الثلاثاء، 30 مارس 2021

أن تصدمك نكتة قديمة

أظهر العديد من الكتّاب و"المثقفون" صدمتهم تجاه ردود أفعال أعضاء جروبات القراءة على فيسبوك بعد موت نوال السعداوي .. هي صدمة مضحكة بالفعل لأن جروبات القراءة لم تكن في يوم ما "معسكرات تنوير" وإنما ساحات مراقبة وعقاب تقليدية، ولم يكن أعضاؤها "خلايا نائمة" وإنما كانوا دائمًا حشودًا نشطة، كما لم يكن هؤلاء القراء مخفيين أبدًا بل على العكس كانوا في غاية الوضوح ويعلنون عن أنفسهم طوال الوقت .. كانت معسكرات تنوير، وخلايا نائمة وفي حالة خفاء فقط بالنسبة لهؤلاء الكتّاب و"المثقفين" الذين شعروا بالصدمة.

كل ما في الأمر أن هؤلاء القطعان من القراء قد أثبتوا مجددًا وبصورة ناصعة كل ما سبق أن كتبته عن طبيعة وجودهم في كتابي "نقد استجابة القارئ العربي ـ مقدمة في جينالوجيا التأويل" 2019:

"نحن أمام قراء يتحدثون ـ صدقًا ـ باسم جماعات ترتقي لأن تكون شعوبًا مهيمنة، وتتشارك بصيّغ عديدة في أنماط وجماليات لها من التطابق والتقارب ما يُغري بالنظر إليها كتيارات وظواهر قرائية تمتلك انسجامها وخضوعها الخاص لذاكرة أو بالأحرى لجذور تكاد أن تكوّن فيما بينها ملامحًا أزلية لكاتب أصلي يواصل إنتاج نسخ لا حصر لها من ذاته .. هؤلاء القراء يتحدثون باسم جماعات اندماجية تم تكوين الأطر الفكرية لها (تاريخ القراءة كأحد أنماط الوعي) من خلال إخضاع معطيات المعرفة (الكتابة كأثر يسهل رصد درجة انسجامه أو عدائيته للواقع الفردي بوصفه ابنًا للمقدس) لما يمكن تسميته بـ (غريزة التحريم) بمستوياتها وأشكالها المتعددة .. هذا يعني ضرورة المقاومة الأخلاقية ـ كاحتياج يجب إشباعه، وكما تحددها الطبيعة المراوغة للتآلف والجدل والرفض بين الذات ولحظة الحقيقة التي صارت إليها المراكمة الثقافية ـ لتحويل تجربة الحاضر (قراءة عمل أدبي مضاد للانحيازات القيمية والجمالية) إلى مبرر لتغيير خبرة الماضي (محاكمة القيم والجماليات) .. تقف هذه الجماعات ـ بما تواصل الاحتماء به واستهلاكه بلذة روتينية من التكدس المتواصل للقوانين (حيث تحضرالمؤسساتية بكامل هيمنتها عبر شبكات الأنساق والأدوار التفاعلية للقراء) التي تتخذ صيغًا متنوعة قابلة للتبدل ـ ضد انتهاك العلاقة بين الفضاء التمثيلي (اللغة)، واليقين الذي يجسّده (التأويل المحكوم بما يُعتبر المبادئ الكلية للثقافة كما أقرتها عمليات الترويض) .. بين العالم كما يبدو من خلال الكلمات (البراهين والحجج)، والقرار المتخذ سلفًا بشأن ماهيته (الإخصاء الاستباقي للفكر) .. بين الواقع (حيث لا يوجد ما يمنع من حدوث أي شيء)، والعقل (حيث لا يجب الشك في المقدس مهما حدث أي شيء)".

وكذلك ما تناولته عن الأصول التاريخية التي تقود ممارساتهم في نوفيلا "مقتل نجمك المفضل":

"ارتباك الجالسين في حضرة الدكتور الموبّخ .. الإله الذي يؤدب الأنبياء وهم في طريقهم للألوهة .. (ما أعنيه بالتشوهات والانحرافات هنا هو الوصف التفصيلي المقزز لممارسات مريضة وشاذة) .. الرمز، صاحب السلطة التطهيرية للمثقف المقاوِم لما سيطلق عليه بمجانية مرتعدة "ركاكة ـ ابتذال ـ انحطاط ـ سطحية ـ سوقية ـ شذوذ ـ باطل" في مقابل مقاييس فرض الوصايا والرقابة البلاغية على الكتابة ومحاكمتها "القواعد ـ المفاهيم ـ التقاليد ـ الأعراف ـ الشرعية ـ التنوير ـ الحقيقي" .. (واستخدام المصطلحات العامية شديدة الفجاجة و البذاءة).. من أجل تبرير إقصاء الكاتب وتهميشه وتحجيم دوره في انتهاك القيم والمحرمات .. في تحدي المكرّس والمتأصل والهش في الوقت نفسه .. (والتشويه البشع لصورة الأب و الأم).. تماسك المرويات الرسمية وآلهتها الذين يلقب كل منهم بـ "الظاهرة"، في حين أن من يلقبون هؤلاء الكتّاب، أو يعتبرونهم كذلك فائضون بالفراغ والتزمت والعجز، الذين لا يدركون أن ما يصنع "الظاهرة" تاريخ من العوامل السلطوية الثقافية والاجتماعية "ليست السياسية المباشرة فقط كما يتصوّر السذج" التي تفاضل وتصنّف وتفرز، لا الكتابة نفسها .. (مع هوس مفرط بالجنس يصل لدرجة الاستشهاد بنجمات البورن مع ذكر أهم مواقعهن وأفلامهن و مشاهدهن!) .. الالتزام .. إهمال وتجاهل من هم خارج المجمّع المقدس .. (يمكنني التدليل على ما أقصد بذكر أي اقتباس مما يذخر به هذا الجزء من الرواية، لكنني بدلًا من ذلك – ولعدم رغبتي في الإسهام في نشر هذا الفحش وتلك البذاءة - سألجأ للاقتباس مما ذكره الكاتب على لسان الشخصية التي تمثله في الرواية – وهو ما لن يخلو من بعض الألفاظ الخارجة التي لن يمكن اقتطاعها من السياق للأسف) .. الأصالة .. (يبقى تعليق أخير لي عما أراه إيجابيًا بشأن هذه الرواية، وهو أنه لم يقرأها أحد... تقريبًا!) .. الأدباء والنقاد والمفكرون والمثقفون والقرّاء كتائب أمنية ودينية لفرض الامتثال القانوني والأخلاقي للكتابة .. لهذا ينعم الكتّاب اللاعبون في المضمون، والذين لا يتحدون السائد، ولا يجابهون أي سلطة بمزايا المهادنة الجماعية .. (فالرواية الصادرة من شهر إبريل الماضي ليس لها إلا تقييم واحد بخلافي على موقع الجودريدز وهو ما أراه مؤشرًا مطمئنًا إلى حد ما) .. محاكمة الدكتور التي برأته كانت سببًا في محاكمة وعقاب لاحقين له، ذلك لأن الدكتور نفسه لم يحاول قتل فكرة الرقابة من الأساس ـ التي يستمتع بممارستها شخصيًا ـ والجزاءات الناجمة عنها ومن ضمنها المحاكمات القضائية .. (فكما انتقدت من قبل أذواق القراء الذين يرفعون من أسهم روايات أراها لا تستحق إلى عنان السماء) .. "عميد الأدب العربي" الذي يحدد ويفصل ما هو الأدب وما هي اللغة الأدبية، من هو الكاتب ومن ليس كاتبًا، وبالتالي ما يجب أن يكون موضع الاهتمام القرائي والاحتفاء النقدي ومن يجب أن يُنبذ ويُعاقب .. كان الدكتور نفسه جزءً من الادعاء بما قام به بعد المحاكمة وما لم يقم به .. استغل عدم تجريمه في ممارسه دوره القضائي على الكتابة والفكر الذي يدعم السلطة الرقابية بمعناها الواسع، ويتضمن كل سبل الردع والعقاب الثقافي .. (أرى واجبًا الإشادة بإعراضهم عن مثل هذا الغثاء الذي قرأته بدافع الفضول البحت!).. العنجهية الجوفاء المريضة التي ترشد وتطوّع وتكافئ وتعاقب".

كل ما في الأمر أن هؤلاء الكتّاب و"المثقفين" المصدومين كانوا ـ ومازالوا ـ يستمتعون بخمولهم الغافل أمام الريفيوهات التي يكتبها هؤلاء القرّاء، والتي تبدو أليفة بالنسبة لهم في حين أنها فاضحة لما يُكوّنهم وما يمثلونه، ولما هم على استعداد للوصول إليه في تلك التدوينات .. لم يكن لدى هؤلاء الكتّاب و"المثقفون" حاجة للتوقف أمام تلك المراجعات وتحليلها وتقويض ما تستند إليه طالما أنهم يستفيدون من إشاداتها أحيانًا بأعمالهم، وبل وتمجيدها لهم لأسباب لا ترجع كلها إلى كتبهم نفسها .. هذه سطور أخرى من "نقد استجابة القارئ العربي":

"لا تتعلق هذه الخلاصات بكتابة معينة، بل تبدو عند تتبعها كأنها أصل غريزي، تطغى هيمنته بأشكال متعددة على المراجعات العربية؛ فمن السائد على سبيل المثال احتفاء القرّاء ـ حتى داخل الأعمال التي تبدو معقدة ـ بالجوانب التي تعطي انطباعًا ـ مهما كان خادعًا ـ بالبساطة، أو سهولة الفهم، أي التي لا تستلزم بذل جهد في استيعابها. كأن النص يقوم بمهمة التلقين مثلما يجب على أي مصدر معرفة أن يفعل امتثالًا لما يفرضه المصدر الكلي الأكبر للمعرفة، وهو المقدس.

ليس هذا فحسب، بل تحاول هذه التدوينات أيضًا إخضاع ما ليس مفهومًا إلى الشروط العفوية للإدراك المباشر، أو النطاقات غير المجهِدة، التي لا تستفز أو تجادل الثوابت المضمونة. كأنها تسحب هذه المتون "العسيرة" بعيدًا عن إبهامها الشائك، الذي ربما يناوش محظورًا ما، أو يقترح تساؤلات لا يجدر طرحها إلى حالة من التجريد القسري الذي ينقّيها من الخصائص "الصعبة"، ويمنحها الطبيعة المسالمة، أي البسيطة والمفهومة الأقرب إلى درس أو عظة أو رسالة قيمية ينبغي الاستفادة منها".

كأن هؤلاء الكتًاب و"المثقفين" كانوا ينتظرون ردود أفعال هؤلا القراء بعد موت نوال السعداوي حتي يعرفوا "حقيقتهم غير البريئة" .. ليس هذا فحسب بل كأنهم كانوا ينتظرون ردود أفعال هؤلاء القراء بعد موت نوال السعداوي حتى يكتشفوا الكتّاب و"المثقفين" الآخرين الذين يدعمون الرؤى (الظلامية) والأفكار (الداعشية) التي يعتنقها هؤلاء القراء .. أعود ثانية إلى "نقد استجابة القارئ العربي":

"هذه السطور لم يكتبها أحد القراء في مراجعة له على موقع جودريدز، وإنما كتبها (الناقد الكبير الدكتور) صلاح فضل في مقاله عن رواية (الحريم) لحمدي الجزار في جريدة (المصري اليوم)، وتحديدًا في 18 أغسطس 2014. لكنها بالفعل تبدو سطورًا يمكن أن يكتبها أي قارئ. أي قارئ (أبوي) لا ينظر إلى الجنس سوى بعين الاختزال التقليدي، وبصرف النظر عن أن هذا الاختزال في حد ذاته لا ينبغي تحريمه أو تجريمه فإن علينا الانتباه إلى هذا الوعي العام بجذوره الثقافية الصلبة، والذي لا يُفرّق بين الشخص الذي يتم اعتباره ـ بحسب التصنيف السائد ـ قارئًا عاديًا، وبين الناقد الأكاديمي القدير، أو عالِم اللغة المخضرم.

(هناك كتابة أدبية يضاف لمنجزاتها قدرتها على فضح الوهم الفاصل بين "الناقد"، ومن يسمى بـ "القارئ العادي" .. بين رسول كليات الآداب، المنتفخ بفاشية قيم وأخلاق "السيد أبو العلا البشري"، والمكلف بإخضاع البشرية للثوابت التي لا صحيح غيرها للسمو والجمال، وبين الشاب الذي يعتبر نفسه "قارئًا عاديًا"، ولم يخطر في باله وهو يكتب ريفيوهات للكتب على "جودريدز" أو "أبجد" أن يسمي نفسه "ناقدًا"، رغم أنه يبحث أيضًا في كل رواية عن "الحكاية"، وعن "المغزى النبيل"، ويرفض "البذاءة")".

لكن يبقى الأمر مرتبطًا ـ مثلما كتبت من قبل ـ لا بما يكتبه هؤلاء القرّاء وإنما بما يتكفّل دائمًا بتحويل ما يكتبونه إلى سلطة .. بالآليات الانتهازية التي تدفع كل قارئ لتجاوز فرديته نحو المشاركة في الامتلاك الأبوي لحقيقة مطلقة أو يقين الحياة والموت، الخير والشر، الجنة والنار .. وبالطبع لا يمكن التحدث عن هذه الآليات دون استدعاء قوّاد الكتب الأشهر "جودريدز" .. هذا تذكير متجدد من "نقد استجابة القارئ العربي":

"إن (البلاهة) التي وصف بها (إيكو) مستخدمي الإنترنت لا تتعلق بالبشر أنفسهم، وإنما تكمن أولا وأخيرًا في السياقات المتعسفة التي يُدفعون إليها .. الآليات الناجمة عن الانتهاز الرأسمالي حيث (القارئ الذي يطالع كتابًا) هو (بضاعة تستخدم بضاعة)، وينبغي تسيير هذه العلاقة في خط انتاجها المادي الحديث أي آلة الاستهلاك التي تعطي النتيجة بالنجوم تحت إغراء أن يكون القارئ وصيًا على السلعة / الرواية، مشاركًا في قدرها، وهذا على حساب (صيرورة) الرواية أي حركتها المستمرة، وبالتالي على حساب تحولات هذا القارئ الشخصية داخل هذه الصيرورة .. إن القارئ في وضعيته الأبوية يتحوّل من شخص يمكنه الاستجابة في لحظة غير متوقعة للجدل مع منظور خاص، ولإمكانية التغيير الفردي، ولإعادة ترتيب عالمه بتهديد أقل إلى ذات عارفة .. ذات محصنة، منفصلة عن ذاكرة سبق حسمها، لا تخطئ، وبالتالي لا مبرر لديها للتراجع، مخدوعة بوهم القوة التي حازت عليها عبر التوحد مع الذوات العارفة للآخرين المقررين لحقيقة كتاب".

جروبات القراءة وقنواتها، وبكل ما تحمله من أسماء استعلائية سخيفة وبائسة ليست مجرد كيانات تريد لأنفسها تميزًا مجانيًا مسالمًا داخل "عالم القراءة" المفتوح على فرص لانهائية للاستغلال واكتساب القيمة، وإنما هي ممارسات فرض قوة تحمي نفسها استباقيًا بواسطة تلك الأسماء الجوفاء التي توهم بالتفوق أو "بعدم العادية" سواء كان القارئ الذي ينتسب إليها "محترفًا" أو "أصليًا"، حتى يكون لنتائج ما تؤديه تأثير يشمل الكتابة ونقدها وتداولها، ليس كرد فعل وحسب، وإنما كرادع قيمي وجمالي يتقدم على حدوثها .. إن القارئ الذي يفوز دائمًا بـ "تحديات القراءة"، ويعيش كآلة كتابة ريفيوهات الصواب والخطأ، ولا يفوته حفل توقيع، ولا يغيب وجهه عن صورة لمناقشة كتاب ما، ويقصده الكتّاب ودور النشر لترويج إصداراتهم كموظف مثالي؛ هذا القارئ ليس مجرد نجم أو تاجر صنعته السوشيال ميديا الثقافية منذ سنوات طويلة، وإنما هو شخص يؤمن ببساطة أنه الأجدر من أي "قارئ" آخر بتحديد مصير نوال السعداوي.

موقع "الكتابة" ـ 29 مارس 2021

الأحد، 28 مارس 2021

"الأقوى" لأوجست سترندبرج: الشخصية المسرحية كمؤلف ضمني

يسهل تفسير صمت الآنسة إيميلي طوال مسرحية "الأقوى" لأوجست سترندبرج ـ وهو التفسير الحاكم لتأويلات المسرحية ـ بعدم وجودها إلا في خيال السيدة إكس، والتي تتحدث إليها بنوع من الاعتراف الثأري البائس حول الحب والغيرة والخيانة .. لكن لنفكر في ذلك التصوّر الأكثر جموحًا: ماذا لو أن الآنسة إيميلي حاضرة بالفعل، وأن الغائبة حقًا هي السيدة إكس؟ .. إيميلي الصامتة طوال الوقت تجلس بالفعل في ذلك المقهى، أما إكس فلا توجد ولا تتحدث إلا في عقل إيميلي؟ .. ماذا لو أن السيدة إكس ليس لها حضور في الحياة مطلقًا؟

لنتخيّل الأمر على النحو التالي: تمتلك إيميلي شخصيتين؛ الأولى هي الآنسة العزباء التي تجلس وحدها في المقهى ليلة عيد الميلاد، وسبق لها أن ارتبطت بعلاقة مؤقتة مع رجل المسرح، وتمت خطبتها لأحد الأشخاص ثم عاشت لحظات من الفرح بالحياة المنزلية التي أرادت أن تتخلى من أجلها عن العمل بالمسرح، لكن انتهى بينهما الأمر بالانفصال.

أما شخصية إيميلي الثانية التي لم تتحقق في الواقع وإنما نسجت حياة كاملة متخيلة لها فهي الزوجة والأم المتباهية بحياتها العائلية بالرغم من هوس النساء بزوجها ذي النفوذ في عالم المسرح .. تشعر شخصية إيميلي الثانية (السيدة إكس) بالخوف والغيرة من الأولى (الصديقة التي لا يمكنها الانفصال عنها بطبيعة الحال)، وتعرف أن زوجها قد قام بخيانتها معها قبل أن يقطع صلته بها .. تكره تلك الشخصية الثانية كل ما يكوّن الشخصية الأولى: الزهور ـ الأماكن ـ الأسماء ـ الألوان ـ الكتب ـ الأطعمة ـ المشروبات .. هذا يعني ببساطة أن الآنسة إيميلي ناقمة على نفسها، ماضيها، حياتها، كل ما يُشكّل هويتها وتعجز عن التحرر منه .. لذا أنتجت تلك الشخصية المناقضة (كأنما تؤلف مونولوجًا مسرحيًا) وأعطتها حياة مغايرة لكي تواجه تلك الشخصية سماتها الخاصة بما لا تقدر هي عليه .. أن تحاكمها .. تحاول الانتقام منها كما لو أنها شخص مختلف عنها في حين أنها هي التي تفعل ذلك تجاه ذاتها من خلال وسيط مخترع .. الآنسة الوحيدة التي إذا ما نظرت في المرآة ترى إنسانة لامبالية، لا تحب ولا تكره، تستولي على نفوس (ضحاياها) بعواطف مصطنعة؛ تقرر أن تعيد خلق نفسها كامرأة متزوجة وأم لطفلين، كأن هذه المرأة هي الحياة التي لم تستطع أن تحققها تلك الآنسة الوحيدة، ولهذا تحاول المرأة (المتخيلة) أن تنفلت من أسر الآنسة (الواقعية) .. أن تحمي عالمها (المتخيل) من الوجود (الواقعي) لإيميلي الأصلية .. تحاول إكس أن تثبت قدرتها على النجاة ـ رغم كل العلامات المتسلّطة التي تحملها من إيميلي كعاهات مستديمة ـ خارج الحرمان الذي تعيشه الآنسة الوحيدة، وأن تحتفظ كـ (خيال) بكل ما فقدته كـ (واقع).

لكن ذلك ليس الدافع الوحيد الذي أنتجت من أجله الآنسة إيميلي نقيضتها السيدة إكس .. لقد خلقت الآنسة الوحيدة تلك المرأة التي لديها زوج وطفلان حتى تُجلسها أمامها في المقهى وتستمع إليها ساخرة بينما تؤكد لها بأنه رغم امتلاكها لحياة عائلية فإنها لا تستطيع أن تتحرر منها .. لا تقدر على التخلص من أسرها .. أن كل الملامح الذاتية التي لدى الآنسة إيميلي ستظل تقبض على وجود السيدة إكس، وتهيمن على علاقتها بزوجها وابنيها مهما ادعت عكس ذلك .. جعلت الآنسة الوحيدة تلك السيدة المتخيلة تقوم بذلك حتى تثبت لنفسها أنها (الأقوى) بدون زوج وأبناء .. أنها لم تخسر لكونها تعيش بمفردها، وتجلس في المقهى ليلة عيد الميلاد بعيدة عن أي رفقة .. ذلك الإنصات الساخر غير المكترث الذي كانت تؤديه الآنسة إيميلي نحو السيدة إكس باعتبارها كيانًا مستقلًا عنها؛ كان مصالحة مع وحدتها .. تبريرًا لخصالها ..  كان توطيدًا لفرديتها في مواجهة أحلام الزواج والأمومة التي تقتلها طوال الوقت.

يبدو الأمر كما لو أن الآنسة إيميلي تعطي مسارين للحياة فرصة للتحقق .. مسارها الحتمي (العنوسة ـ الوحدة ـ التهكم على الحياة العائلية)، ومسارها المتخيل (الزواج ـ الأمومة ـ تحويل الصفات القهرية للذات إلى إمكانات لتجاوز الماضي) .. يبدو الأمر كما لو أن الآنسة إيميلي قد عثرت على ما يكافئ طبيعتها المستقرة، ويعوّضها في نفس الوقت عما حرمتها منه هذه الطبيعة.

أراجيك ـ 27 مارس 2021

الثلاثاء، 23 مارس 2021

القطار

ليست المرة الأولى التي آتي فيها إلى كافتيريا محطة القطارات هذه .. فعلت ذلك كثيرًا .. كل مرة أجمع ملابسي وأغراضي في هذه الحقيبة، ثم أغادر البيت من دون أن يشعر بي أحد .. يحدث الأمر أحيانًا في الصباح، وأحيانًا في المساء .. لكنني دائمًا لا أشتري تذكرة .. أجلس فقط في كافتيريا المحطة مثل بقية المسافرين، كأنني في انتظار قطار ما .. أتناول قهوتي وأدخن بضعة سجائر، وأتخيل مشاهد وداع لم تحدث بيني وبين أولئك الذين تسللت خارج حياتهم وجئت إلى هنا .. دموعهم المتوسلة وضحكاتي المكتومة وراء قناع من ألم الفراق .. أتخيل الخطابات الانتقامية التي سأرسلها إليهم حين أنتقل إلى ذلك المكان البعيد المجهول .. الماضي الذي سأتمكن أخيرًا من أن أحكيه لهم بطريقتي .. بعد ذلك أحمل حقيبتي وأعود ثانية إلى البيت قبل أن يعلم أحد بغيابي .. كأنما لم أستطع اللحاق بذلك القطار الذي كان ينبغي أن يسافر بي .. أعود كشخص آخر يمكنه الوصول إلى حافة ما .. صحيح أنه لا يتجاوزها أبدًا، لكنه على الأقل قادرًا على التظاهر باستعداده لذلك .. بأنه ليس خائفًا، أو أسيرًا للذكريات .. قادرًا على التظاهر بأنه يستطيع أن يتحمّل الفقدان، ولو لبعض الوقت.

أنطولوجيا السرد العربي ـ 19 مارس 2021
اللوحة: Michèle Lehmann (b. 1940). Waiting

الأربعاء، 17 مارس 2021

د. لؤي حمزة عباس قارئًا لنوڨيلا “مقتل نجمك المفضّل”

بدأت بقراءة النوفيلا فور تسلمها، كعادتي مع مجمل كتاباتك، أكملتها ونمت وفي رأسي تتخاطف أطيافها. كتابتك مساحة للمغايرة الذكية والاختلاف المحفز، ليس للأعراف السردية القارة مكان فيما تكتب، قصةً وروايةً، كتابتك تُنتج أعرافها لحظة تحققها، ثمة وعي واضح يقود الكتابة على طريق وعر، شحيح الضوء، ويشاكسها أحيانا، موجها السرد في نوع من النسج والتعشيق مع المنجز الثقافي العام، حيث تحضر الثقافة باباً للسؤال وأفقاً للإحتجاج، وثمة مقاربة بين مقتل نجمك المفضل والشعر، في عنايتها بإنتاج بنيةٍ محددةٍ تكون طريقاً للكتابة وطريقةً للقتل والتمثيل بالجثث ووضع الأقنعة على وجوهها، ورش المني على بطونها، لم يفلت قتيل واحد، رجل أو أمرأة، من دوامة الفزع المحكمة، وهي الدوامة التي دفعت بالقاريء للتحول من فعل القتل الى أفعال الثقافة مستمعاً لصوت طه حسين ومحمود امين العالم وسواهما عبر اقنعتهم الحاضرة جزءا فاعلاً من عملية القتل، فهل كان القناع مادةً لتحول السرد والانتقال بقيم الحكاية من منطقة بوح واعتراف إلى أخرى؟ أعود لتاكيد ما أراه جلياً، بأنك تكتب خارج الراهن، غير معني بما يحدث ويسوٌق ويُقال في عبودية السرد الذي لاهم له سوى تدجين الكتابة وأسر الخيال.

الأحد، 14 مارس 2021

لماذا كان بطل "العنكبوت" مسيحيًا؟

تقوم رواية "العنكبوت" لمصطفى محمود على شخصيتين أساسيتين: طبيب جراحة المخ والأعصاب م داود أو (مصطفى داود) كما في المسلسل الدرامي المأخوذ عن الرواية وقدّمه مؤلفها مصطفى محمود بنفسه، والمهندس راغب دميان مدير قسم أبحاث الراديوم بالقصر العيني .. كلاهما رجل علم، ولكنهما مختلفين: دكتور م داود طبيب تقليدي، يؤمن بأن "كل شيء حقيقي في الدنيا يجب أن يكون قابلًا للإدراك بالحواس، أما ما لا يُرى ولا يُسمع ولا يُشم ولا يُحس ولا يُعقل فهو غير موجود"، وإن كان يتمتع في نفس الوقت بالفضول العلمي والشره للمعرفة .. أما راغب دميان فهو عالِم مبتكِر "يبحث في سر النشاط والحيوية والنمو والتجدد، ويختار خاماته الحية من الأعضاء التي تتصف بهذه الصفات، ويهدف من عمليات الاستخلاص الكيميائي العثور على المادة السحرية الباعثة للحياة والنماء والنشاط"، كما يؤمن بأن "المخ عالم كبير .. أرشيف .. فهرس .. مرجع شامل .. كل يوم من أيام التاريخ مكتوب به ورقة في مخ  الإنسان من الأزل".

لكن هذا ليس الاختلاف الوحيد بينهما فهناك اختلافين آخرين لا يقلان أهمية: دكتور م داود مسالم، لم يدفعه العلم لارتكاب خطيئة، أما راغب دميان سفّاح، لم يتورع عن قتل الآخرين من أجل المعرفة "إنه يسرق .. ويقتل .. نعم ربما كانت هذه الوفاة التي بدت وفاة طبيعية هي جريمة قتل دبرها بوسائله ليحصل على مخ الضحية"، "هل أنا أمام سفّاح مجنون يقتل ضحاياه بالجملة ويتخذ من الأجسام البشرية الحية حقلًا لتجاربه، أو أن ما اكتشفه ذلك الرجل من أسرار جعله يستهين بكل قيمة إنسانية في سبيل أن يضع يده أخيرًا على لغز الحياة" .. دكتور م داود مسلم، راغب دميان مسيحي.

كُتبت الرواية بضمير المتكلم، حيث تدور الأحداث بكلمات دكتور م داود كما دوّنها في المذكرات التي تركها قبل موته، وهذا ما يجعل استفهامًا منطقيًا يفرض نفسه: إذا كان مصطفى محمود يمتلك ذلك الوعي العلمي والخبرات الكيميائية والتشريحية وكذلك القدرة التخييلية التي لدى راغب دميان في الرواية وساعدته على إجراء تجاربه واختباراته؛ لماذا لم يجعل دكتور م داود يقوم بدور راغب دميان؟ .. لكنه استفهام لا يتطلب جهدًا للإجابة: إن (مصطفى محمود) لن يجعل (مصطفى داود) قاتلًا ولو في سبيل العلم .. لن يعطي حتى دور الراوي في القصة لراغب دميان؛ إذ أنه يحتاج هذا الدور للتأكيد على طهارته كشخص يحترم "القيم الإنسانية"، ولإثبات رغبته في المعرفة، وتقصّي الأمور العلمية التي يجهلها .. في المقابل فإن مصطفى محمود كان يحتاج لأن يجعل رجل العلم السفّاح في الرواية مسيحيًا.

مرة أخرى: لماذا؟

لنقارن بين محطات الماضي التي انتقل إليها كل من راغب دميان، ودكتور م داود: على سبيل المثال كان راغب دميان جنديًا في الحرب الأهلية الإسبانية، بينما كان دكتور م داود بهلول "حلبي"، تاجر عقاقير "فارسي"، أسقف "سيناوي"، عاشق "أندلسي"، فارس "عربي" في معركة صليبية ...

أراد مصطفى محمود في رواية "العنكبوت" أن يجسّد تصوّره الخاص حول الشرق بهويته الإسلامية (ذات الجذور المتعددة)، والغرب بهويته المسيحية (التي لا يعطّل سعيها الدائم للتفوق والهيمنة أي اعتبار قيمي) .. النهم المعرفي المغلّف بالتسامح، والتطور العلمي المقترن بالوحشية .. كان راغب دميان يتفوق معرفيًا وعلميًا على دكتور م داود .. لكن دكتور م داود كان أكثر أخلاقية من راغب دميان.

ثمة مشهد محوري في الرواية اجتمع خلاله دكتور م داود وراغب دميان في محطة ماضوية:

"كان ينظر إلى الأشياء وكأنها تشف له عن معان وأشكال غير أشكالها .. وكان ينظر إلى وجهي ويبتسم كالأطفال ويهمس:

ـ أناديك بأي اسم .. أنت لك أسماء كثيرة أكثر من ألف اسم .. أناديك باسمك أيام المماليك .. أم أيام الأتراك .. أم أيام الخلافة الفاطمية .. تصوّر أن اسمك كان في يوم من الأيام "بهلول الحلبي".

وضحك..

وخيّل إليّ أن الاسم يبدو مألوفًا بالرغم من غرابته..

وأردف دميان وهو يبتسم:

ـ بهلول .. بهلول .. تصوّر .. أصلك كنت بهلول الخليفة .. البهلول الذي تتشقلب أمامه لتضحكه .. كنت قصيرًا طول ذراعي هذا .. نعم .. وهذا أنت أراك أمامي الآن وأنت تتشقلب زمان (وأغرق في الضحك) .. كنت ظريفًا جدًا أيها البهلول.

ثم عاد ينظر إليّ في وقار..

ـ الدكتور م داود دكتوراه في جراحة المخ من برلين .. رجل علم محترم. يقف له كل من يراه .. أين هو من بهلول الخليفة".

نلاحظ أن راغب دميان يخاطب دكتور م داود لا كفرد وإنما كمواطن في حقبة سياسية .. يختزل وجوده في هوية جماعية حاكمة .. تلك هي النقطة التي تمثل المقصد الجوهري للرواية.

نعرف في هذه الفقرة أن راغب دميان لم تكن لديه القدرة على أن يعيش نسخته القديمة فحسب، وإنما أن يدرك ما الذي كانت عليه النسخة القديمة لدكتور م داود أيضًا، بل ويحدث لقاء بين هاتين النسختين في لحظة واحدة توازي لحظة لقائهما في الحاضر .. هذه الخاصية "العلمية" تم استدعائها عمدًا لتبرير هذه المقابلة بينهما في الماضي من أجل تثبيت المدلول "السياسي" لما يمثله كل منهما في الرواية.

كيف عرف راغب دميان أن بهلول الحلبي هو النسخة الأقدم من دكتور م دواد؟ .. هل كان راغب دميان هو "الخليفة" أو "رمز الاحتلال الغربي"؟ .. هل دكتور م داود هو نموذج الارتقاء الذي صار إليه الشرقي الذليل بعد التخلّص من الاحتلال؟.

"كنت وأنا طفل أحلم بأني أقود الجيوش، وأفتح الأمصار والأقطار .. وكان قلبي يخفق طربًا وأنا أقرأ عن جينكيز خان وهانيبال والإسكندر وتعذبني الأماني والآمال".  

كان يمكن لرواية "العنكبوت" أن تدور حول العلم، الخيال العلمي، تناسخ الأرواح، الأزلية، الخلود، لكن مصطفى محمود استخدم هذه المفردات في جعل الرواية تدور حول ثنائية مفاهيمية تقليدية تكتشف ذاكرتها وتستشرف المستقبل من خلال وسيطين بشريين متنافرين .. جعلها تدور حول التاريخ أكثر مما تستهدف الزمن .. عن النمط الحضاري أكثر مما تقتحم فكرة الخلق نفسها .. لهذا لم يكن غريبًا أن تأتي خاتمة الرواية فيما يشبه العقاب الإلهي .. الخاتمة التي كرّست ـ رغم الطابع الحميمي المشوّق للرواية ـ غريزة "العلم والإيمان".

أراجيك ـ 14مارس 2021

الأربعاء، 10 مارس 2021

مقتل نجمك المفضّل

خلق المحقق من الإيروتيكا منهجًا نقديًا للمحو، التناص، إعادة كتابة النصوص وتعريفها، تحرير الحياة الشخصية كنص تفاعلي، كآلية مقاومة .. جعل من الأخطاء، اللااكتمال، الشذرات المتناثرة، عدم الانتباه، النسيان، الحماقة، التشوهات، الارتباك، التسويد، الشخبطة، التلعثم، الغفلة، التظاهر بالقوة والاتزان، اللهاث، الحشد، الهفوات، الإيماءات المرتعشة؛ جعل منها جماليات مضادة لاكتشاف الكتابة وإنتاجها دون استقرار أو تنظيم للتداول .. استعمل “مراوغة الإدراك” في تخريب الانضباط الدلالي لفلسفة “شوبنهاور” .. قام بتفكيك سلطة “القراءة” بوصفها اعتداءً ذاتيًا .. رصد “خدعة المشهدية” كطيش رمزي، صراع شبقي بين لاوعي العلامات معتمدًا على أقل العناصر البصرية للإيهام بالدراما في مقابل متن غائب أو نسخ لانهائية من الهوامش المجابهة لسادية النسق، وإطلاق الجموح الشهواني للفكر المتحايل على “المشهد” أو شطحات العنف الذهني الذي يخترق وعوده الشكلية المغدورة .. استخدم الثنايا والفجوات في التوصّل إلى كيفية انتهاك اللغة بوصفها لاهوتًا للشر .. استثمر الإقحامات المتنافرة والمتخاصمة داخل بنية الحكايات الشعبية في تقويض الحقائق المروّضة لتاريخها .. خلق من “الفانتازيا” إلزامًا بهدم ما يُعتقد أنها حدود الواقع التي تبقيه خارج عزلة الغرائبية .. جعل من “الكسل” طريقًا لنزع القيمة وإفساد ميزان الجودة وإتلاف مقياس التميز بين الفروقات، وبين ما يُغفل عنه وما يُنتبه إليه، وبين الجدوى وانعدامها .. فعل هذا كارتكابات مبهجة لمشروع دماغه الملعونة بالكتابة كحياة انتقامية، وتحويل العالم إلى نص هائل يُصاغ من التدوينات اللانهائية الشبقية الغاضبة .. نظريته العصابية في إفساد التناغم وتطبيقاتها في اللعب الفلسفي والمرح النقدي.

https://drive.google.com/file/d/1qWYeCpxjAmwUHGjbKb7v3NYBanDlVw0I/view

أراجيك ـ 10 مارس 2021

الاثنين، 8 مارس 2021

نباتات الشرفة

أين أنا؟ .. ما الذي جاء بي إلى هذه الحجرة؟ .. إنها لا تشبه أي حجرة دخلتها من قبل .. لكن صورتي معلقة فوق جدارها .. كيف أتت هذه الصورة إلى هنا؟ .. مع ذلك أشعر بأنني لست غريبًا تمامًا عن هذا المكان .. ليست صورتي فقط هي التي تشعرني بذلك، وإنما بعض الأشياء التي توجد هنا أيضًا .. هل سبق أن رأيتها في الماضي؟ .. تذكرت .. إنها حجرة جاري العجوز الذي يعيش وحده .. هي نفس الأشياء التي كانت تظهر لي حين يفتح باب شرفته كل يوم بينما أراقبه من وراء باب شرفتي .. نعم، كنت أراقبه .. كنت أتابعه وهو يسقي نباتات تلك الشرفة يوميًا وأتساءل: لماذا يفعل ذلك؟ .. لماذا يعتني بالنباتات؟ .. ألم يجرّب الفقد؟ .. ألا يشعر بالحسرة؟ .. كيف لا يستوعب عجوز مثله أن العالم لا يستحق أن تزرع فيه ولو مجرد نبتة صغيرة؟ .. كان يذكّرني بطفولتي .. مفارقة هزلية أن يذكّرك عجوز بطفولتك .. حينما كنت أملأ شرفتي بالأصص التي تمتد منها الغصون المتشابكة والأوراق الخضراء الكثيفة .. لم أكن قد فقدت حبيبًا بعد .. الآن لم يعد يملأ شرفتي سوى خواء ثقيل من الحسرة المقبضة .. ذلك لأنني فقدت حبيبًا تلو الآخر .. فقدتهم بالبساطة نفسها التي تقضم بها يد لامبالية غصنًا أو تنزع  منه ورقة خضراء .. كنت أرى في جاري العجوز وهو يسقي النباتات أنقاض عالمي القديم .. الوعود المغدورة لأحلامي .. كنت أرى فيه تجسيدًا لوهم الجمال الذي تمارس الحياة من خلاله شرورها .. كنت أكره جاري العجوز .. أكرهه لدرجة أنني مع استمراره في الخروج بوجهه المسالم السخيف إلى الشرفة وسقي النباتات؛ تمنيت موته .. ليس هذا فحسب بل إنني أيضًا تخيلت نفسي أقتله .. آخر ما أتذكره أنني كنت أقف هناك وراء باب شرفتي وأراقب العجوز .. لا أدري ما الذي حدث بعد ذلك ..  كيف جئت إلى حجرته؟ .. لماذا يعلّق صورتي فوق جدارها؟ .. هل كان يعرف أنني أراقبه؟ .. هل كان يعرف بماذا أشعر نحوه؟ .. هل كان يعرف برغبتي في التخلص منه؟ .. لن يمكنني أن أفهم حقيقة الأمر لو بقيت هنا .. ينبغي أن أفتح هذا الباب .. ولكن هناك ما يمنعني .. إنه ذلك الشعور الذي اختبرته كثيرًا .. أنني فقدت أحدًا .. أدرك ذلك الآن على نحو مبهم، ولكن لا يمكنني التأكد .. ربما لو خرجت من هذا الباب سأعرف ما الذي حدث .. لكنني ربما لا أريد أن أعرف .. ربما أريد أن أبقى في هذه الحجرة ولا أغادرها أبدًا.

أنطولوجيا السرد العربي ـ 7 مارس 2021
اللوحة: Lady in black, Symeon Sabbides. Greek 1859 – 1927