أخرج من بيت العائلة بعد انتهاء زيارتي الأسبوعية لشقيقتي الكبرى ..
كالعادة أسير في الطريق نحو بيتي مثقلًا بالأسى منقطع الرجاء تجاه كل ما يخصها:
حياتها .. وحدتها .. عمرها الكبير الذي صارت إليه بوفرة جسيمة من القهر النفسي
والجسدي .. أردد في داخلي ـ كالعادة أيضًا ـ وأنا أخرج من ميت حدر نحو الكوبري
السفلي باتجاه الجوازات بأنني فاشل في تعويضها عن كل ما كان سببًا في تحطيمها، ولم
أستطع حمايتها من شرّه .. الفشل الذي يعادل المسئولية الكاملة عن هذا الحطام ..
أنا حتى لا أستطيع أن أقول لها كلمات شكر حقيقية تجاه كل ما تفعله من أجلي .. لا
أستطيع أن أجعلها على الأقل تكتب عن كل ما عانت منه مثلما رسمت فريدا كاهلو آلامها
في لوحات مثل "طفلة مع قناع الموت" أو "بدون أمل" أو
"العامود المكسور" .. نجلس ونتحدث ونسترجع ذكرياتنا حيث يدور كل شيء عن
الموت: الماضي حينما يكون فردوسًا مفقودًا أو جحيمًا غامضًا .. الأحبة الذين
اختفوا تباعًا فجأة داخل قبورهم تاركين امرأة تقترب من الستين، وأخاها الأربعيني
كأشلاء متناثرة تتظاهر بأنها جسدان متماسكان .. الأرق المختبئ في روح كلٍ منا بالعذاب
المنتظر لمن سيبقى لديه وقت أطول حينما يختفي الآخر للأبد.
انتهيت صباح اليوم من قصيدة "لحظات الطيران المؤقتة"، والتي
نجمت عن مشهد ظل يصاحبني منذ الأسبوع الماضي حين كنت أجلس وحدي في صالة
"مارشال المحطة" عصرًا .. رأيت عبر النافذة الزجاجية الكبيرة بجواري كيسًا
بلاستيكيًا صغيرًا يطير بهدوء حتى أصبح عاليًا جدًا فوق ميدان المحطة .. ظللت أراقبه،
بيقين أنه يشعر بالسعادة تحديدًا الآن، ربما وبصورة استثنائية مبهمة لا تتشابه مع
مشهد مماثل سبق أن رأيته من قبل؛ حتى إنني شعرت بضحكات الكيس الصغير غير المسموعة
وهو يواصل الابتعاد عن عينيّ وراء أسطح البيوت.
أثناء تصفّح برنامج العمل الخاص بي مررت على الإشارة المتعلقة بالبحث
على الإنترنت عن مسابقات أدبية جديدة .. تجاهلتها مثلما تعوّدت أن أفعل منذ فترة
طويلة .. أتذكر أن شريف صالح أثناء وجوده في المنصورة الشهر الماضي سألني إذا ما
كنت قد أرسلت روايتي "إثر حادث أليم" إلى جائزة ساويرس؛ فأجبته بالنفي،
وحينما سألني عن السبب أخبرته بالإجابة التي يعلمها كل كاتب في مصر فضحك وقال لي
أنه لا مانع من المحاولة، فأعدت عليه الإجابة مرة أخرى مستخدمًا المزيد من كلماتي
الأثيرة.