الجمعة، 5 فبراير 2021

دفة المركب الصغيرة

 

المنظر:

حجرة معيشة خالية تماماً من الأثاث، من الضروري تأكيد الانطباع بأنها تنتمي إلى بيت قديم، هناك ثقوب قليلة في الحائط لمسامير سقطت مع آثار للبراويز التي كانت مُعلقة عليها، توجد في المنتصف شرفة مغلقة ذات ضلفتين خشبيتين متآكلتين يمكن فتحها والولوج داخلها لمسافة خطوة واحدة .. رجل عجوز تجاوز الستين يرتدي قميصاً وبنطلوناً متناسقين، وإن كان حذاءه مترباً.

يقف العجوز بعد تجاوز عتبة الباب الجانبي .. يتلفت حوله بنظرة ذاهلة تمزج بين الخوف والترقب والرجاء.

العجوز: لماذا تُرك باب هذا البيت مفتوحاً؟! .. والطفل الذي جاء بي إلى هنا .. أين اختفى؟!.

(يخطو للداخل ويتلفت حوله بنفس النظرة)

: لماذا لم يتكلم الطفل كلمة واحدة طوال الطريق؟! .. أعرف أنني هنا للمرة الأولى .. أنا متأكد من هذا بنفس اليقين الذي جعلني أضع يدي في يد الطفل الممدودة إليّ ، وأمشي معه منذ قليل .. لكنني متأكد أيضاً أنني أعرف هذا البيت، بل إنني عشت فيه من قبل .. هل كان الطفل يعرف هذا؟!.

(يتحرك مستكشفاً المكان)

: لا يوجد شيء .. مجرد حوائط .. هذا الفراغ يذكرني بـ .. يذكرني بأنني نسيت ملامح الطفل الذي رآني جالساً فوق الرصيف داخل شارع مزدحم .. هل نظرت في وجهه أصلاً؟!.

(يحرّك قدميه أكثر بتردد منهك)

: كلما حاولت ترويض إحساسي بالغربة عن هذا المكان، يزداد إيماني بأن ما أحاول اكتشافه هو ما كان موجوداً قبل الفراغ.

(يقف ثم يبتسم فجأة بتهكم مرهق)

: يبدو أن جسدي العجوز كان يعطي إشارة ما بأنني ما زلت حياً؛ حيث تركني العابرون مدة طويلة دون سؤال عن سبب جلوسي فوق الرصيف .. الجثث فقط هي التي تستدعي اهتمام الآخرين، لأنهم يعرفون أنها لا يجب أن تبقى بينهم طويلاً .. يبدو أيضاً أنني كنت مغمض العينين، لأنني لا أتذكر أي شيء عن الشارع، ولا عن البشر الذين كانوا يمرون أمامي قبل أن أرى ذلك الطفل يقف في مواجهتي مبتسماً.

(تتسع ابتسامته ويصبح صوته أكثر قوة)

: تذكرت الآن أنه كان مبتسماً، وأنني نهضت وسرت معه تاركاً نفسي لقيادته باطمئنان مبهم.

(يعود للتحرك ببطء متلفتاً حوله بالنظرة الذاهلة التي تمزج بين الخوف والترقب والرجاء)

: إذا قررت البقاء هنا هل سيكون ذلك انتقالاً من مكان قديم إلى مكان آخر جديد، أم عودة إلى مكان سبق أن تركته؟!

(يقف فجأة ثم يحرّك وجهه إلى نقطة جانبية في الفراغ، يبتسم كأنما يخاطب أحداً)

: هل تعرف يا صاحبي أنني دائماً كنت أفكر في أنه حتى الأحمق، المغفل تماماً كجوهرة نادرة بوسعه أن يمتلك لحظات من الصمت الغامض .. أن يراقب العالم بانتهاك خاص كأنه فريسته الخاضعة، بشغف متحدٍ، واثق في مهاراته الخبيثة على كسب كل المعارك حتى وإن خسرها .. يمكن لواحد مثلي أن يكون قبراً غير قابل لتوفير أي ثقة عن ما أُغلق عليه.

(تختفي ابتسامته فجأة ويعود الخوف إلى ملامحه)

: مع ذلك يا صاحبي فالخوف أقوى من كل هذا .. أنا أحمق وخائف فقط.

(تُسمع ضحكات قوية مختلطة: رجال ونساء وأطفال .. يبدو عليه الغضب)

: هذه ضحكاتهم .. أنا أعرفها جيداً .. هؤلاء ما كانوا يعتبرونني قوياً، ولا مصدر تهديد لأحد .. على العكس .. كانوا يعتبرونني عادياً جداً، وربما أقل من العادي .. كانوا يقولون أنه يجدر بي ألا أخرج بإسهاب من بيتي كي أوّفر على نفسي الكثير من الأذى المضحك .

(تختفي أصوات الضحك، يُحرّك وجهه ثانية فجأة إلى نقطة جانبية أخرى في الفراغ، يبتسم كأنما يخاطب أحداً)

: أخي العزيز .. دفة المركب الصغيرة التي كنت تعلقها في رقبتك .. التي احتفظت بها بعد موتك .. للأسف ضاعت .. كان على القدر أن يبقيها معك حتى النهاية، وكان عليها أن تبقى بأعلى بينما جسدك يهبط ويختفي تماماً تحت الأرض .. ربما رأت شيئاً لم يتمكن كالعادة أحد من رؤيته، وربما لديها استعداد بعد كل هذه السنوات لأن تخبرني به وأنا قادم إليك  .. كان ينبغي أن تكون معي الآن ولكنها ضاعت.

(يعود للتحرك ببطء متلفتاً حوله بالنظرة الذاهلة التي تمزج بين الخوف والترقب والرجاء)

: هل عاش الطفل هنا من قبل؟! .. كيف لي أن أعرف، وهو غير موجود الآن حتى أسأله.

(يملّس على الحوائط برعشة يديه)

: هذا البياض الباهت الذي يكسو الجدران، يمكنني أن أرى وراءه زخارف حمراء منتشرة فوق خلفية من الأصفر الهاديء .. أيضا هذه الثقوب الصغيرة، أعرف أن المسامير التي سقطت منها كانت تحمل لوحات لفتيات صغيرات.

(يحرّك وجهه ثانية فجأة إلى نقطة جانبية أخرى في الفراغ، يبتسم كأنما يخاطب أحداً)

: أختي العزيزة ..أنتِ لا تتعلمين من الماضي .. تفترضين في كل مرة أنكِ حينما ترتدين ملابس الخروج وتضعين المكياج وتحملين حقيبتكِ أن أباك سيوافق على ذهابك إلى صديقتك .. (يقلّد النبرة الأنثوية المنكسرة لأخته وعيناه في الأرض بخوف): هل يمكنني الخروج؟ .. (يعود للتحدث مبتسماً بالنبرة السابقة الأقرب للضحك): أحياناً يوافق مع تحذيره التقليدي الصارم .. (يُقلد اللهجة الغليظة المهددة لأبيه مع تحديق العينين المرعب): لا تتأخري .. (يعود للتحدث مبتسماً بالنبرة السابقة الأقرب للضحك): أحياناً أخرى يرفض بمنتهى البساطة دون أن تعنيه دموعك وأنت تخلعين فستانك وترتدين جلباب البيت .. نعم .. أنت تعرفين أن أباك كان حنوناً عليكِ في طفولتك وأنه كان يقبّلكِ ويأخذكِ في حضنه كثيراً لكنه الآن لم يعد كذلك.

(يلتفت فجأة من جديد إلى نقطة جانبية أخرى في الفراغ، تختفي ابتسامته، ويتحدث بحزن وحسرة كأنما يخاطب أحداً)

: هل تتذكرين يا أمي؟ .. فوق صفحة بيضاء منتزعة من كراسة رسم مدرسية رسمت بالقلم الرصاص السماء والشمس والبيوت والأشجار .. رسمت طفلاً يحمل بالوناتً كثيرة، ويمرح مبتسماً بين الزهور .. أثناء نومي .. دخلتِ يا أمي لتنظفي الحجرة من الأشياء التي لا أهمية لها .. طوحتِ بورقة الرسم من النافذة .. صدقيني يا أمي .. لوعدتِ سوف أُحضّر قهوتي وأغسل أطباق طعامي .. سوف أرتب حجرتي وأزيل الغبار وأمتنع عن التمدد فوق الأريكة حتى لا تتهالك .. سوف أمتنع عن التدخين والسهر وكسر الأشياء ساعة الغضب .. سوف أجعلكِ تشاهدين قناة التليفزيون التي ترغبينها وأرضى أن تعاقبيني على أي شيء حتى الهزائم التي لم أكن سبباً لها .. لو عدتِ سوف أقضي بقية حياتي في الجلوس بجوارك واستعادة الذكريات والحكايات المختبئة في الصور القديمة .. سوف أُقبّل تجاعيد وجهكِ دائماً، وأحاول إضحاكك بأي طريقة .. سوف أفعل أي شيء من أجلكِ رغم تأكدي من أنكِ لن تعودي لا لشيء سوى لأن الموت ربما جعلكِ أكثر خبرة بالحياة، ولهذا سترفضين الرجوع.

(يتلفت حوله مستعيداً النظرة الذاهلة التي تمزج بين الخوف والترقب والرجاء)

: ما الذي جاء بعجوز تالف الأعصاب مثلي إلى هنا؟! .. أشعر بالرعشة التي كانت تتملكني في شبابي على فترات ثم أصبحت لا تفارقني مطلقاً .. أشعر بها تزداد قوة .. كانت تفاجئني دائماً كلما استغرق تفكيري في الموت أو الجنون ثم تختفي، لكن يبدو أنني أصبحت منذ سنوات طويلة ميتاً ومجنوناً فعلاً لأن الرعشة لم تعد تختفي.

(يبتسم فجأة وتبدو النشوة على ملامحه)

: أثناء المطر الليلي كنت أُخبّيء رأسي في حضن ابنتي الصغيرة، أجذب الغطاء الثقيل فوقنا ثم احتضنها بقوة .. أخبرها بحماس مغامر أن علينا الانكماش داخل المركب الصغير الذي سيُبحر حالاً بنا .. كانت ابنتي الصغيرة تضحك، وتفرك قدميها بشغف دون أن تفهم .. كنت أؤكد لنفسي أنها حينما تكبر ستعرف أن السرير في الشتاء يمكنه أن يسافر إلى جُزر بعيدة ، وعوالم سحرية آمنة لو ظللنا ملتحمين ببعضنا، فرحين بالعاطفة المتبادلة بين البرد والدفء .. كانت ابنتي الصغيرة أحياناً تطلب أن أغني لها (يُغني بداية الأغنية): "كان فيه فراشة صُغنططة .. مفرفشة ومزقططة .. لابسة بلوزة منقطة .. على جونلة مخططة" .. ذات مرة بدأت ابنتي الصغيرة ترقص كالعادة حتى وصلت إلى حافة السرير و(يقولها بفزع) خطت إحدى قدميها في الهواء .. (مستعيداً النشوة) رفعتني يدا أمي من على الأرض ولم أكن أشعر بأي ألم .. كنت أصرخ وأبكي لرغبتي في الإمساك بالفراشة التي كانت تلعب مع "نيللي" في التليفزيون .. اقتربت أكثر من الشاشة هارباً من توبيخ أبي لأمي ولعناته على الطاولة التي سقطت من فوقها .. مددت يديّ الصغيرتين محاولاً اللحاق بالفراشة .. تلقفت ابنتي الصغيرة قبل وقوعها من فوق السرير وأنزلتها إلى الأرض .. (يتحسس رأسه) كانت أصابعي تتحسس مكان الألم الذي شعرت به في رأسي نتيجة الوقوع بينما جرت ابنتي الصغيرة مع الأغنية لتحاول الوصول إلى الفراشة التي لم أنجح أبداً في الإمساك بها (يُحرّك يديه في الهواء كأنه فشل في اللحاق بالفراشة).

(يستعيد النظرة الذاهلة التي تمزج بين الخوف والترقب والرجاء)

: أتصوّر أحياناً أنني مت فعلاً منذ زمن، وأن الموت يعني أن تتحول دون أن تشعر إلى نسخة لا تدري إطلاقاً بموت الأصل، ولا بما حدث في الدنيا بعد ذلك .. أن تواصل العيش بشكل عادي جداً داخل نسخة أخرى من حياتك المألوفة حتى نهاية العالم.

(يتلفت حوله بنفس النظرة)

: كان يوجد بشر يعيشون هنا .. هذه مسألة بديهية، لكن المشكلة أنني كلما حاولت تذكرهم لا أرى في مخيلتي سوى وجوه كثيرة متراصة ومنطفأة، تشرب في صمت من فناجين القهوة، مع صوت قرآن .. لماذا تركني الطفل وحدي؟! .. لا أستطيع الآن تفادي الشعور بالريبة تجاه نواياه التي دفعته لإحضاري إلى هذا البيت ثم التخلي عني لأواجه الغموض والنسيان والتذكر المشوش دون مساندة .. إلى أي مدى يمكن أن يصل الشر المحتمل الذي يحتفظ به تجاهي؟ .. هل هو مجرد طفل قرر استخدام عجوز مهمل في لعبة ما؟!، أم أن هناك ثأر قديم حان الوقت لتصفية حساباته بيننا؟! .. أريده أن يكون معي الآن ليساعدني على تذكر البشر الذين كانت لديهم زخارف حمراء فوق الجدران المطلية بالأصفر، وكانوا يعلقون لوحات لفتيات صغيرات .

(تتحول نبرته إلى حسرة ممزوجة بالسخرية)

: لا يكتفي الآخرون بترك المركب الصغير في اللحظات غير المناسبة .. يأخذونني أيضاً معهم، وأحياناً بإرادتي حتى أجد فرصة أخرى للعودة إليه من جديد بصحبة بشر غيرهم .. لماذا يدفعني العالم للتمسك بإيماني بأن جميع الأشياء قابلة للتحوّل إلي مراكب صغيرة؟!، ولماذا يدفعني دائماً للتخلص من هذا اليقين؟!

(تُسمع فجأة نغمات مرتجلة لبيانو .. يشعر بالفزع ويتحرك بسرعة في جميع الاتجاهات محاولاً تتبع صوت البيانو بنفس النظرة الذاهلة التي تمزج بين الخوف والترقب والرجاء)

: من أين يأتي صوت البيانو؟!

(يقف فجأة، ويغمض عينيه بقوة)

: هي أصابع صغيرة تلك التي تعزف عليه أو بالأحرى تحاول ارتجال لحن ما .. لكن البيانو أيضاً صغير .. أراه في عقلي صغيراً، ويقف على ثلاثة أرجل .. لونه بُني .. عدد من أصابعه معطلة .. هذا يبدو واضحاً جداً بالنسبة لي.

 (يفتح عينيه، يبدو عليه اليأس والتعب مع توقف صوت البيانو)

: لايوجد شيء .. هي الهلاوس تعاودني إذن .. هذا الصوت في عقلي فقط.

(تتسع عيناه فجأة كأنما اكتشف شيئاً فيسترد صوته الصلابة والأمل)

: ربما ليست هلاوس .. ربما الطفل الذي جاء بي هو الذي يعزف على البيانو .. ربما يختبيء في مكان ما.

(يتلفت حوله بنفس النظرة الذاهلة التي تمزج بين الخوف والترقب والرجاء)

: أين سيختبيء؟!

(يتحرك بارتباك في جميع الاتجاهات)

: لايوجد سوى الفراغ، ولا يوجد باب مقفل عدا باب الشرفة.

 (يفتح باب الشرفة بحذر .. يخطو للداخل)

: الطفل ليس موجوداً، ولكن كان يجب أن تكون هنا فروع طويلة ومتشابكة من اللبلاب معلقة بكثافة .. من أين جئت بهذا الافتراض؟! .. أصر على أن أوراق اللبلاب كانت غزيرة في سقف الشرفة وفوق جدارها المتآكل، ولكنني لا أرى الآن سوى شقوق ممتدة ومتقاطعة فقط.

(يشير إلى بيت قديم يواجه الشرفة)

: هذا البيت القديم المتهدّم ذو النوافذ الخشبية الغارقة في الغبار سيخرج من شرفته رجل عجوز أصلع يرتدي جلباباً .. يضع نظارة ذات عدستين سميكتين، وفي يده جريدة سيجلس ليقرأها .. هذا العجوز له ابنة جميلة بيضاء ذات شعر قصير فاحم، اعتادت الوقوف وحدها والنظر للسماء بحزن كسحابة لم تستطع الارتفاع أكثر من هذا.

(يبدو عليه اليأس)

: أي مخرّف يتصوّر أن هناك أحد يعيش هنا؟! .

(يتحرك بتعب ليجلس على الأرض فوق عتبة الشرفة .. لا يزال ينظر إلى داخلها)

: إذا فتحت شرفتك في الصباح، ووجدت فوق أرضها ريشة صغيرة .. أرجوك لا تلقي بها بعيداً .. هذه الريشة تخص طائراً وحيداً .. ظل يغني طوال الليل وراء الضلفتين المغلقتين، وحينما شعر بأنك لا تسمعه أسقط ريشة من جناحيه وحلّق إلى مكان آخر .. هذا الطائر يفعل ذلك كل ليل، ولأشخاصٍ غيرك .. حينما سيصبح بلا ريش على الإطلاق لن يستطيع الطيران، وسيظل يغني واقفاً حتى يموت في مكان لن يراه أحد .. لكنك ستعلم بطريقة ما أنه غادر العالم .. حينئذ سيمكنك أن تُخرج ريشته التي احتفظت بها، وتنظر إليها طويلاً لتكتشف إلى أي مدى يشبه الموتى بعضهم.

(يقف ويضع يده في جيبه ويمشي ببطء جيئة وذهاباً بعد خروجه من الشرفة .. يحكي مبتسماً بنبرة تجمع بين التهكم والأسى)

: بعد موت أمي ومرض أبي الذي أفقده الذاكرة والنطق والحركة اختفت كل العوائق الصغيرة الهشة التي كانت تحجّم بقدر ضعيف شراسة صرخات أختي في وجهي .. لكنني أثناء احتراقي اليومي بشتائم أختي وبمعايرتها لي على فشلي الدراسي وبطالتي وعلى طباعي المستهترة لاحظت أنها لا تُطلق صرخاتها إلا وهي جالسة على أقرب مقعد إلى هذه الشرفة (يشير إلى الشرفة) .. كنت أضحك بمرارة بيني وبين نفسي حينما أراها تبدأ أحياناً في سبابها المرتفع من أي مكان داخل البيت ثم تُسرع على الفور لتجلس هنا (مشيراً إلى نقطة ملاصقة للشرفة المفتوحة) حتى تُسمع الناس إهاناتها لأخيها الصغير، وليعرف كل من في الشارع مدى قوتها .. كنت أُغلق باب حجرتي على نفسي، وأنتظر حتى تنتهي، ثم أتردد كثيراً قبل الخروج من البيت خوفاً من أن أصادف أحداً ممن سمعوا الملحمة .. كنت أغادر الشارع بأقصى سرعة وأعود محاولاً ألا يلحظني أحد  كالهارب من مطاردة مفزعة .. لا يمكنني إنكار أنني فكرت أكثر من مرة في قتلها، ولكن الذي منعني ليس رفضي أن أدفع روحي ثمناً للتخلص من حنجرة فحسب، وإنما كان يعنيني أيضاً بقاء هذه الحنجرة في الحياة لتكون دليلاً حياً وحاضراً دائماً أمام عينيّ على صحة الكوميديا الكامنة في كراهيتي للفناء.

(يتوقف فجأة ويصمت قليلاً بتجهم ثم يبدأ في الضحك .. يضحك بقوة .. يقول وهو يضحك دون أن يتحرك من مكانه)

: حينما تزوجت عرفت من صوت زوجتي خاصة وقت عصبيتها أنها كانت ضفدعة في حياتها السابقة .. كان صياحها يقترب أثناء الشجار معي بدرجة غريبة فعلاً من الصوت المألوف للضفدعة، والمذهل أنني اكتشفت بعد الزواج أيضاً أن عينيها كانتا تشبهان إلى حد كبير عيني الضفدعة .. زوجتي التي أحببتها سبع سنوات في صمت، وعشت معها قصة حب سينمائية سبعاً أخرى، وخطبتها سنتين ولم أكتشف فصيلتها إلا بعد الزواج .. زوجتي لم تكن تتقيد بالجلوس على أقرب مقعد للشرفة مثلما كانت تفعل أختي .. كانت أكثر تحرراً فتعوّدت أثناء صراخها في وجهي، ومعايرتها لي على جلوسي في البيت بدون عمل، واعتمادي على المساعدات الخارجية تعوّدت على التنقل في مختلف أنحاء البيت .. ذات يوم وبينما كنت أنظر إليها ونقيقها المتشنج يمزق هواء البيت قلت في نفسي أن انتقالي من أختي إلى زوجتي ليس صدفةً بالتأكيد، وأن هناك شيء غيبي يبعث لي برسالة انتقامية لا أعرف سببها .. تمنيت لحظتها فجأة أن تصاب زوجتي بسرطان الحنجرة .. لكنني بعد وقت قصير تذكرت الأيام المتعاقبة التي لم أنم فيها عندما أخبرتني بأن شيئاً بحجم حبة العدس تشعر به في صدرها .. تذكرت اقترابي الشديد من الإغماء وأنا أنتظر نتيجة الأشعة، وفرحي الجنوني حينما أخبرتني الطبيبة أنها بخير.

(يتوقف عن الضحك فجأة ثم يتجهم للحظات قبل أن يحرّك وجهه إلى نقطة جانبية في الفراغ، يبتسم كأنما يخاطب أحداً)

: هل تتذكرين يا حبيبتي حينما كنتِ تحاولين بناء جسر بيننا؟ .. كنتِ تحدثينني بشغف عن العصفور الذي أخرج رأسه من العش المواجه لنافذتنا، وراح يصدر أصواتً كأنما ينادي على أحد .. في المساء، وحينما كانت رأسك تستلقي طويلاً فوق صدري، وكنتِ تفكرين صامتةً في أشياء كثيرة .. كنتِ ترفعين عينيك إلى وجهي، وتحدثينني بصوتٍ خفيض عن (البوم) الذي عادة ما يهاجم ليلاً أعشاش العصافير الصغيرة.

(يشعر فجأة بالفزع ويعاود التحرك بنفس النظرة الذاهلة التي تمزج بين الخوف والترقب والرجاء)

: أكاد أجزم بأنني مجنون بحق لأن الشك بدأ يتملكني بقوة في أنه كان هناك طفل، وأنني كنت أجلس على رصيف ما .. كان هذا وهم .. كيف جئت إلى هنا إذن؟! .. بالتأكيد أحد ما اصطحبني إلى هذا البيت .. بالتأكيد هو الطفل الصغير .. لكن من أين؟! .. بالطبع من الشارع لأنه لا يعرف منزلي .. أين هو منزلي؟! .. أنا لا أتذكر شيئاً عن المكان الذي أعيش فيه الآن، ولا عن ما إذا كان هناك أحد يشاركني الحياة فيه أم لا.

(يتوقف فجأة ثم يبتسم بحزن وحسرة)

: لن أتمكن أبداً من العيش في كوخ .. الكوخ الذي حاولت بناءه مرة بوسائد وأغطية السرير، ومرة بقطع خشبية قديمة كانت موجودة في هذه الشرفة (يشير إلى الشرفة)، ومرات لا حصر لها بمبررات متغيرة للثقة في الغيب داخل روحي .. الكوخ الذي لم يكتمل بناؤه أبداً.. كنت مجبراً على إبقاء نفسي بعيداً عن أي كوخ أرغب بشدة في أن أسكنه.

(يحرّك وجهه فجأة إلى نقطة جانبية في الفراغ، يبتسم بفرح عظيم كأنما يخاطب أحداً)

: ها هو الطفل الذي جاء بي إلى هنا .. أين كنت؟!، ولماذا تركتني كل هذا الوقت؟! .. لقد انتظرتك طويلاً .. ما هذا الذي تحمله في يدك؟ .. لا أصدق نفسي .. دفة المركب الصغيرة؟! .. أين عثرت عليها؟ .. لقد بحثت عنها كثيراً حتى يأست من استردادها .. (كأنه يأخذ الدفة من الطفل ويتأملها في يده) .. أخيراً يا عزيزتي .. (ينظر للطفل غير المرئي) .. لا أعرف كيف أشكرك .. تعال .. اقترب .. (كأنه يضم الطفل إلى جانبه) .. كن بجانبي، وتمسّك بي جيداً .. سنبحر بالمركب الآن (يرفع يديه أمامه كأنه يُمسك بالدفة الصغيرة ويحركها كأنه يقود المركب .. يضحك بنشوة وينظر للطفل غير المرئي ثم إلى الأمام) .. تمسّك بي جيداً .. هل تشعر؟ .. المركب تتحرك الآن .. (يضحك بنشوة وهو يحرك يديه كأنه يحرك الدفة الصغيرة).

ستار