السبت، 4 يناير 2020

دكتور باركمان ومستر ويبستر

الأصل الواقعي لرواية "القضية الغريبة لدكتور جيكل ومستر هايد"
أقدم في هذا المقال عرضًا مختصرًا لدراستي التي تصدر قريبًا حول الأصل الواقعي لرواية "القضية الغريبة لدكتور جيكل ومستر هايد" لروبرت لويس ستيفنسون، والذي يتناول بعضًا من الأسس التي قامت عليها، أما الدراسة نفسها فقد اشتملت على استقصاء دقيق لحياة ستيفنسون، وملابسات كتابة كل عمل من أعماله، وكل ما تم توثيقه حول أحلام ستيفنسون عن هذه الرواية، وعلاقة زوجته الأمريكية بمسودتها، وجميع العوامل التي أحاطت بكتابتها عام  1885وكذلك كل ما يتعلق بقضية مقتل دكتور باركمان على يد صديقه دكتور ويبستر عام 1849 بكلية الطب جامعة هارفارد في مدينة بوسطن الأمريكية.
منذ صدورها عام 1886 نُسبت إلى رواية "الحالة الغريبة للدكتور جيكل ومستر هايد" خلفيات واقعية عديدة، وتحديدًا الشخصية الحقيقية التي كانت مصدر إلهام روبرت لويس ستيفنسون لتحويلها إلى شخصية دكتور جيكل: ديكون برودي، العضو المحترم في مجلس مدينة إدنبرة، السارق ليلاً، والذي تم القبض عليه وشنقه .. يوجين شانتريل المعلم الفرنسي الذي أدين وأعدم بتهمة قتل زوجته بالسم .. جون هنتر الجرّاح الاسكتنلدي الذي يُشار إلى منزله أحيانًا كالبيت نفسه الذي كان لدكتور جيكل في الرواية.
لكن الدراسة التي أقدم عرضًا مختصرًا لها تطرح أصلًا واقعيًا لا يعتمد على التقارب الجزئي مثل الاحتمالات السابقة، وإنما على التماثل الشامل، أو ما يشبه المطابقة الكلية بين الرواية وقضية (باركمان ـ ويبستر) .. خلفية حقيقية تتضمن كل شيء: الشخصيات وماضيها وعلاقاتها، وأداءاتها الجسدية، وكذلك الأماكن والأحداث والتصاعد الدرامي والعناصر المادية وطبيعة المجتمع.
كان الدكتور جورج باركمان (
1790ـ 1849) والدكتور جون ويبستر (1793 ـ 1850) متشابهين في نواح عديدة .. كانا صديقين منذ الطفولة، وزميلي دراسة في المرحلة الجامعية .. كان باركمان طبيبًا للأمراض النفسية والعقلية، اعتزل الطب، وتفرغ لإدارة أملاكه الموروثة، كما كان مُحسنًا معروفًا، وخصص تبرعات لمساعدة المرضى النفسيين وتوفير سُبل ملائمة للعناية بهم، ومن ضمن ما كان يتحدث به وفقًا لدراسته للأمراض العقلية والنفسية أن أي شخص مهما كانت طباعه الودودة، المسالمة، يستطيع أن يرتكب فجأة أكثر الأفعال فظاعة، وهذه العبارة التي تم تداولها بعد مقتله باعتبارها كانت بمثابة نبوءة للطريقة التي سيُقتل بها؛ تعد تلخيصًا لحالة دكتور جيكل .. أما ويبستر فكان أستاذًا للكيمياء بكلية الطب، جامعة هارفارد بمدينة بوسطن الأمريكية، وخبيرًا في التشريح، وكان بارعًا في مهنته، وصاحب فضول علمي كبير، ولكنه كان يعاني من المشكلات المادية وتراكم الديون بسبب حرصه على حياة الرفاهية لعائلته، والتي
كانت تفوق إمكانياته، فضلًا عن الإنفاق على ما تتطلبه تجاربه وأبحاثه العلمية .. نستطيع القول أن روبرت لويس ستيفنسون قد خلق شخصية دكتور جيكل كمزيج من الشخصيتين: الطب .. تخصص الكيمياء .. المعرفة بالطب النفسي وعلم التشريح .. الثراء الذي يرجع لأصول عائلية .. المكانة المرموقة والسمعة الطيبة .. الاستضافة الحميمة للأصدقاء في حفلات العشاء .. الإحسان للآخرين .. التحوّل من "الخير" إلى "الشر" .... نستطيع القول أن جورج باركمان وجون ويبستر كانا شخصًا واحدًا اسمه دكتور جيكل.
سافر روبرت لويس ستيفنسون (1850ـ 1894) إلى أمريكا عام 1877 من أجل الزواج بحبيبته الأمريكية التي كانت على وشك إتمام إجراءات طلاقها .. لم يكن ستيفنسون بحاجة إلى هذه الرحلة كي يتعرّف على قضية "باركمان ـ ويبستر" إذ أن تفاصيلها كانت منتشرة في العالم كله، وأصبحت من المراجع القانونية المعروفة والهامة خصوصًا في علم الأدلة الجنائية، وكان من السهل على ستيفنسون الاطلاع عليها أثناء دراسته للقانون، لكن هذه الرحلة قد ساهمت بالتأكيد في دعم هذه المعرفة.
في السطور التالية طرح موجز لبعض تفاصيل هذه القضية الشهيرة التي استخدمها روبرت لويس ستيفنسون في كتابة رواية "القضية الغريبة لدكتور جيكل ومستر هايد".
المكان
تقع حجرة مكتب ومعمل دكتور جيكل في الرواية في طابق علوي حيث توجد سلالم يقود إليها ممر أو فناء مغلق بالباب الخلفي للمنزل، والذي كان مخصصًا لعبور "هايد" بعكس الباب الأمامي، وهذه الغرفة ملحقة بقاعة تشريح قديمة .. كان مكتب ومعمل دكتور ويبستر في كلية الطب ـ حيث حدثت جريمة القتل ـ في طابق علوي إذ كانت توجد سلالم يقود إليها ممر أو فناء الكلية والتي استخدم ويبستر بابها الخلفي بحسب رؤية الشاهد الأساسي في القضية بعد تنفيذ الجريمة، وكان لهذا المعمل باب خلفي يتيح له ـ أي دكتور ويبستر ــ الدخول والخروج من المعمل، كما كان ملحقا أيضًا بغرفة تشريح مثل معمل دكتور جيكل.
اللعب بالاختفاء
أخبر دكتور جيكل  صديقه ومحاميه "أترسون" في وصيته بأن ثروته تؤول في حالة "اختفائه" إلى مستر هايد، وكانت كلمة "الاختفاء" هذه غامضة تمامًا بالنسبة للمحامي، وظل طوال الرواية غير قادر على فهم معناها، كما أنها تكررت مع الطبيب لانيون الصديق المشترك لجيكل والمحامي، وكان الدكتور جيكل يقصد بذلك أن يضمن احتفاظه بما يملك إذا ما فقد القدرة على العودة إلى شخصيته المعروفة، وتحتم عليه العيش للأبد بشخصيته الأخرى "هايد" .. في نهاية الرواية أيضًا حينما تم فتح باب المختبر وجد الخادم والمحامي جثة هايد، بينما كان جيكل مختفيًا، وظلا يبحثان عن جثته التي قررا أن هايد قد أخفاها في مكان سري .. ولهذا ففعل الاختفاء من ضمن الركائز الأساسية التي قامت عليها الرواية .. في قضية (باركمان ـ ويبستر) لم يتم اكتشاف الجريمة على الفور، بل كان هناك "اختفاء" لشخصية جورج باركمان لأن جون ويبستر قد أخفى جثته بعد قتله .. أثار اختفاء باركمان حيرة بالغة لدى الجميع، وأعلنت عائلته عن مكافأة مالية لمن يعثر عليه، كما لم تتوقف الشرطة عن البحث حتى اكتشاف بقايا الجثة .. هنا كان جيكل هو باركمان الذي يختفي لصالح ظهور هايد / ويبستر، وقد تم إخفاء جيكل بفعل هايد مثلما تم إخفاء باركمان بفعل ويبستر، كما أن اختفاء جيكل كان مقترنًا بتأكد لدى المحيطين به من أنه يرجع إلى أن هايد قد قام بقتله، بالضبط مثلما اكتشف الجميع أن ويبستر قد قام بقتل باركمان.
مراقبة الخادم
في الرواية وقبل اكتشاف حقيقة دكتور جيكل ومستر هايد؛ راقب خادم دكتور جيكل المدعو بول سيده، وتابع أصواته، وكذلك خطواته المتوترة التي تروح وتجيء، الصادرة من وراء الباب المغلق للمعمل من أجل اكتشاف الحقيقة، خاصة أن المدة التي أغلق فيها دكتور جيكل باب المعمل على نفسه كانت كبيرة، وكان لديه شك يرتقي لمرتبة اليقين في أن مستر هايد قد قتل دكتور جيكل وأنه اتخذ حجرة المعمل بدلا منه .. نفس الأمر كان يفعله تمامًا خادم كلية الطب المدعو ليتليفيلد الذي كان لديه شك أيضًا يرتقي لمرتبة اليقين في أن دكتور ويبستر قد قتل دكتور باركمان، وكان أيضًا يقوم بالتصنت على ويبستر بعدما انتبه إلى أنه يغلق باب المعمل على نفسه لفترات طويلة بعد اختفاء دكتور باركمان، وكان يراقب خطواته المتوترة التي تروح وتجيء داخل المعمل، ويحاول التقاط الإشارات الغريبة الصادرة من وراء الباب المغلق .. علينا هنا أن نقارن أيضًا بين مشهدين: في الرواية وأثناء اختفاء دكتور جيكل داخل معمله كان من ضمن الدوافع عند الخادم لمراقبة سيده هو أن الخادم رأى دكتور جيكل أسفل سلالم المعمل في هيئة غير معتادة، أي أنه أصبح قصيرًا ونحيلًا وذابلًا، بمعنى آخر كان متحولًا إلى هايد، وحينما رأى الخادم أسرع مذعورًا بالصعود إلى المعمل وأغلق الباب .. في كلية الطب وكما جاء في أقوال خادم الكلية أنه في ليلة اختفاء دكتور باركمان؛ رأى دكتور ويبستر يخرج من الباب الخلفي للكلية، وحينما رآه شعر بالارتباك وأسرع بالهروب من أمامه مثلما فعل دكتور جيكل عند رؤية خادمه.
أداة القتل
كانت جريمة القتل في رواية القضية الغريبة لدكتور جيكل ومستر هايد هي مقتل السير دانفرز كارو على يد مستر هايد بواسطة الضرب بعصا خشبية فوق الرأس، وهي نفس الأداة التي استخدمها دكتور جون ويبستر في قتل دكتور جورج باركمان داخل مختبره بكلية الطب.
مكتشف الجريمة
في الرواية كان الخادم هو من اكتشف عدم وجود دكتور جيكل وحضور مستر هايد وراء باب المختبر المغلق، وهو ما دفعه لاستنتاج أن مستر هايد قد قام بقتل دكتور جيكل، وأخفى جثته في مكان ما، وهو ما جعله أيضًا يسرع إلى المحامي أترسون صديق دكتور جيكل لإبلاغه بالجريمة ثم في النهاية قاما بطلب الشرطة .. كان خادم كلية الطب هو أيضًا من اكتشف الجريمة بعدما لاحظ السلوك الغريب لدكتور ويبستر، وكذلك الشواهد الأخرى التي أثارت ارتيابه، الأمر الذي جعله يشك بقوة في أن دكتور ويبستر هو من قتل دكتور باركمان، وأخفى جثته في مكان ما، وعلى هذا قام بالحفر تحت المختبر، واكتشف بقايا جثة باركمان التي قام دكتور ويبستر بتقطيعها وإحراق بعض من أجزائها ثم أسرع بإبلاغ الشرطة عما وجده.
الوصول إلى الجثة
في الرواية والقضية كانت الجثة وراء حاجز مغلق استدعى معه الأمر القيام بهدم / كسر لباب / حائط، وهو نتيجة منطقية لـ "الاختفاء" السابق في الحالتين، ويأتي ذلك بعد عبور ممر ما، وحمل مصدر إضاءة .. جيكل وراء باب معمله المغلق حيث اضطر الخادم لاستعمال الفأس من أجل كسر الباب حتى يصل إليه بعد اجتياز الممشى بين سلم المعمل والفناء حاملًا شمعدان .. باركمان وراء جدار تحت معمل ويبستر المغلق حيث اضطر خادم كلية الطب لهدم جزء من الجدار حتى يعبر إليه بعد اجتياز قبو حاملًا فانوس .. هنا علينا أيضًا أن نتذكر أن الخادم بول أعطى احتمالًا في حديثه للمحامي أترسون أثناء بحثهما عن جثة دكتور جيكل بأن يكون هايد قد دفنها أسفل الممر الذي يقود للمعمل، ولو رجعنا لقضية كلية الطب لوجدنا أن دكتور ويبستر قد أخفى بقايا جثة دكتور باركمان داخل قبو أسفل المعمل الخاص به.
توظيف الخطابات
سيلاحظ قارئ رواية القضية الغريبة لدكتور جيكل ومستر هايد أن الخطابات تمثل أهمية رئيسية في الرواية، وهنا أتحدث تحديدًا عن الخطابات المرسلة من دكتور جيكل لصديقه المحامي أترسون، والتي تلائم حالة الاختفاء وعدم الرغبة في المواجهة، كما أنها تنقسم بين الوصية والتبرؤ والاعتراف .. في قضية مقتل دكتور باركمان كان هناك وجود للخطابات المرسلة من دكتور ويبستر وهو داخل السجن إلى المحامين والأصدقاء وعائلته .. هذه الخطابات انقسمت بين التحدث عن نشأته وحياته العائلية والأوضاع المالية لأسرته، وأيضًا اعترافه في النهاية بقتل دكتور باركمان .. في الخطابات التي أرسلها دكتور جيكل لصديقه المحامي أترسون حكى له أيضًا عن نشأته وشبابه مستعرضًا حياته بشكل كامل قبل أن يعترف بحقيقة مستر هايد .. من الجدير بالانتباه أيضًا أن هناك رسالة ادّعى جيكل للمحامي أترسون أن هايد قد بعث بها إليه كي يخبره بأنه لن يسبب له القلق بعد ذلك، لأنه هرب إلى خارج المدينة ولن يعود ثانية، ولكن تم اكتشاف بواسطة تشريح خط اليد أن هذا الخطاب مكتوب بيد دكتور جيكل وقصد به حماية هايد، وهذا يقودنا إلى أن هناك خطابات تم إرسالها إلى الشرطة من أشخاص مجهولين يدعون فيها أنهم شاهدوا دكتور باركمان في أماكن مختلفة بما يعني أنه لا يزال حيًا، ثم تم اكتشاف ـ بتشريح خط اليد أيضًا ـ أن هذه الخطابات مكتوبة بخط ويبستر كي يُبعد الشبهة عن نفسه حينما اختفى دكتور باركمان وبدأ الجميع في البحث عنه .. إذن في الحالتين كان هناك استغلال للخطابات في محاولة إنقاذ هايد / ويبستر، وفي الحالتين يتم اكتشاف هذا الاستغلال وبنفس الطريقة.
الفرق التشريحي
كان جيكل رجلًا طويلًا، متين البنية، بينا كان هايد أشبه بالقزم، ولو عدنا إلى ملفات القضية سنجد أن ثمة فرقًا تشريحيًا مشابهًا بين دكتور باركمان ودكتور ويبستر؛ إذ أن باركمان كان أكثر طولًا بكثير من ويبستر، كما أن وصف "بول" خادم دكتور جيكل للفرق بين بنية سيده ومستر هايد تم في إطار استنتاجه لوجود جريمة قتل لم يتأكد منها بعد، كأنما يعطى وصفًا تشريحيًا عن أن الرجل القصير (تخلص من الرجل الطويل وأخفى جثته)، وهذا معادل لما فعله ويبستر تمامًا في دكتور باركمان بعدما قتله وقطّع جثته وأخفاها، هذا بالإضافة إلى أن جميع الشخصيات كانت في مرحلة الخمسينيات من العمر.
استعمال الانتحار والشنق
في نهاية الرواية يتحدث دكتور جيكل في اعترافه المكتوب لصديقه المحامي أترسون عن طريقين محتومين لمصيره: الانتحار أو المشنقة .. في قضية مقتل دكتور باركمان حاول دكتور ويبستر / هايد بعد القبض عليه الانتحار "بنفس الطريقة"، ولكن تم إنقاذه قبل أن ينتهي مصيره إلى المشنقة؛ أي أن روبرت لويس ستيفنسون قد جمع بين النهايتين: التي حدثت بالفعل، والأخرى التي لم تكتمل.
النزوات المشتركة
يجتمع في شخصيتي دكتور جيكل ودكتور ويبستر ممارستهما في مرحلة الشباب لما يمكن تسميته بـ "الطيش الشبابي" وهذا ما ترك لديهما أثرًا بعد ذلك، يتمثل عند جيكل في الرغبة في التحرر من المحظورات بعد سن الخمسين، والخروج عن التقاليد والقوانين بمختلف أشكالها، وعند ويبستر في تصرفات مستهترة وخطيرة، تكشف عن رغبة مماثلة، كالاستخدام المبالغ فيه للألعاب النارية في أحد الاحتفالات الأمر الذي أدى لتوجيه تحذيرات من إدارة الكلية له، وكذلك قتل جرو في واحدة من التجارب أثناء شرح درس ما في محاضرة أمام الطلاب على سبيل المثال.
قي مقابل أن هذا الكشف يحدد أصلا واقعيًا يتضمن جميع عناصر الرواية، بل والكيفية التي كوّنت الأحداث وتصاعدها حتى النهاية؛ لم تخرج الافتراضات السابقة عن الإشارة إلى عنصر واحد يحمل تشابهًا ما مع أحد معطيات الرواية، وهو بهذا من شأنه أن يقدم إفادات عديدة عن الكيفية التي يستلهم بها الكاتب حدثًا واقعيًا لإنتاج عمل خيالي سواء بالنسبة لروبرت لويس ستيفنسون وذاكرته الإبداعية أو بشكل عام، وأيضًا حول الطريقة التي تلقي بها الرؤية الفنية ضوءًا تفسيريًا على جريمة تاريخية، أو استثمارها لتناول موضوع فلسفي أو مسألة وجودية خاصة فيما يتعلق بالتساؤلات الممكنة حول السلطة والعلم والأخلاق والجسد والازدواجية والمجتمع والغرائز.
جريدة "أخبار الأدب" ـ 5 يناير 2020