الأحد، 12 يناير 2020

الطبيبة النفسية الحزينة

في الثامنة مساءً، خارج قاعة (دار الضيافة) بالمنصورة حيث يجتمع أعضاء مختبر السرديات؛ وقفت أمام الطبيبة النفسية التي حضرت خصيصًا من أجلي .. ربما عرفت من فيسبوك أنني سأكون حاضرًا بنسبة كبيرة، لكنها لم تدخل القاعة، وإنما اتصلت بي على الموبايل ـ لا أتذكر حتى الأن أنني أعطيتها رقمي ـ ثم أخبرتني أنها في الخارج، وتريد التحدث معي .. توجهت إليها سريعًا وعلى وجهي ابتسامة تنطق بسعادة عفوية، كأن هذه المفاجأة غير المتوقعة إطلاقًا لا يجب أن تثير في نفسي ذرة قلق .. بدأت هذه الابتسامة في التلاشي تدريجيًا مع اقترابي من الغضب العارم والمتحفز الذي يكسو ملامحها تمامًا .. قبل أن أمد يدي لمصافحتها أو أتفوّه بكلمة مُرحّبة؛ فاجئتني بسؤال ازدرائي ـ لم يتطلب الارتفاع بنبرة صوتها ـ حول فكرتي عن نفسي؟ .. بدا وهي تضغط على كل حرف كأنها تتمنى لو أن عظامي هي التي بين أسنانها، خاصة حينما تكفلت بالإجابة على استفهامها المجازي؛ معتبرة أنني شخص ـ كما قالت بدقة ـ معدوم الأخلاق، وبلا ضمير .. أعقبت هذا المديح غير المنتظر بسؤال حقيقي ينتظر إجابة فعلية عن كيف أسمح لنفسي بالتشهير بها مستخدمًا ـ بحسب وصفها ـ مثل هذا الشكل المبتذل .. لم يكن بمقدوري سوى تصنّع الغفلة فأخبرتها كاذبًا بأنني لا أفهم عن أي شيء تتحدث .. أجابت بتلقائية حازمة بأنني أعرف جيدًا ما الذي تتكلم عنه: "مريض مطيع يتسلى بالكيتش" .. القصة التي كتبتها عنها مثلما تقول .. سألتني مجددًا إذا ما كانت هي "الكيتش" الذي أتسلّى به .. كان صوتها قد بدأ يرتفع قليلًا فطلبت منها أن تخفضه ثم سألتها كأنني أتعمّد إشعال المزيد من النار في جسدي عن سبب اعتقادها بأن القصة عنها .. قالت أنها ستبقي صوتها منخفضًا احترامًا لنفسها فقط، لأنها ـ كما ترى ـ ليست "متبجحة" مثلي، مؤكدة على أنها لن تقتنع أبدًا بأن القصة لا تتعلق بها: طبيبة نفسية .. من المنصورة .. طلّقها زوجها لعدم قدرتها على الإنجاب .. تكتب في مدونتها عن التصوف والروحانيات .. تعاني من الزملاء الحمقى داخل المستشفى القذر الذي تعمل به، ومن المرضى النفسيين الذين تحاول علاجهم .. لا تعرف لماذا اختارها الله لمهنة بائسة كهذه .. في حقيبتها روشتات أطباء النساء والتوليد أو (رغبة الأمومة) التي تشهرها في وجه الصيادلة .. أصدرت كتابًا في الطب النفسي للأطفال، تم استضافتها لمناقشته على قناة ..(otv) تسألني بسخرية مريرة حول إذا كان كل هذا ليس كافيًا لأن تكون القصة عنها؟.
كأنه لم تعد هناك طريقة للتراجع عن استفزازها، والاستمرار في دفع التوتر نحو الحافة؛ قلت لها بأنني ربما أكون قد استعملت بعض التفاصيل التي تخصها، لكنها ليست كل القصة؛ إذ أن ثمة عناصر أخرى لا تتعلق بها، وهو ما يجعل موضوعها عن حياتي أكثر من حياة أي شخص آخر .. أمعن وجهها المتورد في التقطيب وتصاعدت الحدة في صوتها وهي تقول لي بأنه لا توجد تفاصيل أخرى، ولا داعي لمحاولة اللعب بالكلمات .. أخبرتني ـ حيث شعرت باقتراب الحافة أكثر ـ بأنني تعمّدت أن أعرّف القرّاء بأنها المقصودة تحديدًا في القصة .. لماذا؟ .. لأن الكاتب المحترم ـ وفقًا لتفسيرها المتهكم ـ أراد أن ينتقم من المرأة التي قطعت علاقتها به ـ كما اعترف هو نفسه في قصته الدنيئة ـ حتى أنه عندما كتب في نهايتها بأن كل ما جاء فيها كان كذبًا؛ فإنه كان يسعى لتثبيته وتأكيد صحته لدى قارئها.
كنوع من مسايرة الغرق أكثر من مقاومته سألتها إذا كانت تتصوّر أن كل من سيقرأ القصة سيعتقد ذلك؛ فردت على الفور بأنها لا تتصوّر، وإنما تمتلك يقينًا كاملًا .. عاودت التساؤل بسخرية حول الذي ينقص ما كتبته، قبل أن تجيب بنفسها ـ كالمعتاد ـ بأنه ليس هناك سوى أن أذكر اسمها صراحة مقترنًا بصورتها .. كأنها تختتم ميلودراما مرتجلة قالت بأن إحساسها كان محقًا حينما أجبرها على الابتعاد عني ـ مثلما كتبت في القصة ـ وأنه من الجيد بالفعل أنني أعرف نفسي، وأعلم أن ما قمت به لا يمكن تسميته سوى بالانتقام الرخيص كما وصفت في قصتي أيضًا .. أخبرتني بأنها نادمة للغاية لأنها فتحت قلبها لي ذات يوم، وحكت عن أشياء لم تبح بها لأحد آخر طوال عمرها.
لا أظن أنها كانت تصدّق أنني جاد حقًا بينما أقول لها أن بوسعها كتابة قصة تتضمن كل ما تود أن تخبر به الآخرين عني، أي أن تستخدم الأسلوب ذاته في شفي غليلها .. انتبهت حينئذ إلى أن الابتسامة المتلاشية كانت قد عادت إلى ملامحي بمجرد معرفتي بالدافع وراء حضورها، وأن هذه الابتسامة كانت طوال الوقت أشبه بقناع مرتعش، تحوّل إلى وجه حقيقي وأنا أنطق بتلك الكلمات التي بدا في نظرتها المحتقنة لي كأنما رأتها نوعًا من الاستهانة المتنكرة، أو محاولة هازئة لإنهاء الورطة ـ بالضبط مثلما يجرّب البالغون إسكات الأطفال بإرضاء مخادع ـ ليس نتيجة الشعور بالذنب، وإنما بسبب الملل .. قالت أنها ليست حقيرة مثلي حتى تفعل ذلك، بل إنسانة محترمة، عندها ضمير، ولا تقابل الإساءة بمثلها، وأنها فقط أرادت أن تخبرني بأنني مهما كتبت من قصص، ومهما كتب الآخرون كلمات الإعجاب عنها؛ فإن هذا لن يغيّر شيئًا من حقيقتي كإنسان شهواني، ليس لديه مبدأ، ولا يراعي أي قيمة.
كانت خلال هذا الزمن القصير للقاء المباغت ـ بالرغم من كل شيء، وربما كأثر له ـ أجمل من أي وقت مضى .. أجمل مما كانت حينما كنا نتحدث دون ضغينة .. أجمل مما كانت حينما كنت أفكر فيها، وأتملّى صورها، وأتخيلها في مشاهد وحكايات منقذة ـ تدور جميعها في الشتاء ـ دون أن أكشفها لها .. أجمل مما كانت حينما كان اليأس يبلغ ذروته من حصولي عليها .. كانت خلال هذا الزمن أقرب ما تكون إلى تلك المرأة التي في القصة بحق .. لذا كنت أشعر أيضًا بأنني لست نادمًا على كتابتها أكثر من أي وقت مضى .. هل الطبيبات النفسيات يصبحن أجمل دائمًا عندما يكن حزينات أو خائبات الأمل إلى هذه الدرجة؟.
انصرفت من أمامي بخطوات عصبية معهودة، كأن ذاكرتي تجسّد الإيقاع السريع الناقم والمقبض لأقدام أمي وأختي وزوجتي بقدمي امرأة أخرى .. ظللت واقفًا، أراقب ابتعادها، متمعنًا في مؤخرتها الرائعة، التي بدت في هذه اللحظة ككائن آخر، يلوّح لي سرًا بالصعود والهبوط المتلاحق لجانبيه الممتلئين بإحكام كوداع متحسّر.
سمعت أحد أعضاء مختبر السرديات يناديني عبر الممر المؤدي إلى القاعة كي أنضم لهم في الصورة الجماعية .. تحركت إلى الداخل ثانيةّ نسختي المضللة؛ التي تصافح وتتحدث وتضحك وتبتسم في الصور بين أولئك الذين لن يساورهم الشك على الإطلاق في كوني موجودًا حقًا.
أنطولوجيا السرد العربي ـ 10 يناير 2020
من المتوالية القصصية "البصق في البئر" ـ قيد الكتابة.
الصورة لـ  jean noel duru