"ملك" تواصل العمل على لوحاتها الثلاث الخاصة بكتابنا
القصصي المشترك، والذي أنوي نشره إلكترونيًا قريبًا .. ربما سأتحدث فيما بعد عن
تجاربي مع "النشر الإلكتروني" خاصة بعد النقاشات التي دارت حين قررت
إصدار نوفيلا "جرثومة بو" إلكترونيًا قبل أن أؤجّل نشرها مع ظهور احتمال
لإصدارها ورقيًا في العراق بفضل صديقي الكاتب العزيز د. لؤي حمزة عباس .. ألمس
بوضوح استفادة "ملك" من كورس الرسم الذي حصلت عليه في مركز
"أركادا" منذ فترة قصيرة، كما تحاول أمها ـ التي ستساهم بالفوتوغرافيا
في الكتاب ـ مساعدتها على تنفيذ ما طلبته في اللوحات: التوازن بين العفوية
الطفولية والانضباط التقني .. أفكر في "ملك" وهي بعيدة عني أكثر مما
أفعل في وجودها .. حينما نكون معًا أحاول تضليل ذلك التفكير الذي كان مهيمنًا في
غيابها كي لا أفسد لحظاتنا التي تظل قصيرة دائمًا .. لكنها بمجرد أن تغمض عينيها
آخر كل ليل بجانبي، وبينما ألعب دور شطرنج أخير على الهاتف قبل النوم؛ يطغى الشعور
بالإثم خالصًا وحادًا في قلبي .. الشعور الذي لا يختفي، وإنما يتظاهر أحيانًا
كمزحة من الجحيم بأنني نجحت في تضليله، كي يضاعف نفسه لحظة بعد أخرى .. ذات يوم
سألتني "ملك": إنت عمرك ما عيّط يا بابا؟ .. كنت مضطرًا لقطع الطريق على
استفهاماتها اللاحقة فكذبت عليها: وأنا صغيّر بس.
كان لدي وقت اليوم للخروج والذهاب إلى فندق "مارشال المحطة"
ولكنني لم أرغب في مقابلة أحد .. لم أرغب في التحدث والتدخين والاستماع إلى
الشخصيات التي تعرّفت عليها هذا العام، وأصبحت كلما غادرتهم ـ وبصورة متوقعة
تمامًا ـ أكثر تأكدًا من ذلك اليقين الذي كان يرافقني منذ شهور وأنا أدور وحدي في
ميدان المحطة والسكة الجديدة وشارع بنك مصر وسيدي عبد القادر وميت حدر قبل بداية
علاقتي بهم .. اليقين بأن ثمة خسارة سيزيفية أخرى في انتظاري لو استطعت أن أكون
صديقًا لهؤلاء .. بالترتيب المختصر؛ تم الأمر على هذا النحو الذي يبقى مفاجئًا رغم
تكراره: قطع الصلة العبثية المهلكة بمن كانوا يصنّفون كأصدقاء مقربين لي بعد صدور
"الفشل في النوم مع السيدة نون" عام 2014، والمقترن بحظرهم جميعًا على فيسبوك .. الدوران في شوارع الذاكرة
بمفردي يومًا بعد آخر كقط ضال، يتحرك ويتوقف ويتلفت حوله بخوف، مراقبًا الوجوه
والأجساد المتلاطمة، ومتطلعًا إلى البيوت القديمة الأشبه بكتل شاهقة من الرماد
المتجمّد ذي الفجوات المتناثرة ثم العودة إلى مخبأه المظلم بحصيلة إضافية لاهثة من
الحسرة واليأس والخذلان المكتوم .. البحث عن شخصيات جديدة تمنحني دون عداءٍ أو
نقصان تاريخ المتعة والغرابة في المدينة حيث تكمن جذوري البعيدة والغامضة، أي تقدم
لي بوفاء مثالي الذخيرة التي أحتاجها للانتقام من المكان الذي يحتجزني منذ 42 عامًا .. التسلل عبر نفق من المصادفات المتعمّدة نحو ما كانت تبدو
كجماعة منتقاة من خزنة المرح .. تحريك الصخرة من قاع كل جثة إلى قمتها قبل أن
تتدحرج ثانية لأسفل .. لكن لطالما كان بوسع سيزيف القول بأن تخيلاته الهازئة داخل الظلام
المغلق للعزلة أكثر متعة وغرابة من العوالم التي تؤلفها ذرات الحجر، والنثرات
المعدنية للجبل، والتي اعتبرها ألبير كامو دافعًا للسعادة النضالية عند سيزيف.
أضفت هذا المساء فكرة جديدة إلى قائمة المشاريع المؤجلة التي تتوهم
حربًا غير متكافئة ضد الزمن .. فكرة ساخرة تستخدم شكل المعادلة الصادمة التي سبق
أن لعب بها الكوميديان الأمريكي الفادح لوي سي كي في عرضه الرائع "بالطبع ..
لكن ربما" .. أما معادلتي ـ التي تركّز بشكل أساسي على الوسط الأدبي في عاهرة
الدنيا ـ فتفترض هذا التوازن: "لن تستطيع أن تمنع ... لكن يمكنك أن
...".