الجمعة، 26 فبراير 2021

جريمتا شارع مورج: تبرير قسري لنقيض "بو"، وتناغم مع مثلية كونية

كيف لم ينتبه أحد إلى إنسان الغاب أو يشعر به طوال المسافة من بيت البحار الذي هرب منه، وحتى منزل السيدة ليسبانيه، وابنتها الآنسة كاميل حتى مع (هدوء الشوارع لأبعد حد)؟ .. أين اختفى ذلك القرد في الفترة ما بين مذبحة شارع مورج، والقبض عليه بمعرفة صاحبه البحار؟ .. هل تبددت وحشيته المسعورة فجأة بحيث لم يترك أثرًا داميًا أو تخريبيًا واحدًا يشير إلى وجوده بالمدينة، وبالضرورة يكشف عن صلته المحتملة بمقتل الأم وابنتها؟

لم يجب الراوي في قصة إدجار آلن بو عن أسئلة كهذه لأنها تقوّض ذلك النظام الصارم من الفروق الملفقة بين قوة التحليل والبراعة الذهنية، والذي خُلقت على أساسه شخصية صديقه سي أوجست دوبان .. النظام الذي يمكن إنتاج نسخ مماثلة له دون حد، استنادًا أيضًا إلى اختلاقات صلبة من الفروق الناجمة عن إرادات شخصية مختلفة فحسب، مثلما ستتغافل تلك التحديدات كذلك عن الانقطاع البديهي الذي يفكك تماسكها المفترض من دون أن يخضع لمنطق أو توقع: الشرود المباغت خارج سياق التفكير نتيجة دافع مبهم أو مؤثر لحظي .. الومضة الذهنية التي تنتهك بشكل غامض ومفاجئ التسلسل المتناغم من التأملات الاستدلالية .. الذكرى المتنافرة التي تقطع الطريق على نحو ملغّز وغير منتظر أمام تدفق الملاحظات والاستنتاجات المترابطة.

لهذا لم يكن مفيدًا للراوي في قصة بو اختراع نماذج إثباتية لتلك الفروق، أو التأكيد المتكرر على انبهاره المذهول بعقلية صديقه دوبان .. وبتقمّص روح ذلك الصديق الذي تخيّل هذا الترتيب لتفكير الراوي خلال تجوالهما: "شانتيلي ثم كوكبة أوريون ثم الدكتور نيكولس ثم الفيلسوف إبيقور ثم علم قطع الحجارة ثم حجارة الشارع ثم بائع الفاكهة"؛ يمكن تصوّر ـ كمجرد مثال موازٍ ـ أن كلمة علم قطع الحجارة التي تفوّه بها الراوي أعقبها استدعاء لمشهد من الماضي كان يسير خلاله مع أبيه في شارع مرصوف بشكل مشابه، وأن ثمة أشجارًا في ذلك الشارع كانت تُشكل فروعها العالية مع غيوم السماء لوحة أخّاذة، وهو ما دفع الراوي للنظر إلى أعلى محاولًا استرجاع ذلك المنظر القديم، ومن ثمّ لم يكن غريبًا في تلك اللحظة أن يتذكر التنبيه المتكرر لأبيه الذي يمشي إلى جواره بضرورة أن يفرد قامته، وهو ما جعله يعدّل انحناءته ويسير منتصبًا .. ذكريات يفترض أن دوبان لا يعرفها، وقد تكون هي مصدر كل الأداءات الصامتة للراوي، ولهذا لا يكفي أن تكون ثمة معرفة مشتركة، أو معلومات تضمنها حديث سابق بين الصديقين حتى تكون استنتاجاته صحيحة.

لكن بو أراد أن يكون دوبان محقًا .. أن تكون كل ملاحظاته سليمة واستنتاجاته صائبة، بالرغم من أنه يمكن استبدالها كليًا بملاحظات واستنتاجات مغايرة لن تكون أقل صحة منها .. أراد أن يصوغ بشكل متعجّل وهزيل معلومة القبض على إنسان الغاب في نهاية القصة كأنما يواري جثتي الأم وابنتها بحفنة تراب أو بورقة جريدة أثناء عاصفة.

لماذا أراد بو ذلك؟ .. لأن دوبان هو النسخة المضادة لـ "بو" .. لأن بو كما نعرفه في "القلب الواشي" أو "القط الأسود" مثلًا كان يحلم بقرينه المناقض .. يختبر العقلانية مقابل جنونه الدموي .. المنطق مقابل كوابيسه التدميرية .. كان بو يجرّب وحدته الغامضة في عناية نظير عكسي؛ يمتلك الوضوح المثالي والرصانة المنهجية .. ما الذي يثبت ذلك؟: بحث الصديقين عن كتاب واحد نادر جدًا واستثنائي جدًا في لقائهما الأول (يتعمّد الراوي عدم ذكر اسمه، ولكنه يثبت التحالف بينهما من خلال الاتفاق على أمر "نادر جدًا واستثنائي جدًا"؛ أي أن هذا الكتاب يعادل الذات الفريدة التي تكوّنت باندماجهما) .. الكآبة الغريبة التي تميّز مزاجهما المشترك .. معيشتهما معًا في قصر بمنطقة مهجورة ومنعزلة .. عدم البحث في الخرافات التي أبقت القصر خاليًا كتوطيد للعقلانية .. انقطاعهما عن الزملاء والمعارف السابقين، والمتوّج بهذا التعبير الجوهري الذي يثبت أنهما ذات واحدة "كنا نوجد فقط داخل أنفسنا"؛ لم يقل "كان كل منا يوجد فقط داخل نفسه" .. إضفاء الراوي صفات مقصودة على دوبان مستمدة من عالم بو كالغرابة والجموح، دون أن تتجسّد بحدة دامغة في سلوكياته مقابل صلابة النزعة المنطقية لتفكيره .. استسلام الراوي لما أسماها "نزوات" دوبان، والتي يسهل بالطبع إدراك اتزانها المسالم عند مقارنتها بالنزوات الشيطانية في أعمال بو.

يمكننا أن نتأمل حرص بو على تبرير نسخته المضادة المتعيّنة في شخصية دوبان ولو بشكل متحايل باعتبارها تمثل ـ خاصة في ضوء مظاهر الارتباط الذهني والجسدي بين الراوي وصديقه في القصة ـ تمثّل نوعًا من التناغم مع ما يشبه "مثلية كونية" تلهم بها نظريات إبيقور التي تحدث دوبان حول إثبات علم نشأة الكون الحديث لصحتها: الذرات كأصل الوجود التي يؤلف التقاؤها المركبات حيث أنها متحركة بذاتها وعلة حركتها موجودة فيها "كنا فقط نوجد داخل أنفسنا" .. الإحساس كصورة مطابقة للواقع تنشأ من اتصال بين جسمين "المزاج المشترك ـ العيش المنعزل في منطقة مهجورة ـ الانقطاع عن الآخرين" .. تولّد الفكر (اللذات العقلية) من الإحساسات (اللذات الجسمية) التي تعود جميعها إلى (اللمس) ومن خلالها يتم التوافق مع الطبيعة: "بعد ذلك نتجوّل في الطرقات وقد تأبطت ذراعه مستمرين في مناقشة موضوعات النهار، أو نجول في كل مكان حتى ساعة متأخرة باحثين ـ وسط الأضواء المبهرة والظلال للمدينة المزدحمة ـ عن المتعة العقلية اللانهائية التي يمكننا الحصول عليها بالملاحظة الصامتة لما يدور حولنا".

إن الطيف أو الخاطر أو الهاجس الذي تحفّزه أي من الألعاب والحيل والمكائد النفسية اللانهائية المجهولة، وغير المضمونة يمكنه أن يخرّب بصورة عفوية أكثر مسارات الاستدلال تيقنًا، وهو ما يجعل ذلك المُسمّى في قصة "جريمتا شارع مورج" بـ "قوة التحليل" و"البراعة الذهنية" متساويين ليسا في كونهما قادرين على التشابه فقط، وإنما في كونهما بالدرجة الأولى خاضعين طوال الوقت لجميع المؤثرات التي تدمج بينهما وتجعلهما يبدوان على غير ما اعتقدنا عن صورتيهما المنفصلتين حيث تتبدل دائمًا تلك التغيرات ليكوّنا وفرة من احتمالات تراوغ حدودها، ودون هوية مؤكدة.

أراجيك ـ 26 فبراير 2021

الاثنين، 22 فبراير 2021

ما لا يمكن رؤيته

لا أعرف هل أيقظتني أمي، أم أنني الذي أيقظتها، أم أن صحونا المفاجئ كان متزامنًا كأنه موعد مُدبّر على نحو خفي .. توجهنا نحو حجرة الصالون بخطوات عفوية دون أن نتكلم كمن يعرفان تمامًا ما الذي ينبغي أن يفعلاه في هذا الوقت المتأخر من الليل .. بدا أيضًا أن علينا اختيار أبعد منافذ البيت عن النائمين تجنبًا لإيقاظ أي منهم، بالرغم من يقيني بأنه ليس في البيت سوانا .. لم يفكر أحدنا في إضاءة الحجرة، كأن إدراكًا مشتركًا بيننا أن الظلام ضروري في تلك اللحظة .. فتحنا الشباك بهدوء لنتطلع إلى الشارع حيث يهيمن الصمت الضبابي متواطئًا مع برودة الفراغ بين سماء سوداء ذات غيوم باهتة، وأرض لا يضيئها إلا نور أبيض شاحب لمصباح لافتة أحد الدكاكين المغلقة .. كانت نوافذ وشرفات البيوت مقفولة جميعها، ومداخل سلالمها معتمة كليًا .. لم يكن في الشارع سوى حيوانات ضخمة تستلقي إما نائمة أو في حالات نعاس متباينة أو بعيون مفتوحة بكامل اتساعها .. حيوانات لا تعيش إلا في الغابات والبراري، ولكنها تتوزع الآن بعد منتصف الليل في هذا الحيّز البارد الصغير من الشارع بصمته الغائم، وإضاءته بالغة الخفوت، أسفل الشباك الوحيد المفتوح الذي أقف وراءه أنا وأمي .. همست أمي (رغم أنني لم أظن أن يسمعها أحد غيري لو تكلمت بنبرتها العادية): هذا أسد .. أرد عليها بهمس مماثل تجاوبًا مع ما اعتبرته الشرط الصوتي للمشهد: وهذا نمر هناك .. هل تعتقد أن هذا فهد؟ .. لا، أعتقد أنه نمر أيضًا، لكن هذا الذي يتثاءب أظن أنه فهد .. لاشك أن هذا ذئب .. نعم، إنه ذئب ...

لحظات قليلة مرت في هذا الهمس المتبادل كأننا نشاهد فيلمًا مجسّمًا في قاعة عرض تخصنا وحدنا .. أحيانًا كان أحد الحيوانات يرفع عينيه نحونا ثم يهز رأسه وهو يخفضه ثانية .. أحدهم كان ينهض من مكانه ويتحرك لمسافة قصيرة للغاية ثم يعود للاستلقاء من جديد .. فجأة ظهرت قطط صغيرة .. القطط التي تعيش في الشارع دائمًا .. ظهرت بين الحيوانات الضخمة كأنها موجودة هناك منذ البداية .. عادت أمي للهمس: هناك قطة تقف بجوار هذا الأسد .. وجدت نفسي أرد عليها بالهمس ذاته: وهناك قطتان بالقرب من ذلك النمر .. هذا فهد .. لا هو نمر، أما الذي بجوار الذئب هناك فهو فهد .. وبجانبه قطة أخرى أيضًا .. نعم ثمة قطة بجانبه...

كانت القطط الصغيرة إما واقفة أو جالسة أو تتحرك في سكينة تامة بين الحيوانات الضخمة المستلقية على أرض الشارع .. لم أعرف أي استفهام ينبغي أن أوجهه لأمي: لماذا لا تهرب القطط الصغيرة من الحيوانات الضخمة؟، أم لماذا لا تلتهم الحيوانات الضخمة القطط الصغيرة؟ .. لكنني وجدت نفسي أسألها: هل هناك ما يحدث ولا يمكنني رؤيته؟ .. لم ترد أمي فالتفت إليها تلقائيًا .. لم أجدها بجانبي فعرفت أنه ينبغي أن أعود إلى النوم رغمًا عني.

الخميس، 18 فبراير 2021

سيرة الاختباء (25)

ذات ظهيرة عادت "ملك" من الحضانة إلى البيت، وقبل أن تبدّل ملابسها توجهت إلى الشرفة وحدها، وراحت ترتجل أغنية تحكي فيها جميع تفاصيل يومها بالترتيب منذ الاستيقاظ في الصباح الباكر مرورًا بما سيحدث بعد رجوعها من الحضانة وحتى ذهابها إلى الفراش في نهاية المساء .. تضمنت الأغنية بالطبع اللحظة الأشد قسوة حينما تتركها أمها في الحضانة لتمضي عدة ساعات بعيدة عنا قبل أن تعود لاصطحابها إلى البيت.

كان عمرها حينئذ أربعة أعوام، ومن وقتها لم تتوقف عن ارتجال الأغنيات، الرسم، كتابة القصص، تقمص الشخصيات المختلفة بواسطة الملابس والمكياج والإكسسوارات، النحت، الأداءات الاستعراضية على النغمات والإيقاعات، تأليف الحكايات وتمثيلها برفقة عرائسها .. لا تفعل كل هذا كتسلية وإنما كاحتياج وجودي .. كحياة جوهرية لذاتها .. وبالنسبة لي كان دعمها بكل السُبل ضرورة أساسية أيضًا.

لن أتحدث الآن عن الدلائل والمصادفات الدامغة لروحي الحاضرة في جسد ابنتي، وإنما سأتساءل: هل يعني هذا الدعم أنني إنسان مختلف عن ذلك الرجل في روايتي "خلق الموتى" الذي مزّق الخطاب المرسل إلى ابنه، طالب المرحلة الإعدادية، من نادي القصة بالقاهرة، وكان يحمل مظروفه اللقب الذي أسعد ذلك الولد كثيرًا (السيد القاص/ ...) ثم ألقى بقصاصاته من البلكونة بينما كان الابن يتابع تناثرها بين أقدام العابرين من الشباك المجاور؟.

نعم، قد أكون مختلفًا عن أبي بل ومناقضًا له، ولكن القهر الأبوي أو عدمه في تلك المسألة لا يوفر الحماية المطلقة للكاتب أو الفنان أمام قارئ، متلق، جمهور .. أتحدث كثيرًا مع "ملك" بشأن اهتمامها ـ الطبيعي ـ برأي الناس: عدد الإعجابات، التعليقات، المشاركات .. أذكّرها دائمًا بأن القيام بما تحب أن تفعله والاستمتاع به هما أكثر الأشياء أهمية، وأن البشر يحتاجون أحيانًا ـ لم أقل لها دائمًا حتى الآن ـ لمحاولة تعويض إخفاقاتهم بتوزيع اعتداءات طائشة على مباهج الآخرين .. صحيح أن مواجهة "ملك" لما يُسمى بـ "الاعتراف" في أي وقت من عمرها ستكون مجرّدة من عنف الأبوة، أي تحالفها مع الوضعية الإلهية للواقع وسياقاته "الثقافية"، بل وعلى العكس ستكون المواجهة مستندة إلى انتصار تلك الأبوة إلى أحلامها؛ إلا أنه ليس هناك ضمان أبدًا لتلك الحاجة الذاتية المتواطئة مع الإصرار المنيع للمجتمع "الإبداعي" لأن يكون الكاتب أو الفنان مقبولًا، ناجحًا بمقاييس سلطة قيمية ما.

لن تراني "ملك" أبدًا ألقى بقصاصات لوحة أو قصة لها من البلكونة، ولكن مع ذلك ثمة ما قد يجبرها على أن تظل واقفة في شباكها المجاور.

موقع "الكتابة" ـ 18 فبراير 2021

الأحد، 14 فبراير 2021

عزيزي جودريدز

كان دائم الشكوى مما يعتبرها عيوبًا فادحة، أو أخطاءً لا تُغتفر ضد القواعد الثابتة المتفق عليها والمفروغ منها للكتابة الأدبية .. ولم يكن غريبًا أن تنتج ذائقته ـ باعتبارها مرجعًا شاملًا لتلك القواعد ـ أكثر الاستجابات عنفًا تجاه النصوص التي لا تتوافق معها .. كان يبدو في أشد الاحتياج لاستعراض ما يمارسه من ردود أفعال انتقامية بعد الانتهاء من القراءة دون تعطيل أخلاقي من أي نوع كإلقاء قصاصات منتقاة من رواية ما في المرحاض قبل التبول أو التبرز فوقها، أو رمي أشلائها في صندوق القمامة، أو تطويحها بعلامات بصاق من نافذة البيت أو شباك سيارة، أو إعطائها إلى الباعة الذين يستخدمون الأوراق المهملة في تغليف بضائعهم، أو عرضها كهدية مجانية لشخص لا يطيقه .. كانت إدانته الذاهلة تطارد بالضرورة وعي القراء الذين يحتفون بالأعمال المنبوذة من فردوسه اللغوي، أو تلك التي لا تلتزم بما يسميه "الشروط التاريخية للسرد الأدبي" .. كان يردد طوال الوقت: إن العمل الذي لا يروق لي هو (عمل سيئ)؛ فأي شخص حينما يقرر كتابة رواية لابد ألا ينشد غاية تتخطى إرضائي، ووفقًا لذلك تصبح روايته (رديئة) إن لم تحقق هذا الرجاء.

كان يؤمن أيضًا بأن التناص البارز، أو الصلة الظاهرة بمادة فنية أو محتوى تاريخي، أو الاشتباك مع نظرية نقدية معينة أو مضمون فلسفي محدد أو تحليل ما في علم النفس، أو الاستخدام المقصود لإحدى تقنيات السرد في العمل الأدبي الذي لا يعجبه؛ كل هذا ليس مبررًا لتضييع الوقت أو بذل الجهد في التفكير والبحث للعثور على اكتشاف يمكن أن تثمر عنه تلك الأداءات .. كان يثق تمامًا في صحة انطباعاته وصواب رؤيته التي تتضاءل أمامها أهمية أي إدراكات أخرى، وهو ما كان يجعل الأمور أكثر سهولة بالنسبة له .. كانت هذه الثقة تحميه من أي ممارسة ذهنية شاقة يرى نفسه غير مضطر لها.

كانت الريفيوهات التي يدوّنها عن الأعمال التي لا تحظى بقبوله تفيض بـ (أخفق الكاتب في ...)، (فشل الكاتب في ...)، (لم ينجح الكاتب في ...)؛ إذ كان يؤكد من خلالها أن هناك ثمنًا ينبغي للكاتب أن يدفعه نتيجة عدم إشباعه شخصيًا، كما كان ينتهز تلك الريفيوهات أيضًا في الثأر مما يسميها "السخافات البراقة" أو "لافتات الهراء الذائع" مثل: (لكل عمل أدبي قانونه الخاص) .. (الدوافع الجمالية للنص) .. (المنطق الشخصي للكاتب) .. عبارات لا تجسّد في تصوّره سوى تفاهة طاغية حيث لا يوجد سوى قانونه هو الذي لابد أن يكون قانون الجميع، ومنطقه هو الذي لابد أن يكون منطق الجميع، ودوافعه هو التي لابد أن تكون دوافع الجميع، وإلا لصارت الحياة عبثية وليس لها حاكم.

لم يكن كل هذا منفصلًا عن حلمه القديم بكتابة الرواية الإعجازية الشاملة، الخالية من أي عيب أو خطأ .. الرواية التي لا تدنس قواعدها شائبة، ولا يجرح أساسياتها ذنب .. الرواية التي تمنح الإرضاء التام لجميع القراء في كل مكان وزمان .. كان يريد أن يكتب الرواية الكونية المثالية، المحصّنة من تقلبات الوعي، التي لا تنقص أبدًا نجومها الخمس على جودريدز.

كان الكتّاب الجيدون في اعتقاده هم الأقل انتهاكًا لشروط الكتابة، وطموحهم جميعًا كان تجنّب الفشل في تحقيق الكمال السردي، وبلوغ أقصى درجات التوافق المحكم مع كل قارئ مهما كان، ولكن لم ينجح أي منهم أبدًا في كتابة رواية بلا خلل .. ولأنه كان ينظر إلى نفسه كقارئ خبير في "النجاحات والإخفاقات الأدبية" فقد أيقن أن بإمكانه كتابة تلك الرواية التي لا يمكن لأي شخص أن يوجّه إليها إدانة ما .. الرواية التي ستتوّج ملكة على عرش جودريدز، وسيكون اسمها دالًا على موضوعها، وعلى إهدائه تلك الأيقونة السردية الخارقة للموقع في نفس الوقت: (عزيزي جودريدز).    

"لكنها لن تكون رواية فقط" .. كان يعدها العقل المفكر لجميع الأعمال السردية السابقة واللاحقة، التي تمثّل أعمق مستويات الفهم لطبيعة الفن الروائي، وموطن الحكمة السردية الخالصة .. قاموس المعرفة الذي تحتاجه كل رواية لتصحيح جمالياتها، والنموذج الأعظم الذي سيبقى وحده بعد موت جميع الروايات، شاهدًا على نقصانها، وعلى ما كان يجب أن تكون عليه كائناتها وأحلامها .. كان يؤمن بأنه بالرغم من كل شيء، لن تنجح أي رواية في إنقاذ نفسها مهما حاولت الاقتداء بروايته؛ إذ أن من أنتج تلك الروايات في النهاية كتّاب آخرون وليس هو.

كان لديه مخططًا دقيقًا وحاسمًا لإنجاز الأمر: "سأجعل رقمي المفضل معيارًا لما سأنتقيه كذخيرة تجهيزية للرواية .. سأختار سبعة كُتاب، سبع روايات، سبع شخصيات، سبع حبكات، سبع تقنيات، سبعة أساليب لغوية، سبعة أماكن، وسبعة أزمنة .. ستكون الروايات التي منحتها التقييم الأعلى على موقع جودريدز هي كنز اختياراتي، وبحرص بديهي على التنوع الجغرافي والزمني لتلك الاختيارات .. ستمتزج تلك الذخيرة بمئونتي السرية التي ادخرتها من أجل تلك اللحظة، والتي سيكون الرقم ذاته مقياسًا لها أيضًا: سبع ذكريات خاصة، سبع شخصيات ممن أعرفهم، سبعة مشاهد من حيوات تلك الشخصيات، سبعة أماكن خطوت داخلها، سبعة أزمنة مررت بها، سبعة أحلام عبرت نومي، سبع تفاصيل عامة تسكن مخيلتي: البحر .. أثداء النساء .. الشرفات القديمة .. موسيقى "الراعي الوحيد" .. المطر .. الرسائل الممزقة .. الانتقام الهاملتي (نسبة إلى هاملت).

كان منتشيًا بالتوقع...

لن يكون في حاجة بعد نشر روايته إلى معاقبة الكتّاب الذين لا يعرفون كيف يكتبون، والقراء الذين لا يعرفون كيف يقرأون .. ستتكفل روايته بذلك الدور التنويري، وستنفّذ وحدها تلك الوصية التطهيرية .. ستؤدي روايته نيابة عنه الأمانة الإلهية التي طالما اعتبر نفسه أكثر الجديرين بها.

لكنه حينما بدأ في الكتابة وفقًا لخطته الراسخة شعر بأنه يرتكب خطًأ ما دون قدرة على تحديده .. مع ذلك استمر في الكتابة، وبمرور الوقت تصاعد إدراكه بأنه لا يفعل الشيء الصحيح رغم التزامه بكل ما قرره واستقر عليه من خطوات ومسارات .. شعر بأن الأخطاء المتزايدة التي يخطها بعكس المنتظر هي ما تدفعه لمواصلة الكتابة .. كل مفردة كانت في مكانها .. كل عبارة كانت في موضعها .. لكن السرد كان يكشف في كل لحظة عن هوّة معتمة بين كلماته ورجاء غامض في نفسه .. كان موقنًا بصورة مبهمة بأنه لا يقوم بالأمر كما ينبغي، وكان ذلك ما يحرّضه على التمادي في الخطأ بمتعة غريبة، كأنما يمارس طقسًا تعبديًا لإثم غير مألوف .. الإثم الذي لا توجد فضيلة تناقضه .. بعدما انتهى من الكلمة الأخيرة؛ كانت الفراغات بين الكلمات والجُمل والفقرات هي الموطن الوحيد للصواب في روايته .. ما يبدو صمتًا خبيثًا داخل المتن الذي لم يتوقف بالنسبة له وبعد تعديلات وتغييرات استقصائية عديدة عن أن يكون وكرًا للأخطاء .. كان ذلك سببًا في مضاعفة سعادته المنبعثة من اتجاه مضاد لمشيئته السابقة .. السعادة التي أبقت على عنوان الرواية كما هو بعد أن أصبح مُضاءً بنبرة ساخرة .. شعر حينئذ أن ظلالًا مباغتة آخذة في التوالد داخل روحه لم تتمثّل من قبل لموت أبيه.

موقع "صدى .. ذاكرة القصة المصرية" ـ 9 فبراير 2021

الثلاثاء، 9 فبراير 2021

سيرة الاختباء (24)

التسامح ليس سمة الأقوياء فقط

ولا الضعفاء فقط

وإنما الضجرين أيضًا

فاقدي الرغبة في تغذية رتابة العالم

بالانتقام.

والكسالى

المؤمنين بأن الاستلقاء فوق أريكة أغلب اليوم

أكثر ضرورة من الثأر.

والذين لا وقت لديهم لرد الأذى

حيث أعمارهم مشغولة دائمًا

في التلويح للغيب

بإصبع واحد.

كل كتابة ـ كأي شيء آخر ـ دافعها الغضب، وإن لم يكن ملموسًا لكاتبها .. الغضب الكامن في النقصان، أي في كل ما ينجم طوال الوقت عن تكوينك المناقض للألوهة .. ثمة من يعتبر أن تشريح الغضب ليس جوهرًا للكتابة فحسب، بل للحياة أيضًا.

أن تكتب انتقامًا موجهًا لأشخاص بعينهم فهذا حق لا يخضع للتفاوض .. لكن الأمر ـ مثلما كتبت في رسالة سابقة للصديقة الشاعرة مريم شريف ـ يتجاوز حتمًا تصفية حساب شاملة طال تأجيلها، أو انتظرت وقتًا كبيرًا للغاية حتى تتم في موعدها المناسب، وبالكيفية وحدها التي تلائمني كبصمة أو ما أطمع أن تكون كذلك .. دائمًا يتعلق الأمر بثأر يتخطى أشخاص بعينهم .. يتعلق بما يجسدونه .. بالعالم نفسه .. الموت .. أشباح السماء المتوارية داخل الأغوار الغامضة للذات .. الظلام القابض على ماوراء الوجود .. الصمت المبهم لحكمة الحياة الذي يحوم الخيال حول حصانته .. يتعلق الأمر بالألم كحتمية مطلقة، كقرار كوني ملغز ينبغي أن يكون له مصدر تتأمل المهانة روحها بواسطة غيابه.  

أن يدرك القارئ ـ والذي قد يكون أحد المستهدفين بالسخرية الانتقامية ـ هذا التجاوز فهو ما لا تُشغل الكتابة نفسها به .. ليس هناك تعمّد لتمرير ذلك الفهم بأن الثأر ليس شخصيًا كما يبدو .. تشكّل الكتابة كابوسها الخاص، أو دعابتها اللغوية وفقًا لما تمثله علاقتها بالعدم في تلك اللحظة دون حرص مستقل على ترك أدوات مساعدة يمكن لأحد استعمالها في تخطي "تصفية الحساب" .. إما أن تعثر أشلاء كينونتك على ذاكرة مختلفة لها في تلك الكلمات أو لا .. إما أن تتلصص على السر مستخدمًا بصيرتي أو تتسمّر وراء جدارك الشخصي مرددًا "إنه ينتقم فحسب".

لأنني ضجر، وكسول، ولا وقت لدي لرد الأذى؛ فإنني أكتب.

موقع "الكتابة" ـ 9 فبراير 2021

الجمعة، 5 فبراير 2021

دفة المركب الصغيرة

 

المنظر:

حجرة معيشة خالية تماماً من الأثاث، من الضروري تأكيد الانطباع بأنها تنتمي إلى بيت قديم، هناك ثقوب قليلة في الحائط لمسامير سقطت مع آثار للبراويز التي كانت مُعلقة عليها، توجد في المنتصف شرفة مغلقة ذات ضلفتين خشبيتين متآكلتين يمكن فتحها والولوج داخلها لمسافة خطوة واحدة .. رجل عجوز تجاوز الستين يرتدي قميصاً وبنطلوناً متناسقين، وإن كان حذاءه مترباً.

يقف العجوز بعد تجاوز عتبة الباب الجانبي .. يتلفت حوله بنظرة ذاهلة تمزج بين الخوف والترقب والرجاء.

العجوز: لماذا تُرك باب هذا البيت مفتوحاً؟! .. والطفل الذي جاء بي إلى هنا .. أين اختفى؟!.

(يخطو للداخل ويتلفت حوله بنفس النظرة)

: لماذا لم يتكلم الطفل كلمة واحدة طوال الطريق؟! .. أعرف أنني هنا للمرة الأولى .. أنا متأكد من هذا بنفس اليقين الذي جعلني أضع يدي في يد الطفل الممدودة إليّ ، وأمشي معه منذ قليل .. لكنني متأكد أيضاً أنني أعرف هذا البيت، بل إنني عشت فيه من قبل .. هل كان الطفل يعرف هذا؟!.

(يتحرك مستكشفاً المكان)

: لا يوجد شيء .. مجرد حوائط .. هذا الفراغ يذكرني بـ .. يذكرني بأنني نسيت ملامح الطفل الذي رآني جالساً فوق الرصيف داخل شارع مزدحم .. هل نظرت في وجهه أصلاً؟!.

(يحرّك قدميه أكثر بتردد منهك)

: كلما حاولت ترويض إحساسي بالغربة عن هذا المكان، يزداد إيماني بأن ما أحاول اكتشافه هو ما كان موجوداً قبل الفراغ.

(يقف ثم يبتسم فجأة بتهكم مرهق)

: يبدو أن جسدي العجوز كان يعطي إشارة ما بأنني ما زلت حياً؛ حيث تركني العابرون مدة طويلة دون سؤال عن سبب جلوسي فوق الرصيف .. الجثث فقط هي التي تستدعي اهتمام الآخرين، لأنهم يعرفون أنها لا يجب أن تبقى بينهم طويلاً .. يبدو أيضاً أنني كنت مغمض العينين، لأنني لا أتذكر أي شيء عن الشارع، ولا عن البشر الذين كانوا يمرون أمامي قبل أن أرى ذلك الطفل يقف في مواجهتي مبتسماً.

(تتسع ابتسامته ويصبح صوته أكثر قوة)

: تذكرت الآن أنه كان مبتسماً، وأنني نهضت وسرت معه تاركاً نفسي لقيادته باطمئنان مبهم.

(يعود للتحرك ببطء متلفتاً حوله بالنظرة الذاهلة التي تمزج بين الخوف والترقب والرجاء)

: إذا قررت البقاء هنا هل سيكون ذلك انتقالاً من مكان قديم إلى مكان آخر جديد، أم عودة إلى مكان سبق أن تركته؟!

(يقف فجأة ثم يحرّك وجهه إلى نقطة جانبية في الفراغ، يبتسم كأنما يخاطب أحداً)

: هل تعرف يا صاحبي أنني دائماً كنت أفكر في أنه حتى الأحمق، المغفل تماماً كجوهرة نادرة بوسعه أن يمتلك لحظات من الصمت الغامض .. أن يراقب العالم بانتهاك خاص كأنه فريسته الخاضعة، بشغف متحدٍ، واثق في مهاراته الخبيثة على كسب كل المعارك حتى وإن خسرها .. يمكن لواحد مثلي أن يكون قبراً غير قابل لتوفير أي ثقة عن ما أُغلق عليه.

(تختفي ابتسامته فجأة ويعود الخوف إلى ملامحه)

: مع ذلك يا صاحبي فالخوف أقوى من كل هذا .. أنا أحمق وخائف فقط.

(تُسمع ضحكات قوية مختلطة: رجال ونساء وأطفال .. يبدو عليه الغضب)

: هذه ضحكاتهم .. أنا أعرفها جيداً .. هؤلاء ما كانوا يعتبرونني قوياً، ولا مصدر تهديد لأحد .. على العكس .. كانوا يعتبرونني عادياً جداً، وربما أقل من العادي .. كانوا يقولون أنه يجدر بي ألا أخرج بإسهاب من بيتي كي أوّفر على نفسي الكثير من الأذى المضحك .

(تختفي أصوات الضحك، يُحرّك وجهه ثانية فجأة إلى نقطة جانبية أخرى في الفراغ، يبتسم كأنما يخاطب أحداً)

: أخي العزيز .. دفة المركب الصغيرة التي كنت تعلقها في رقبتك .. التي احتفظت بها بعد موتك .. للأسف ضاعت .. كان على القدر أن يبقيها معك حتى النهاية، وكان عليها أن تبقى بأعلى بينما جسدك يهبط ويختفي تماماً تحت الأرض .. ربما رأت شيئاً لم يتمكن كالعادة أحد من رؤيته، وربما لديها استعداد بعد كل هذه السنوات لأن تخبرني به وأنا قادم إليك  .. كان ينبغي أن تكون معي الآن ولكنها ضاعت.

(يعود للتحرك ببطء متلفتاً حوله بالنظرة الذاهلة التي تمزج بين الخوف والترقب والرجاء)

: هل عاش الطفل هنا من قبل؟! .. كيف لي أن أعرف، وهو غير موجود الآن حتى أسأله.

(يملّس على الحوائط برعشة يديه)

: هذا البياض الباهت الذي يكسو الجدران، يمكنني أن أرى وراءه زخارف حمراء منتشرة فوق خلفية من الأصفر الهاديء .. أيضا هذه الثقوب الصغيرة، أعرف أن المسامير التي سقطت منها كانت تحمل لوحات لفتيات صغيرات.

(يحرّك وجهه ثانية فجأة إلى نقطة جانبية أخرى في الفراغ، يبتسم كأنما يخاطب أحداً)

: أختي العزيزة ..أنتِ لا تتعلمين من الماضي .. تفترضين في كل مرة أنكِ حينما ترتدين ملابس الخروج وتضعين المكياج وتحملين حقيبتكِ أن أباك سيوافق على ذهابك إلى صديقتك .. (يقلّد النبرة الأنثوية المنكسرة لأخته وعيناه في الأرض بخوف): هل يمكنني الخروج؟ .. (يعود للتحدث مبتسماً بالنبرة السابقة الأقرب للضحك): أحياناً يوافق مع تحذيره التقليدي الصارم .. (يُقلد اللهجة الغليظة المهددة لأبيه مع تحديق العينين المرعب): لا تتأخري .. (يعود للتحدث مبتسماً بالنبرة السابقة الأقرب للضحك): أحياناً أخرى يرفض بمنتهى البساطة دون أن تعنيه دموعك وأنت تخلعين فستانك وترتدين جلباب البيت .. نعم .. أنت تعرفين أن أباك كان حنوناً عليكِ في طفولتك وأنه كان يقبّلكِ ويأخذكِ في حضنه كثيراً لكنه الآن لم يعد كذلك.

(يلتفت فجأة من جديد إلى نقطة جانبية أخرى في الفراغ، تختفي ابتسامته، ويتحدث بحزن وحسرة كأنما يخاطب أحداً)

: هل تتذكرين يا أمي؟ .. فوق صفحة بيضاء منتزعة من كراسة رسم مدرسية رسمت بالقلم الرصاص السماء والشمس والبيوت والأشجار .. رسمت طفلاً يحمل بالوناتً كثيرة، ويمرح مبتسماً بين الزهور .. أثناء نومي .. دخلتِ يا أمي لتنظفي الحجرة من الأشياء التي لا أهمية لها .. طوحتِ بورقة الرسم من النافذة .. صدقيني يا أمي .. لوعدتِ سوف أُحضّر قهوتي وأغسل أطباق طعامي .. سوف أرتب حجرتي وأزيل الغبار وأمتنع عن التمدد فوق الأريكة حتى لا تتهالك .. سوف أمتنع عن التدخين والسهر وكسر الأشياء ساعة الغضب .. سوف أجعلكِ تشاهدين قناة التليفزيون التي ترغبينها وأرضى أن تعاقبيني على أي شيء حتى الهزائم التي لم أكن سبباً لها .. لو عدتِ سوف أقضي بقية حياتي في الجلوس بجوارك واستعادة الذكريات والحكايات المختبئة في الصور القديمة .. سوف أُقبّل تجاعيد وجهكِ دائماً، وأحاول إضحاكك بأي طريقة .. سوف أفعل أي شيء من أجلكِ رغم تأكدي من أنكِ لن تعودي لا لشيء سوى لأن الموت ربما جعلكِ أكثر خبرة بالحياة، ولهذا سترفضين الرجوع.

(يتلفت حوله مستعيداً النظرة الذاهلة التي تمزج بين الخوف والترقب والرجاء)

: ما الذي جاء بعجوز تالف الأعصاب مثلي إلى هنا؟! .. أشعر بالرعشة التي كانت تتملكني في شبابي على فترات ثم أصبحت لا تفارقني مطلقاً .. أشعر بها تزداد قوة .. كانت تفاجئني دائماً كلما استغرق تفكيري في الموت أو الجنون ثم تختفي، لكن يبدو أنني أصبحت منذ سنوات طويلة ميتاً ومجنوناً فعلاً لأن الرعشة لم تعد تختفي.

(يبتسم فجأة وتبدو النشوة على ملامحه)

: أثناء المطر الليلي كنت أُخبّيء رأسي في حضن ابنتي الصغيرة، أجذب الغطاء الثقيل فوقنا ثم احتضنها بقوة .. أخبرها بحماس مغامر أن علينا الانكماش داخل المركب الصغير الذي سيُبحر حالاً بنا .. كانت ابنتي الصغيرة تضحك، وتفرك قدميها بشغف دون أن تفهم .. كنت أؤكد لنفسي أنها حينما تكبر ستعرف أن السرير في الشتاء يمكنه أن يسافر إلى جُزر بعيدة ، وعوالم سحرية آمنة لو ظللنا ملتحمين ببعضنا، فرحين بالعاطفة المتبادلة بين البرد والدفء .. كانت ابنتي الصغيرة أحياناً تطلب أن أغني لها (يُغني بداية الأغنية): "كان فيه فراشة صُغنططة .. مفرفشة ومزقططة .. لابسة بلوزة منقطة .. على جونلة مخططة" .. ذات مرة بدأت ابنتي الصغيرة ترقص كالعادة حتى وصلت إلى حافة السرير و(يقولها بفزع) خطت إحدى قدميها في الهواء .. (مستعيداً النشوة) رفعتني يدا أمي من على الأرض ولم أكن أشعر بأي ألم .. كنت أصرخ وأبكي لرغبتي في الإمساك بالفراشة التي كانت تلعب مع "نيللي" في التليفزيون .. اقتربت أكثر من الشاشة هارباً من توبيخ أبي لأمي ولعناته على الطاولة التي سقطت من فوقها .. مددت يديّ الصغيرتين محاولاً اللحاق بالفراشة .. تلقفت ابنتي الصغيرة قبل وقوعها من فوق السرير وأنزلتها إلى الأرض .. (يتحسس رأسه) كانت أصابعي تتحسس مكان الألم الذي شعرت به في رأسي نتيجة الوقوع بينما جرت ابنتي الصغيرة مع الأغنية لتحاول الوصول إلى الفراشة التي لم أنجح أبداً في الإمساك بها (يُحرّك يديه في الهواء كأنه فشل في اللحاق بالفراشة).

(يستعيد النظرة الذاهلة التي تمزج بين الخوف والترقب والرجاء)

: أتصوّر أحياناً أنني مت فعلاً منذ زمن، وأن الموت يعني أن تتحول دون أن تشعر إلى نسخة لا تدري إطلاقاً بموت الأصل، ولا بما حدث في الدنيا بعد ذلك .. أن تواصل العيش بشكل عادي جداً داخل نسخة أخرى من حياتك المألوفة حتى نهاية العالم.

(يتلفت حوله بنفس النظرة)

: كان يوجد بشر يعيشون هنا .. هذه مسألة بديهية، لكن المشكلة أنني كلما حاولت تذكرهم لا أرى في مخيلتي سوى وجوه كثيرة متراصة ومنطفأة، تشرب في صمت من فناجين القهوة، مع صوت قرآن .. لماذا تركني الطفل وحدي؟! .. لا أستطيع الآن تفادي الشعور بالريبة تجاه نواياه التي دفعته لإحضاري إلى هذا البيت ثم التخلي عني لأواجه الغموض والنسيان والتذكر المشوش دون مساندة .. إلى أي مدى يمكن أن يصل الشر المحتمل الذي يحتفظ به تجاهي؟ .. هل هو مجرد طفل قرر استخدام عجوز مهمل في لعبة ما؟!، أم أن هناك ثأر قديم حان الوقت لتصفية حساباته بيننا؟! .. أريده أن يكون معي الآن ليساعدني على تذكر البشر الذين كانت لديهم زخارف حمراء فوق الجدران المطلية بالأصفر، وكانوا يعلقون لوحات لفتيات صغيرات .

(تتحول نبرته إلى حسرة ممزوجة بالسخرية)

: لا يكتفي الآخرون بترك المركب الصغير في اللحظات غير المناسبة .. يأخذونني أيضاً معهم، وأحياناً بإرادتي حتى أجد فرصة أخرى للعودة إليه من جديد بصحبة بشر غيرهم .. لماذا يدفعني العالم للتمسك بإيماني بأن جميع الأشياء قابلة للتحوّل إلي مراكب صغيرة؟!، ولماذا يدفعني دائماً للتخلص من هذا اليقين؟!

(تُسمع فجأة نغمات مرتجلة لبيانو .. يشعر بالفزع ويتحرك بسرعة في جميع الاتجاهات محاولاً تتبع صوت البيانو بنفس النظرة الذاهلة التي تمزج بين الخوف والترقب والرجاء)

: من أين يأتي صوت البيانو؟!

(يقف فجأة، ويغمض عينيه بقوة)

: هي أصابع صغيرة تلك التي تعزف عليه أو بالأحرى تحاول ارتجال لحن ما .. لكن البيانو أيضاً صغير .. أراه في عقلي صغيراً، ويقف على ثلاثة أرجل .. لونه بُني .. عدد من أصابعه معطلة .. هذا يبدو واضحاً جداً بالنسبة لي.

 (يفتح عينيه، يبدو عليه اليأس والتعب مع توقف صوت البيانو)

: لايوجد شيء .. هي الهلاوس تعاودني إذن .. هذا الصوت في عقلي فقط.

(تتسع عيناه فجأة كأنما اكتشف شيئاً فيسترد صوته الصلابة والأمل)

: ربما ليست هلاوس .. ربما الطفل الذي جاء بي هو الذي يعزف على البيانو .. ربما يختبيء في مكان ما.

(يتلفت حوله بنفس النظرة الذاهلة التي تمزج بين الخوف والترقب والرجاء)

: أين سيختبيء؟!

(يتحرك بارتباك في جميع الاتجاهات)

: لايوجد سوى الفراغ، ولا يوجد باب مقفل عدا باب الشرفة.

 (يفتح باب الشرفة بحذر .. يخطو للداخل)

: الطفل ليس موجوداً، ولكن كان يجب أن تكون هنا فروع طويلة ومتشابكة من اللبلاب معلقة بكثافة .. من أين جئت بهذا الافتراض؟! .. أصر على أن أوراق اللبلاب كانت غزيرة في سقف الشرفة وفوق جدارها المتآكل، ولكنني لا أرى الآن سوى شقوق ممتدة ومتقاطعة فقط.

(يشير إلى بيت قديم يواجه الشرفة)

: هذا البيت القديم المتهدّم ذو النوافذ الخشبية الغارقة في الغبار سيخرج من شرفته رجل عجوز أصلع يرتدي جلباباً .. يضع نظارة ذات عدستين سميكتين، وفي يده جريدة سيجلس ليقرأها .. هذا العجوز له ابنة جميلة بيضاء ذات شعر قصير فاحم، اعتادت الوقوف وحدها والنظر للسماء بحزن كسحابة لم تستطع الارتفاع أكثر من هذا.

(يبدو عليه اليأس)

: أي مخرّف يتصوّر أن هناك أحد يعيش هنا؟! .

(يتحرك بتعب ليجلس على الأرض فوق عتبة الشرفة .. لا يزال ينظر إلى داخلها)

: إذا فتحت شرفتك في الصباح، ووجدت فوق أرضها ريشة صغيرة .. أرجوك لا تلقي بها بعيداً .. هذه الريشة تخص طائراً وحيداً .. ظل يغني طوال الليل وراء الضلفتين المغلقتين، وحينما شعر بأنك لا تسمعه أسقط ريشة من جناحيه وحلّق إلى مكان آخر .. هذا الطائر يفعل ذلك كل ليل، ولأشخاصٍ غيرك .. حينما سيصبح بلا ريش على الإطلاق لن يستطيع الطيران، وسيظل يغني واقفاً حتى يموت في مكان لن يراه أحد .. لكنك ستعلم بطريقة ما أنه غادر العالم .. حينئذ سيمكنك أن تُخرج ريشته التي احتفظت بها، وتنظر إليها طويلاً لتكتشف إلى أي مدى يشبه الموتى بعضهم.

(يقف ويضع يده في جيبه ويمشي ببطء جيئة وذهاباً بعد خروجه من الشرفة .. يحكي مبتسماً بنبرة تجمع بين التهكم والأسى)

: بعد موت أمي ومرض أبي الذي أفقده الذاكرة والنطق والحركة اختفت كل العوائق الصغيرة الهشة التي كانت تحجّم بقدر ضعيف شراسة صرخات أختي في وجهي .. لكنني أثناء احتراقي اليومي بشتائم أختي وبمعايرتها لي على فشلي الدراسي وبطالتي وعلى طباعي المستهترة لاحظت أنها لا تُطلق صرخاتها إلا وهي جالسة على أقرب مقعد إلى هذه الشرفة (يشير إلى الشرفة) .. كنت أضحك بمرارة بيني وبين نفسي حينما أراها تبدأ أحياناً في سبابها المرتفع من أي مكان داخل البيت ثم تُسرع على الفور لتجلس هنا (مشيراً إلى نقطة ملاصقة للشرفة المفتوحة) حتى تُسمع الناس إهاناتها لأخيها الصغير، وليعرف كل من في الشارع مدى قوتها .. كنت أُغلق باب حجرتي على نفسي، وأنتظر حتى تنتهي، ثم أتردد كثيراً قبل الخروج من البيت خوفاً من أن أصادف أحداً ممن سمعوا الملحمة .. كنت أغادر الشارع بأقصى سرعة وأعود محاولاً ألا يلحظني أحد  كالهارب من مطاردة مفزعة .. لا يمكنني إنكار أنني فكرت أكثر من مرة في قتلها، ولكن الذي منعني ليس رفضي أن أدفع روحي ثمناً للتخلص من حنجرة فحسب، وإنما كان يعنيني أيضاً بقاء هذه الحنجرة في الحياة لتكون دليلاً حياً وحاضراً دائماً أمام عينيّ على صحة الكوميديا الكامنة في كراهيتي للفناء.

(يتوقف فجأة ويصمت قليلاً بتجهم ثم يبدأ في الضحك .. يضحك بقوة .. يقول وهو يضحك دون أن يتحرك من مكانه)

: حينما تزوجت عرفت من صوت زوجتي خاصة وقت عصبيتها أنها كانت ضفدعة في حياتها السابقة .. كان صياحها يقترب أثناء الشجار معي بدرجة غريبة فعلاً من الصوت المألوف للضفدعة، والمذهل أنني اكتشفت بعد الزواج أيضاً أن عينيها كانتا تشبهان إلى حد كبير عيني الضفدعة .. زوجتي التي أحببتها سبع سنوات في صمت، وعشت معها قصة حب سينمائية سبعاً أخرى، وخطبتها سنتين ولم أكتشف فصيلتها إلا بعد الزواج .. زوجتي لم تكن تتقيد بالجلوس على أقرب مقعد للشرفة مثلما كانت تفعل أختي .. كانت أكثر تحرراً فتعوّدت أثناء صراخها في وجهي، ومعايرتها لي على جلوسي في البيت بدون عمل، واعتمادي على المساعدات الخارجية تعوّدت على التنقل في مختلف أنحاء البيت .. ذات يوم وبينما كنت أنظر إليها ونقيقها المتشنج يمزق هواء البيت قلت في نفسي أن انتقالي من أختي إلى زوجتي ليس صدفةً بالتأكيد، وأن هناك شيء غيبي يبعث لي برسالة انتقامية لا أعرف سببها .. تمنيت لحظتها فجأة أن تصاب زوجتي بسرطان الحنجرة .. لكنني بعد وقت قصير تذكرت الأيام المتعاقبة التي لم أنم فيها عندما أخبرتني بأن شيئاً بحجم حبة العدس تشعر به في صدرها .. تذكرت اقترابي الشديد من الإغماء وأنا أنتظر نتيجة الأشعة، وفرحي الجنوني حينما أخبرتني الطبيبة أنها بخير.

(يتوقف عن الضحك فجأة ثم يتجهم للحظات قبل أن يحرّك وجهه إلى نقطة جانبية في الفراغ، يبتسم كأنما يخاطب أحداً)

: هل تتذكرين يا حبيبتي حينما كنتِ تحاولين بناء جسر بيننا؟ .. كنتِ تحدثينني بشغف عن العصفور الذي أخرج رأسه من العش المواجه لنافذتنا، وراح يصدر أصواتً كأنما ينادي على أحد .. في المساء، وحينما كانت رأسك تستلقي طويلاً فوق صدري، وكنتِ تفكرين صامتةً في أشياء كثيرة .. كنتِ ترفعين عينيك إلى وجهي، وتحدثينني بصوتٍ خفيض عن (البوم) الذي عادة ما يهاجم ليلاً أعشاش العصافير الصغيرة.

(يشعر فجأة بالفزع ويعاود التحرك بنفس النظرة الذاهلة التي تمزج بين الخوف والترقب والرجاء)

: أكاد أجزم بأنني مجنون بحق لأن الشك بدأ يتملكني بقوة في أنه كان هناك طفل، وأنني كنت أجلس على رصيف ما .. كان هذا وهم .. كيف جئت إلى هنا إذن؟! .. بالتأكيد أحد ما اصطحبني إلى هذا البيت .. بالتأكيد هو الطفل الصغير .. لكن من أين؟! .. بالطبع من الشارع لأنه لا يعرف منزلي .. أين هو منزلي؟! .. أنا لا أتذكر شيئاً عن المكان الذي أعيش فيه الآن، ولا عن ما إذا كان هناك أحد يشاركني الحياة فيه أم لا.

(يتوقف فجأة ثم يبتسم بحزن وحسرة)

: لن أتمكن أبداً من العيش في كوخ .. الكوخ الذي حاولت بناءه مرة بوسائد وأغطية السرير، ومرة بقطع خشبية قديمة كانت موجودة في هذه الشرفة (يشير إلى الشرفة)، ومرات لا حصر لها بمبررات متغيرة للثقة في الغيب داخل روحي .. الكوخ الذي لم يكتمل بناؤه أبداً.. كنت مجبراً على إبقاء نفسي بعيداً عن أي كوخ أرغب بشدة في أن أسكنه.

(يحرّك وجهه فجأة إلى نقطة جانبية في الفراغ، يبتسم بفرح عظيم كأنما يخاطب أحداً)

: ها هو الطفل الذي جاء بي إلى هنا .. أين كنت؟!، ولماذا تركتني كل هذا الوقت؟! .. لقد انتظرتك طويلاً .. ما هذا الذي تحمله في يدك؟ .. لا أصدق نفسي .. دفة المركب الصغيرة؟! .. أين عثرت عليها؟ .. لقد بحثت عنها كثيراً حتى يأست من استردادها .. (كأنه يأخذ الدفة من الطفل ويتأملها في يده) .. أخيراً يا عزيزتي .. (ينظر للطفل غير المرئي) .. لا أعرف كيف أشكرك .. تعال .. اقترب .. (كأنه يضم الطفل إلى جانبه) .. كن بجانبي، وتمسّك بي جيداً .. سنبحر بالمركب الآن (يرفع يديه أمامه كأنه يُمسك بالدفة الصغيرة ويحركها كأنه يقود المركب .. يضحك بنشوة وينظر للطفل غير المرئي ثم إلى الأمام) .. تمسّك بي جيداً .. هل تشعر؟ .. المركب تتحرك الآن .. (يضحك بنشوة وهو يحرك يديه كأنه يحرك الدفة الصغيرة).

ستار