
"مصر" .. الزمن الذي يبدأ وينتهي دون إمكانية للتحرر منه، أي حيازة سفر
استثنائي مستحيل يحفر دوي القطارات في جرحه الغائر .. كأن دموع عامل النظافة
العجوز هي دليل عجزه عن فهم لماذا لم يحصل على الحماية من كل ما تصوّره هذه
الأغنية وما يشابهها .. أي شيء في داخله أجبره على اعتناق هذا الذي يقدم نفسه
كحقيقة غير قابلة للشك .. لماذا يتحتم على المرء ألا يمتلك سبيلا آخر، أو فرصة
للنجاة خارج هذا الحصار، أو على الأقل أن يستوعب ما حدث .. ولن يكون غريبًا أن
يكون هذا العجز هو الدافع الأكثر قوة للاستمرار في الاستماع إلى هذه الأغنية ..
للتمسّك بها .. ليس بوصفها تذكيرًا بالغفلة السحرية القديمة فقط، وإنما كتوسّل
لها، لجمالها الذي اعتقده العجوز منذ زمن طويل إشارة للأمان الذي لا يمكن تهديده
.. أما الرجل العابر فهو الاحتمالات المرآوية لهذه الذات التي يمثلها عامل النظافة
العجوز، ملامحه المختلفة عبر الزمن، الوجه المغاير الذي لا يخصه، ولكنه يعطي
إيحاءات باتخاذه نفس المسار عبر الحياة والموت .. لذا فرغبة عامل النظافة العجوز
لأن يرى هذا العابر تحديدًا دموعه تنطوي على الأمنية اللائقة بكل احتمال: المواساة
.. التضامن .. التنبيه .. المحو .. ربما رأي عامل النظافة العجوز في ملامح هذا
الرجل الذي في منتصف العمر مشابهة لما يثقل قلبه المنهك، جعلته يشعر بأن هذا الرجل
يمكنه توثيق حياته القادر على تخيلها عبر هذه الدموع،أ أن يكتب حكايته، أي يُعيد
خلق آلامه بالكلمات فينقذه على نحو آخر، ليس بوسعه تحديده، ولو بمجرد هذه المقاومة
اليائسة للنسيان .. لكنها ليست الأمنيات المنكمشة داخل الأطر المباشرة التي سبق
وتحدثت عنها، ولكنها الأمنيات التي تتعلق بالعجوز كفرد وحيد، خارج الهويات المتعسّفة،
يجمع فقط القمامة التي يخلّفها لعب الزمن بالقطارات، وهي تتوهم أنها تنتقل من مكان
لآخر.
صحيفة "المثقف" العراقية ـ 29 نوفمبر 2018