الاثنين، 22 فبراير 2021

ما لا يمكن رؤيته

لا أعرف هل أيقظتني أمي، أم أنني الذي أيقظتها، أم أن صحونا المفاجئ كان متزامنًا كأنه موعد مُدبّر على نحو خفي .. توجهنا نحو حجرة الصالون بخطوات عفوية دون أن نتكلم كمن يعرفان تمامًا ما الذي ينبغي أن يفعلاه في هذا الوقت المتأخر من الليل .. بدا أيضًا أن علينا اختيار أبعد منافذ البيت عن النائمين تجنبًا لإيقاظ أي منهم، بالرغم من يقيني بأنه ليس في البيت سوانا .. لم يفكر أحدنا في إضاءة الحجرة، كأن إدراكًا مشتركًا بيننا أن الظلام ضروري في تلك اللحظة .. فتحنا الشباك بهدوء لنتطلع إلى الشارع حيث يهيمن الصمت الضبابي متواطئًا مع برودة الفراغ بين سماء سوداء ذات غيوم باهتة، وأرض لا يضيئها إلا نور أبيض شاحب لمصباح لافتة أحد الدكاكين المغلقة .. كانت نوافذ وشرفات البيوت مقفولة جميعها، ومداخل سلالمها معتمة كليًا .. لم يكن في الشارع سوى حيوانات ضخمة تستلقي إما نائمة أو في حالات نعاس متباينة أو بعيون مفتوحة بكامل اتساعها .. حيوانات لا تعيش إلا في الغابات والبراري، ولكنها تتوزع الآن بعد منتصف الليل في هذا الحيّز البارد الصغير من الشارع بصمته الغائم، وإضاءته بالغة الخفوت، أسفل الشباك الوحيد المفتوح الذي أقف وراءه أنا وأمي .. همست أمي (رغم أنني لم أظن أن يسمعها أحد غيري لو تكلمت بنبرتها العادية): هذا أسد .. أرد عليها بهمس مماثل تجاوبًا مع ما اعتبرته الشرط الصوتي للمشهد: وهذا نمر هناك .. هل تعتقد أن هذا فهد؟ .. لا، أعتقد أنه نمر أيضًا، لكن هذا الذي يتثاءب أظن أنه فهد .. لاشك أن هذا ذئب .. نعم، إنه ذئب ...

لحظات قليلة مرت في هذا الهمس المتبادل كأننا نشاهد فيلمًا مجسّمًا في قاعة عرض تخصنا وحدنا .. أحيانًا كان أحد الحيوانات يرفع عينيه نحونا ثم يهز رأسه وهو يخفضه ثانية .. أحدهم كان ينهض من مكانه ويتحرك لمسافة قصيرة للغاية ثم يعود للاستلقاء من جديد .. فجأة ظهرت قطط صغيرة .. القطط التي تعيش في الشارع دائمًا .. ظهرت بين الحيوانات الضخمة كأنها موجودة هناك منذ البداية .. عادت أمي للهمس: هناك قطة تقف بجوار هذا الأسد .. وجدت نفسي أرد عليها بالهمس ذاته: وهناك قطتان بالقرب من ذلك النمر .. هذا فهد .. لا هو نمر، أما الذي بجوار الذئب هناك فهو فهد .. وبجانبه قطة أخرى أيضًا .. نعم ثمة قطة بجانبه...

كانت القطط الصغيرة إما واقفة أو جالسة أو تتحرك في سكينة تامة بين الحيوانات الضخمة المستلقية على أرض الشارع .. لم أعرف أي استفهام ينبغي أن أوجهه لأمي: لماذا لا تهرب القطط الصغيرة من الحيوانات الضخمة؟، أم لماذا لا تلتهم الحيوانات الضخمة القطط الصغيرة؟ .. لكنني وجدت نفسي أسألها: هل هناك ما يحدث ولا يمكنني رؤيته؟ .. لم ترد أمي فالتفت إليها تلقائيًا .. لم أجدها بجانبي فعرفت أنه ينبغي أن أعود إلى النوم رغمًا عني.