تجسّد القصص القصيرة للكاتب الإسباني خوسيه ماريا ميرينو، والتي صدرت
مختارات لها بترجمة عبير محمد عبد الحافظ، عن مشروع "كلمة" ـ أبو ظبي؛
تجسّد اللحظة غير المتوقعة التي تكشف خلالها الذاكرة عن الدافع التدميرى للحياة
بوصفها حاضنًا للموت .. خيال الماضي الذي يمارس ما يشبه الانتقام أو المحو للعالم
الذي تراكم الفناء داخله.
"بينما كانت منهمكة في إشعال نيران المدفأة، بعد أن حملت إناء
الحطب إلى الصالة سمعها تتأفف. جلس في مقعده الوثير مجددًا، وأخذ يتأمل الجهد الذي
تقوم به السيدة العجوز ببرود ونظرة علمية فاحصة، واكتشف حركاتها التي تزداد صعوبة
يومًا بعد يوم، فتبدو وكأنها تزحف، شيء خاص بها. ألسنة اللهب التي امتدت بين الحطب
حولت التعاسة التي يشعر بها إلى إحساس إيجابي مستوحى من ذكريات الشتاء في طفولته،
أوقات الإجازات في الفترات التي كان يتساقط فيها الثلج، ثمار البندق والجوز التي
تشوى على نار المدفأة".
في قصة "الميلاد في
الغرفة العلوية" تحدث هذه اللحظة بتأثير من حضور مفاجئ للشتاء أو
"الدعابة الساخرة التي ألقى بها بعد انقضاء الربيع والصيف" .. تنتج هذه
المباغتة الشتائية استدعاءً للذكريات، الأمر الذي يذكرنا بالرغبة التي يفجرها
الشتاء في تدوين الذكريات كما كتب عنها خوان مياس في رواية "العالم" .. لكن
هذا الاسترجاع للماضي الطفولي سيكون في جوهره تأملًا للموت .. الموت المفاجئ للأب
والذي وضع نهاية للهواية القديمة التي كان يمتلكها شاب ماهر في صنع نماذج السفن
الحربية القديمة .. الشاب الذي سيبدأ الآن ـ بنفس الأدوات التي كان يستعملها في
تشييد تلك النماذج وكاستجابة عفوية لما تمثله الذاكرة في تلك اللحظة ـ سيبدأ في
صنع مجسّم للقرية كزينة للميلاد.
"مشهد المكان غير المأهول دفعه إلى التفكير في ضرورة أن يسكنه
أناس، وبدأ بهمة وحماس في خلقهم: المحافظ، وهو في نفس الوقت مالك أحد المتاجر،
حارس الحدود، والمعلمة، وساعي البريد على دراجته البخارية، والقس، والنساء
والرجال، حيوانات وطيور جارحة. بدأ الجيران يخرجون من بين أصابعه بسرعة غريبة.
الدجاج والحكام والنعاج وجريجوريا. وهو نفسه مرتديًا كوفية الشتاء".
يمكننا هنا أن نعقد مقارنة بين النموذجين: سفينة حربية قديمة، وقرية
صغيرة بكل ما تتضمنه من بيوت وشوارع وبشر .. بين مغامرة الخيال التي أنهاها الموت
المباغت للأب، ورتابة الواقع التي احتلها الموت منذ تلك اللحظة البعيدة .. هنا يتم
تدوين الذكريات بتحريض المفاجأة الشتائية ليس فقط بشكل ملموس، وإنما كماضٍ آخر
أيضًا .. كأن الخيال القديم الذي قتله احتضار الأب سيعود كشبح، وفي التوقيت ذاته
"لحظة الشتاء حيث تُصنع المجسمات الاحتفالية بأعياد الميلاد" ليحاول أن
يثأر من الموت الكامن في الحياة .. كأن الشتاء قد تواطأ حين مر في غير موعده،
متسللا من الزمن نفسه كي يدفع صانع نموذج القرية إلى الانتقام.
"راقب بذعر شديد الحياة التي أخذت تدب في قلب النموذج، عند
الجبل، وفي البيوت، ومياه النهر، وأشجار الحور، بدا كل شيء ينبض بحياة غير قابلة
للشك. وتحول خوفه إلى هلع. تقهقر إلى الخلف حتى وصل إلى باب الحجرة، وضغط على زر
الكهرباء، دون أن يجرؤ على النظر في الظلام الحالك، وأحكم إغلاق الحجرة
بالمفتاح".
لماذا شعر بالهلع حينما بدأ جميع الأشخاص والكائنات في التحرّك داخل
المجسّم؟ .. لماذا أرجع الأمر إلى الهلوسة حين اكتسبت حياة النموذج الإيقاع اليومي
المعتاد للقرية؟ .. هل لم يكن مدركًا لما تسعى الذاكرة للقيام به، أم أنها حيلة
دفاعية "إلهية" ضد التدمير اللاحق؟.
سيتعاقب قتل البشر والحيوانات داخل القرية كإبادة جماعية، ومن البديهي
حين نعرف أن الطريقة الفظيعة التي ذُبح بها الضحايا بعيدة عن أي تفسير؛ أن نفكر في
السكاكين التي استخدمها صانع نموذج القرية في خلقها .. هكذا تكون إعادة الميلاد
بواسطة محو الحياة .. الميلاد الحقيقي الذي يثبّت الفناء كأصل للعالم .. يكون خالق
المجسّم هو الموت كحقيقة تعرف ما تنوي ارتكابه، فلا يصبح موت الأب مباغتًا، وبالتالي
يمكن التقدّم على موت الآخرين المحتوم بخطوة .. هذه الخطوة هي المجاز الضروري
للثأر فلا يكون مجرد تدمير للحياة، وإنما تشريح للفناء .. هي الجوهر الافتراضي
للانتقام من الموت، حيث يمكنك أن تحفر داخل جثث أهل القرية، وهم ما زالوا عالقين
في حركتهم المعتادة .. لكنها ليست هلوسة بقدر ما هي النسخة العارية من الواقع، أو
نموذجه البدائي المحطّم من الأساس.
"في فجر اليوم الخامس الذي وافق الجمعة، وكان يومًا معتمًا مثل
المقلاة السوداء، قرعت الأجراس مجددًا وسط الأجواء الضبابية. وحطمت قوة مباغتة
نافذة أحد المنازل، وسقط الزوجان العجوزان على الأرض غارقين في دمائهما بين حطام خشب
النافذة وقطع الخزف، ولطخت الدماء كل شيء، ووسمت الواقع بطابع دموي لا ينمحي. نظر
إلى الإطار الذي اُنتزع عن الحائط بقوة فائقة، والطريقة التي تحطمت بها الطاولة العتيقة
المصنوعة من خشب الصنوبر، وكأن قوة هائلة انبعثت منها، وهو ما جعله يستدعي صورة
النماذج الصغيرة التي اعتاد أن يصنعها، وكانت تنهار وتتناثر إلى قطع صغيرة حين
يدفعها دفعة خفيفة".
لم تعد هناك سوى قرية واحدة .. قرية المجسّم وقد أصبحت العالم الذي لا
يوجد شيء خارجه .. ليس هذا تداخلًا بين الواقع والخيال، وإنما الوجود الذي
يتجاوزهما، والأكثر هيمنة من الحياة التي تتضمن امتزاجهما .. الوجود الذي يتوارى
داخل صانع النموذج حيث تختلط الجثث بالأشياء المحطمة والمتناثرة .. لكنه حينما
يغطي المجسّم بالخرق البالية ثم يغلق باب الحجرة العلوية بالمفتاح قبل أن يلقيه في
البئر القديمة فإنه سيبدو كأنما يحاول إغماض عينيه عن نهايته المنطقية ـ كواحد من
أهل القرية ـ لن ينجو من الانتقام الذي قرره بنفسه .. كأنه ـ على النقيض ـ يحاول
الانفصال ـ بشكل إلهي أيضًا ـ عن العالم الذي خلقه "نموذج القرية"، وبالتالي
ينتزع نفسه خارج مصيرها بعدما أيقن أن الثأر الذي أراده قد تحقق بالفعل.
"الوقت يمر، والحرب لم تنته. لم تكن تعرف على وجه التحديد
الأسباب التي اندلعت من أجلها الحرب، يحدثهم الواعظ في الكنيسة من المنبر عن
العدو، وكيف أنه مثل الشيطان، يجب أن نخشاه لأنه ينشر العدوى مثل الوباء. في نهاية
الأمر كفت الحرب والعدو عن تقديم أخبار حقيقية، وبدا الأمر، وكأن المجهود الحربي
أصبح هدفه الدفاع عن الوطن والتصدي لمجموعة من الوحوش، أتوا لغزو الوطن من بلاد
بعيدة ومشؤومة مهما كلف الأمر. بلغ الأمر مداه، حتى أنه في أحد الأيام وصلت إلى
البلدة عربة حربية فيها مجموعة من معتقلي الحرب، وخرج جميع الجيران لرؤيتهم، فإذا
بواحدة من السيدات تعرب عن دهشتها والمفاجأة المحبطة التي شعرت بها حين رأت أن
الأعداء لا يبدون بالشكل الشيطاني نفسه الذي تحدث عنه القس".
سيؤدي غناء الزوجة في قصة "الهارب من الجندية" دورًا
مشابهًا لمجسّم القرية .. يعود زوجها المحارب الهارب من الخدمة العسكرية بعد أن
جرحته شظية إحدى القنابل اليدوية، وأصبح عليه الآن أن يختبئ من جنود الحرس الوطني
الذين لو نجحوا في القبض عليه سيكون مصيره الموت .. ذات صباح لن تجد الزوجة إلى
جوارها المحارب الهارب، بل ستعثر عليه ميتًا أعلى الهضبة بين الصخور وقد فُتح جرحه
مجددًا خلال محاولته الطويلة للهرب من الجنود .. يكتب ميرينو أن الزوجة بعد عودة
زوجها وقبل موته كانت تغني في بعض الأحيان، وهي بين أهل القرية دون قصد منها، وكان
أهل القرية في صمتهم يستقبلون تصرفها بدهشة .. الغناء تحت وطأة الخوف والتكهنات
المشؤومة .. تغني الزوجة بالعفوية ذاتها التي شيّد صانع نماذج السفن الحربية مجسّم
القرية بها .. الغناء الذي يسترجع ذاكرة الموت .. التاريخ الشخصي للزوجة وعلاقتها
بزوجها وبأهل القرية .. الغناء الذي يحاول تعطيل مفاجأته المتوقعة .. تغني الزوجة
كأنها تريد أن تتقدّم على النهاية المنتظرة .. كأن ذلك هو طريقتها الخاصة في
الانتقام من الحرب.
"قدم الدكتور بعد ذلك فرضية جديدة أدهشت سيلينا باييخو، وهي أن
الكلمات إحدى الأدوات الأساسية لتواصل الجنس البشري، حافظت على بقائها بفضل
المجهود العنيف الذي تبذله الذاكرة، ويقوم به كل إنسان بشكل مستمر منذ معرفته
الأولى بمبادئ اللغة الأساسية، وإذا حدث وتعثرت هذه الإرادة السرية، بفعل النسيان،
فإن هذه القلعة اللغوية الضخمة سوف تنهار. دون أدنى شك ـ بحسب ما قاله ـ فإن هذا
ما حدث له؛ لقد كف عن بذل أي مجهود في داخله، لكي يتذكر ويصوغ أصوات الجمل، التي
تنبع أصواتها من محيط الطبيعة مثل خرير المياه، وصوت الرعد، وحتى ضجيج المحركات.
كتب الدكتور سوتو عبارات أخرى: في الكلمات المكتوبة توجد إشارة للأشياء .. الأشياء
التي توجد بالفعل هي فقط التي لها أسماء .. الكلمات هي العالم".
لكننا حينما نتحدث عن محو الحياة فكأننا نشير إلى اللغة التي يكمن
الموت داخلها .. في قصة "كلمات العالم" يختفي الدكتور سوتو بعد أن أصبحت
العبارات بالنسبة له مجرد أصوات غير مفهومة .. اللغة هي ادعاء الوجود، حيث يمارس
الموت عمله، وبالضرورة فإن فقدانها يبدو كوظيفة للخيال الذي سبق أن جرّد أهل
القرية من الحياة، أي حينما نزع عنهم تلك الأجساد التي تكوّنها الكلمات حتى يتمثل
الفناء ناصعًا .. اللغة إذن كأنها القاتل الذي يزيّف أدلة إدانته، الأمر الذي
يعيدنا إلى حديث الواعظ في الكنيسة عن الحرب في قصة "الهارب من الجندية"
وعلاقته بغناء الزوجة قبل موت المحارب .. هنا يصبح الحيز الفارغ من الطبيعة الذي
اختفى الدكتور سوتو داخله كأنه الأصل الغامض لما قبل الكلمات أي ما قبل الزمن ..
كأنه العدم الذي يسبق الموت.
من الجدير بالانتباه بالنسبة لي أن قصة "كلمات الموتى"
للكاتب الفرنسي فيليب كلوديل تمثل اندماجًا بصورة ما بين قصتي "الميلاد في
الغرفة العلوية" و"كلمات العالم" لخوسيه ماريا ميرينو:
"ربما ليس لأن حقيقة أو معرفة مخلّصة ستتسرب خلسة أو تنكشف على
نحو مفاجئ من مناقشة تقليدية أو جدل مكرر؛ بل ربما لأن العماء التام لا يمكنه
العيش والخلود إلا بواسطة الكلمات، وهو ما يعني الفناء اللحظي السهل والبديهي
للعميان بطبيعة الحال .. وحدها الغفلة تلك التي تبدو حاكمة للغة البشر في المواقف
المختلفة، وحامية لقرار التعتيم الأزلي على أي إمكانية أو فرصة للفهم أو للتبرير
.. الغفلة التي لا يمكن السيطرة على خفائها الممتد لكل حيز ومقصد واحتمال للحروف المتداولة
في الحياة والموت .. ذلك الشيء أو تلك المسارات والسياقات المتبلدة والمتشابكة
التي لا يسكنها سوى موتى".
في قصة كلوديل التي تدور في القرون الوسطى يموت الناس أثناء الثرثرة
العادية، فاتحين أفواههم دون فزع .. كأن هؤلاء الموتى هم أهل القرية التي شيّد نموذجها
صانع مجسّمات السفن الحربية القديمة، وكأنهم جميعًا الدكتور سوتو الذي اختفى حين
لم تعد هناك كلمات .. القتل الجماعي الناجم عن تحوّل اللغة في لحظة مفاجئة من قناع
للحياة إلى وجه للموت .. من التظاهر بالوجود إلى بلوغ ذروة الفناء الكامن منذ
الكلمة الأولى.
جريدة "أخبار الأدب" ـ 5 مايو 2019