الجمعة، 23 أبريل 2021

الجالس أمام النهر ... (مسرحية قصيرة في فصل واحد)

المكان: طريق فارغ بمحاذاة نهر .. رجل في منتصف العمر يجلس صامتًا على أريكة تقابل النهر معطيًا ظهره طوال الوقت للمتفرجين بحيث لا يُكشف وجهه أبدًا.

الوقت مساءً

يدخل إلى المسرح رجل في عُمر مماثل لذلك الجالس على الأريكة .. يقترب منه ويحدّثه متحرّكًا من حوله دون أن يجلس بجواره على الإطلاق.   

"مساء الخير .. كنت أعرف أنني سأجدك هنا .. جالسًا على تلك الأريكة .. أمام النهر .. وحيدًا .. تحدّق بنظرة ثابتة نحو الضفة الأخرى، كأنك لا ترى أي شيء، أو لا تبصر سوى درجات مموهة من الظلال .. أمر مؤسف حقًا ألا يكون لديك ابنة صغيرة تشاركها اللعب الآن، أو تصطحبها للتنزه في حديقة ما، أو تقرأ لها حكاية مشوّقة بينما تنعمان بالدفء الحميمي لغرفة المعيشة .. صدقني، ربما لحظات كتلك هي الأمر الوحيد الذي يستحق أن تتزوج من أجله يا صديقي .. اللحظات التي حرمت نفسك منها .. حسنًا .. مازلت تعتقد أن البقاء هنا، أمام النهر، هو الحياة التي لا يعادلها منزل تسكنه مع زوجة وأبناء .. أنظر .. إنها آخر صورة التقطها لابنتي الصغيرة .. هل ترى ذلك السحر المُسكر الذي ينبعث من عينيها الودودتين، وابتسامتها الرائقة .. أرجو ألا تظن أنني أفعل ذلك كي أسبب لك شعورًا بالحسرة .. أنا لست عدوك كما تعرف .. ولو أني لن أستغرب أبدًا لو اعتبرتني كذلك .. لطالما اعتقدت أنني لم أفعل شيئًا في حياتي غير خيانتك .. لكنك تعلم أيضًا أن ذلك كان رغمًا عني .. هل مازلت تتصوّر حقًا أنني لم أتوقف أبدًا عن محاولة قتلك؟ .. أنا لم أقصد ذلك على الإطلاق .. أدرك جيدًا أنه لا شيء يستطيع أن يمحو ذلك اليقين من روحك .. أنظر لهذا الوجه .. أنظر إليه جيدًا .. هل تعرف لماذا كانت ابنتي الصغيرة تبتسم في تلك اللحظة؟ .. لقد كنت أحدثها عنك .. نعم .. كنت مجبرًا أن أحدثها عنك، وكان ذلك يمنحها السعادة .. كنت أتعذب بينما ظلت هي تبتسم كدمية مصنوعة من تلك الغفلة الناعمة التي ترتسم على وجهها الآن .. الغفلة الخبيثة القاتلة .. كنت أحكي لها عن حياتك، وذلك ما كان يجعلها ممتنة لي .. معك حق .. ليس هناك ما هو أكثر جدارة بالضحك من تلك المهزلة الوحشية .. لكنها على الأقل ابنتي .. نعم .. عندي ابنة صغيرة ليس لديك مثلها .. سخريتك مني لن تغيّر شيئًا في تلك الحقيقة .. لكن لا بأس لو كانت ابنتك أيضًا من حين لآخر .. أنت تعرف أنك مُرحب بك في منزلنا طوال الوقت .. سنظل أصدقاءً دائمًا كما تعلم .. حتى لو كنت سر آلامي كلها .. كان يمكن لحياتي أن تكون أقل شقاءً لو أنني نجحت في التخلّص منك .. رغم كل ما يدعيه وجودك من أنك الجانب الأفضل من ذلك العمر الذي لا أصدق حقًا أنني عشته .. كيف تحوّلت من كاتم أسراري إلى الشبح الذي يطاردني في كل وقت ومكان .. ما الذي جعل صداقتي بك هي الإرغام الأشد قساوة على نفسي .. ذلك لأنك تمتلك من الحرية والأمان ما لا يمكنني حتى تخيّله .. تستطيع أن تتسلل فجأة من خلالي وتتودد إلى زوجتي وطفلتي أو إلى أي شخص آخر أعرفه دون تهديد .. دون خوف من العقاب .. حتى أنك تضمن المكافأة التي يمنحوك إياها مقابل حضورك المباغت والمؤقت .. حضورك الذي يبهج قلوبهم، ويحطم قلبي .. لأنك مخادع .. لأن خداعك هو الأكثر روعة وسط كل زيف العالم .. لم أتمكن من قتلك، فأصبحت قاتلي المتنقل عبر الوجوه التي تحاصرني دائمًا .. قاتلي الذي لا أقدر على فراقه حتى لا تتبدد تلك الوجوه من حولي .. حتى لا يتبدد وجهي .. تفعل كل هذا في صمت محكم .. صمت يساوي غيابك .. من يصدّق؟ .. شيء يتظاهر بالتجسّد مثلك يمكنه أن يرتكب أفظع الشرور .. إنك لا تكتفي بذلك فحسب بل وتدفعني دائمًا للاعتراف أمامك كما لو كنت أنا المذنب .. تجعلني أتوسل إليك في كل لحظة حتى لا تتخلى عني .. أحكي قصصك لمن حولي، وأريهم صورك، وأطلعهم على أشيائك التي مازلت أحتفظ بها .. كأنها قصصي وصوري وأشيائي .. كأنك لست الشيطان الذي يسكن جسدي ويلتهمه ببطء سادي منذ أربع وأربعين سنة .. كل هذه السنوات قضيتها في تجربة تعاويذ فاشلة للتحرر منك، بينما لم تكن تحتاج أكثر من الجلوس صامتًا على هذه الأريكة أمام النهر دون أن يعنيك أي شيء .. لا تكترث لأي تعاسة سببتها لي وللآخرين كقدر لا مهرب منه أو كلعنة أبدية أنت وحدك متوّج على عرشها .. تجلس على هذه الأريكة كملاك موت يستطيع أن يقبض أرواح المحتضرين في كل مكان وزمان دونما احتياج حتى لتحريك رأسه ..  لكن لأذكرك مجددًا .. كل ما فعلته بي جعلني أحتفظ بما لا تمتلكه أنت .. جعلني أحتفظ بطفلتي .. أما أنت ـ رغم كل شيء ـ ليس لديك سوى التحديق إلى الضفة الأخرى بتلك النظرة الثابتة .. النظرة التي لا تستطيع أن تمنحك طفلة صغيرة كابنتي .. لمرة أخيرة: هل ستظل صامتًا هكذا؟ .. حسنًا .. إن الصمت هو ما يلاءم كائنًا وحيدًا مثلك .. أما أنا فسأعود إلى ابنتي الصغيرة التي جعلتها أنت تحبني أكثر مما لو لم يكن لك وجود في العالم".

(ظلام)

اللوحة: Joan Miró. The Birth of the World