كان دائم الشكوى مما يعتبرها عيوبًا فادحة، أو أخطاءً لا تُغتفر ضد
القواعد الثابتة المتفق عليها والمفروغ منها للكتابة الأدبية .. ولم يكن غريبًا أن
تنتج ذائقته ـ باعتبارها مرجعًا شاملًا لتلك القواعد ـ أكثر الاستجابات عنفًا تجاه
النصوص التي لا تتوافق معها .. كان يبدو في أشد الاحتياج لاستعراض ما يمارسه من
ردود أفعال انتقامية بعد الانتهاء من القراءة دون تعطيل أخلاقي من أي نوع كإلقاء
قصاصات منتقاة من رواية ما في المرحاض قبل التبول أو التبرز فوقها، أو رمي أشلائها
في صندوق القمامة، أو تطويحها بعلامات بصاق من نافذة البيت أو شباك سيارة، أو إعطائها
إلى الباعة الذين يستخدمون الأوراق المهملة في تغليف بضائعهم، أو عرضها كهدية
مجانية لشخص لا يطيقه .. كانت إدانته الذاهلة تطارد بالضرورة وعي القراء الذين
يحتفون بالأعمال المنبوذة من فردوسه اللغوي، أو تلك التي لا تلتزم بما يسميه
"الشروط التاريخية للسرد الأدبي" .. كان يردد طوال الوقت: إن العمل الذي
لا يروق لي هو (عمل سيئ)؛ فأي شخص حينما يقرر كتابة رواية لابد ألا ينشد غاية
تتخطى إرضائي، ووفقًا لذلك تصبح روايته (رديئة) إن لم تحقق هذا الرجاء.
كان يؤمن أيضًا بأن التناص البارز، أو الصلة الظاهرة بمادة فنية أو
محتوى تاريخي، أو الاشتباك مع نظرية نقدية معينة أو مضمون فلسفي محدد أو تحليل ما
في علم النفس، أو الاستخدام المقصود لإحدى تقنيات السرد في العمل الأدبي الذي لا
يعجبه؛ كل هذا ليس مبررًا لتضييع الوقت أو بذل الجهد في التفكير والبحث للعثور على
اكتشاف يمكن أن تثمر عنه تلك الأداءات .. كان يثق تمامًا في صحة انطباعاته وصواب
رؤيته التي تتضاءل أمامها أهمية أي إدراكات أخرى، وهو ما كان يجعل الأمور أكثر
سهولة بالنسبة له .. كانت هذه الثقة تحميه من أي ممارسة ذهنية شاقة يرى نفسه غير
مضطر لها.
كانت الريفيوهات التي يدوّنها عن الأعمال التي لا تحظى بقبوله تفيض بـ
(أخفق الكاتب في ...)، (فشل الكاتب في ...)، (لم ينجح الكاتب في ...)؛ إذ كان يؤكد
من خلالها أن هناك ثمنًا ينبغي للكاتب أن يدفعه نتيجة عدم إشباعه شخصيًا، كما كان ينتهز
تلك الريفيوهات أيضًا في الثأر مما يسميها "السخافات البراقة" أو
"لافتات الهراء الذائع" مثل: (لكل عمل أدبي قانونه الخاص) .. (الدوافع
الجمالية للنص) .. (المنطق الشخصي للكاتب) .. عبارات لا تجسّد في تصوّره سوى تفاهة
طاغية حيث لا يوجد سوى قانونه هو الذي لابد أن يكون قانون الجميع، ومنطقه هو الذي
لابد أن يكون منطق الجميع، ودوافعه هو التي لابد أن تكون دوافع الجميع، وإلا لصارت
الحياة عبثية وليس لها حاكم.
لم يكن كل هذا منفصلًا عن حلمه القديم بكتابة الرواية الإعجازية
الشاملة، الخالية من أي عيب أو خطأ .. الرواية التي لا تدنس قواعدها شائبة، ولا
يجرح أساسياتها ذنب .. الرواية التي تمنح الإرضاء التام لجميع القراء في كل مكان
وزمان .. كان يريد أن يكتب الرواية الكونية المثالية، المحصّنة من تقلبات الوعي، التي
لا تنقص أبدًا نجومها الخمس على جودريدز.
كان الكتّاب الجيدون في اعتقاده هم الأقل انتهاكًا لشروط الكتابة، وطموحهم
جميعًا كان تجنّب الفشل في تحقيق الكمال السردي، وبلوغ أقصى درجات التوافق المحكم
مع كل قارئ مهما كان، ولكن لم ينجح أي منهم أبدًا في كتابة رواية بلا خلل .. ولأنه
كان ينظر إلى نفسه كقارئ خبير في "النجاحات والإخفاقات الأدبية" فقد أيقن
أن بإمكانه كتابة تلك الرواية التي لا يمكن لأي شخص أن يوجّه إليها إدانة ما .. الرواية
التي ستتوّج ملكة على عرش جودريدز، وسيكون اسمها دالًا على موضوعها، وعلى إهدائه
تلك الأيقونة السردية الخارقة للموقع في نفس الوقت: (عزيزي جودريدز).
"لكنها لن تكون رواية فقط" .. كان يعدها العقل المفكر لجميع
الأعمال السردية السابقة واللاحقة، التي تمثّل أعمق مستويات الفهم لطبيعة الفن
الروائي، وموطن الحكمة السردية الخالصة .. قاموس المعرفة الذي تحتاجه كل رواية
لتصحيح جمالياتها، والنموذج الأعظم الذي سيبقى وحده بعد موت جميع الروايات، شاهدًا
على نقصانها، وعلى ما كان يجب أن تكون عليه كائناتها وأحلامها .. كان يؤمن بأنه
بالرغم من كل شيء، لن تنجح أي رواية في إنقاذ نفسها مهما حاولت الاقتداء بروايته؛ إذ
أن من أنتج تلك الروايات في النهاية كتّاب آخرون وليس هو.
كان لديه مخططًا دقيقًا وحاسمًا لإنجاز الأمر: "سأجعل رقمي
المفضل معيارًا لما سأنتقيه كذخيرة تجهيزية للرواية .. سأختار سبعة كُتاب، سبع
روايات، سبع شخصيات، سبع حبكات، سبع تقنيات، سبعة أساليب لغوية، سبعة أماكن، وسبعة
أزمنة .. ستكون الروايات التي منحتها التقييم الأعلى على موقع جودريدز هي كنز
اختياراتي، وبحرص بديهي على التنوع الجغرافي والزمني لتلك الاختيارات .. ستمتزج
تلك الذخيرة بمئونتي السرية التي ادخرتها من أجل تلك اللحظة، والتي سيكون الرقم
ذاته مقياسًا لها أيضًا: سبع ذكريات خاصة، سبع شخصيات ممن أعرفهم، سبعة مشاهد من
حيوات تلك الشخصيات، سبعة أماكن خطوت داخلها، سبعة أزمنة مررت بها، سبعة أحلام
عبرت نومي، سبع تفاصيل عامة تسكن مخيلتي: البحر .. أثداء النساء .. الشرفات
القديمة .. موسيقى "الراعي الوحيد" .. المطر .. الرسائل الممزقة ..
الانتقام الهاملتي (نسبة إلى هاملت).
كان منتشيًا بالتوقع...
لن يكون في حاجة بعد نشر روايته إلى معاقبة الكتّاب الذين لا يعرفون
كيف يكتبون، والقراء الذين لا يعرفون كيف يقرأون .. ستتكفل روايته بذلك الدور
التنويري، وستنفّذ وحدها تلك الوصية التطهيرية .. ستؤدي روايته نيابة عنه الأمانة
الإلهية التي طالما اعتبر نفسه أكثر الجديرين بها.
لكنه حينما بدأ في الكتابة وفقًا لخطته الراسخة شعر بأنه يرتكب خطًأ ما دون قدرة على تحديده .. مع ذلك استمر في الكتابة، وبمرور الوقت تصاعد إدراكه بأنه لا يفعل الشيء الصحيح رغم التزامه بكل ما قرره واستقر عليه من خطوات ومسارات .. شعر بأن الأخطاء المتزايدة التي يخطها بعكس المنتظر هي ما تدفعه لمواصلة الكتابة .. كل مفردة كانت في مكانها .. كل عبارة كانت في موضعها .. لكن السرد كان يكشف في كل لحظة عن هوّة معتمة بين كلماته ورجاء غامض في نفسه .. كان موقنًا بصورة مبهمة بأنه لا يقوم بالأمر كما ينبغي، وكان ذلك ما يحرّضه على التمادي في الخطأ بمتعة غريبة، كأنما يمارس طقسًا تعبديًا لإثم غير مألوف .. الإثم الذي لا توجد فضيلة تناقضه .. بعدما انتهى من الكلمة الأخيرة؛ كانت الفراغات بين الكلمات والجُمل والفقرات هي الموطن الوحيد للصواب في روايته .. ما يبدو صمتًا خبيثًا داخل المتن الذي لم يتوقف بالنسبة له وبعد تعديلات وتغييرات استقصائية عديدة عن أن يكون وكرًا للأخطاء .. كان ذلك سببًا في مضاعفة سعادته المنبعثة من اتجاه مضاد لمشيئته السابقة .. السعادة التي أبقت على عنوان الرواية كما هو بعد أن أصبح مُضاءً بنبرة ساخرة .. شعر حينئذ أن ظلالًا مباغتة آخذة في التوالد داخل روحه لم تتمثّل من قبل لموت أبيه.