تسعة شهور مرت منذ نشرت آخر مقال في “سيرة الاختباء”.. لكن هذا لا يعني أنني توقفت عن كتابتها خلال هذه الفترة.. ككل كتابة أخرى؛ كنت أكتب “سيرة الاختباء” طوال الوقت، ولكن ـ مثلما يمكن أن تكون عليه أي كتابة أخرى أيضًا ـ لم يكن هناك الوقت الملائم لفعل ذلك بشكل متعيّن.
هذا “بعض” مما حدث خلال هذه الشهور، وبالترتيب الزمني:
ـ نُشرت قصتي القصيرة “الموت العجيب لطائر” في موسوعة القصة العربية المعاصرة باللغة الإسبانية، والصادرة عن دار مؤسسة أبجد.
ـ نُشرت محاضرة لي عن كتابي “نقد استجابة القارئ العربي / مقدمة في جينالوجيا التأويل” في قناة “فسحة تفكير” على يوتيوب تلبية لدعوة صاحبها الباحث المغربي د. يوسف هريمة.
ـ حصلت على جائزة مؤسسة ناجي نعمان الأدبية بلبنان تكريمًا عن الأعمال الكاملة.
ـ فاز فيلم “مكان في الزمن” للمخرج نواف الجناحي عن قصتي القصيرة “الذي يستحق” بجائزة لجنة التحكيم في مهرجان الداخلية السينمائي الدولي بسلطنة عمان.
ـ ناقش موقع “صدى / ذاكرة القصة المصرية” قصتي القصيرة “بين السابعة والتاسعة مساءً” في إحدى أمسيات “قصة أونلاين”.
ـ عدت لكتابة قراءة نقدية شهرية بجريدة “أخبار الأدب”.
ـ أقمت ورشة للقصة القصيرة بقصر ثقافة الطفل في المنصورة.
ـ نشر الكاتب والصحفي شريف الشافعي مقالًا عن ترجمتي لمختارات الشاعرة الأمريكية “لوسيل كليفتون” في “اندبندنت عربية”.
ـ أعادت مؤسسة “أدب” نشر ترجمتي كاملة لمختارات الشاعرة الأمريكية “لوسيل كليفتون”.
ـ نشر الناقد الكبير الأستاذ شوقي عبد الحميد دراسة نقدية عن مجموعتي القصصية “مكان جيد لسلحفاة محنطة” بموقع “الكتابة” الثقافي.
ـ نُشرت مجموعة من نصوصي في كتاب “أوكسجين” الأول، والصادر عن “محترف أوكسجين للنشر” في بودابست.
ـ أعادت مجلة “الكلمة” نشر قصتي القصيرة “Facebook” من مجموعة “مكان جيد لسلحفاة محنطة”.
ـ نُشرت قصتي القصيرة “اللعب بالفقاعات” من مجموعة “مكان جيد لسلحفاة محنطة” / القائمة القصيرة لجائزة ساويرس 2013 في كتاب “أصوات معاصرة” لطلاب المستوى المتقدم عن مطبعة جامعة جورج تاون الأمريكية.
إنها لحظة مناسبة لإعادة التذكير بما يعرفه الجميع: أسكن في مدينة “إقليمية”.. لا أغادر بيتي إلا على فترات متباعدة.. منفصل تمامًا عن أي “حراك” أدبي أو فني أو ثقافي بالمدينة (ندوات ـ مناقشات ـ مهرجانات ـ مؤتمرات ـ أمسيات ـ حفلات ـ لقاءات) مكتفيًا كل أعوام عدة بورشتي الإبداعية فحسب.. لا أسافر إلى “العاصمة” إلا كل بضعة سنوات ولمدة نصف يوم على الأكثر في كل مرة، لا أقابل خلاله أحدًا من “الوسط الأدبي”، ولا أجلس حتى على أي من “مقاهي المثقفين”.. لا أرتبط بأي صداقة قوية أو علاقة وطيدة داخل “الحياة الأدبية” سواء في الواقع أو عبر منصات التواصل الاجتماعي.. لا أخوض معارك ترويجية، ولا أشترك حتى في مجرد نقاشات دعائية على السوشيال ميديا.. لا أخاطب أحدًا للنشر في صحيفة أو مجلة أو موقع، أو لإصدار كتاب لي مع دار نشر.. لا أكتب تحديدًا سوى في موقع “الكتابة”، وجريدة “أخبار الأدب” ومنصة “أراجيك” وبالطبع مدونتي الشخصية فقط منذ سنوات طويلة.. لا أنتهز الفرص التي تُستغل جماعيًا على نحو تلقائي، ولا أستجيب للدعوات المبطنة أو الإغراءات المباشرة التي تضمن وتستثمر الشهرة أو تسليط الضوء أو على الأقل الاهتمام ولفت النظر.. لا أتوارى داخل شخصية هجومية ساخرة بشكل بليد وأجوف، تفتعل العداوات المجانية، وتلهث بالوصاية التحقيرية تجاه كاتب أو ناقد أو قارئ أو نص لكي أختلس مكانة “مرموقة” في “المجتمع الثقافي”.. عدا كتابين مع مؤسسة “أبجد” العراقية ومنذ سنوات طويلة أيضًا؛ أنشر كتبي بنفسي إلكترونيًا، بأغلفة رديئة وتنسيق سيء ـ وفقًا للمعايير التقليدية ـ حتى لا يفكر أي ناشر أن يضع “راسه براسي”.. لا أثرثر على فيسبوك عن أي شيء في أي اتجاه بشعبوية قيمية وعاطفية لزجة وبائسة لكي أروّج لكتاباتي ضمنيًا لدى “قطعان المدجنين” دون أن أنسى انتقاد “الشعبوية” نفسها حفاظًا على الرونق.. لست واحدًا من أبناء “المحروسة” الذين يعرف كل منهم أي دار نشر ستصدر كتابه، وأسماء من سيكتبون عنه، والجائزة التي سيحصل عليها من قبل أن تتكوّن لديه فكرته.
قصة واحدة من مجموعة “مكان جيد لسلحفاة محنطة” باختيارها في كتاب “تعليمي” لطلاب اللغة العربية بجامعة أمريكية حصلت على ما لم تحققه مجموعات قصصية منحتها دور النشر التي أصدرتها جائزة ساويرس.. “مكان جيد لسلحفاة محنطة” كانت من ضمن الأعمال الكاملة التي حصلتُ على جائزة مؤسسة ناجي نعمان الأدبية بلبنان تكريمًا عنها.. الجائزة التي لم أسع إليها وتشرفت بها.
إنها لحظة مناسبة لإعادة التذكير بما كتبته سابقًا في “سيرة الاختباء”:
“لكن في المقابل فإنني أستحق بصورة جوهرية ما يليق بي فعلًا، أي ما كنت، وما زلت عليه حتى الآن.. أن أكون وحدي، مستقلًا بفرديتي الطائشة، خارج المتن، منفصلًا عن سلطة المركز، مجرّدًا من أفضال “الصداقة”، مغتنمًا المكاسب الأنقى.. لأنني أكثر الجديرين بأن أكون لاعبًا بـ “التاريخ الأدبي”، لا قطعة من ألعابه”.
“يسهل عليّ مجرد التذكير بما يتداول عني أيضًا ـ ومن أبناء المركز أنفسهم ـ بأن ما حصلت عليه أقل بكثير مما أنا جدير به، ويحظى به من يتميزون فقط بالاستقرار في المكان (المناسب)”.
كل ما في الأمر أنني لا أتوقف عن النشر فحسب.. لا شيء ابن عاهرة يحدث في عالم “الزومبي” الأدبي يمكنه أن يمنعني من الاستمرار.. ونتيجة لهذا فإن “الغنائم تأتيني بإرادتها، دون امتلاك سلطة” كما كتبت من قبل.. أحصل على “شيء” مما أستحقه وسط “الضجيج الاحتيالي” دون أن أطلبه.
إنني لا أسمّي ما صرت إليه خلال السنوات الست الماضية اكتمالًا لانقطاع تدريجي عن “الحياة الثقافية” بدأ منذ خطوتي الأولى داخلها؛ فما كنت عليه حتى عام 2017 لم يكن حضورًا فعليًا مقارنة بـ “المقيمين”، وإنما كان اختبارًا “كتابيًا” مؤقتًا لهذه الحياة.. لعبًا جماليًا وفلسفيًا بـ “الاختباء”:
“منذ المرة الأولى التي حضرت فيها “ندوة”، والتقيت بـ “أدباء” كي “أقرأ محاولاتي القصصية” أمامهم وأنا مازلت طالبًا في المرحلة الإعدادية، وحتى التوقف بعد ما يقرب من ثلاثين سنة عن حضور الندوات، والامتناع عن عقد مناقشات أو حفلات توقيع لأعمالي، والاتجاه منذ فترة لنشر كتبي إلكترونيًا عدا الاستثناءات المحتومة.. الاختباء الذي طالما أثبته كل “ظهور”، ولم يفارقه مطلقًا الوعي بأنه بديل عدائي لما هو أكثر استحالة أي “الاختفاء”.. أن تكافح من أجل الاختباء بكل ما يضمره من تمنّع ومشقة وخسائر؛ فهذا يعني أنك تستوعب جيدًا عدم القدرة على بلوغ الغاية الأصلية؛ أي أن تختفي تمامًا”.
هذا ما كتبته في المقال الأول من “سيرة الاختباء”، وهو ما يعني بالضرورة أن ما كان يبدو في الماضي تواجدًا لي في “حراك المدينة” أو “الأماكن الأدبية” أو “صداقات الكتّاب”، أو ما كان يبدو تواصلًا مع الآخرين من أجل النشر؛ فضلًا عن الشحوب البالغ لذلك “التواجد” أو “التواصل”؛ فإن ما يبدو هكذا كان في حقيقته الحد الأدنى من الامتثال القهري ـ بالعودة أيضًا إلى مقال سابق في “سيرة الاختباء” ـ لما تصفه هذه السطور:
“أتحدث عن المسافة الفاصلة بين النص / الكتاب، والقارئ. الطريق الذي يتحتم أن تقطعه تلك الكتابة التي “تزحزح العالم”.. التي لن ترسم “الفوضى” فقط ملامح ما سيتعيّن عليها مجابهته.. الاهتمام الذي ستُجبر عليه إذا أردت لما كتبته أن يعبر بطريقة عادية مما تعتبره مخبأً طفوليًا إلى حيث يتواجد “الناس”.. الطريق الممتلئ بالمحررين والناشرين؛ إذ أن الكتابة في حد ذاتها لن تمثّل إلا جانبًا من صفقة تتداخل فيها كل العوامل “غير النصّية” التي لا يصدّق البعض مدى تأثيرها، أو مجرد وجودها في تلك المسافة الفاصلة.. لا يتعلق الأمر بلجلجتك التي سيسمعها الآخر عبر الهاتف، أو بارتباكك الذي سيبدو عاريًا تمامًا حينما يلتقيك وحسب، بل كذلك بالحد الأدنى من هذه الضرورة، وهي اضطرارك إلى تمرير كتابتك إلى ممثلين لفضاء “ثقافي” لا تعتبر نفسك واحدًا من أبنائه.. إلى وكلاء نموذجيين لـ “وضع أدبي” معاصر أنجبتهم مراكمة تاريخية لطالما كانت محل سخريتك.. هذا ما يجعل امتنانك لكل ما هو استثنائي، منفلت من هذه الطبيعة المتجذرة، يندرج في نطاق الاضطراب الشخصي، غير المفهوم، الذي تصافح به الجميع حينما تتحرك خطوات نادرة خارج مخبأك”.
هذا ما يعني بالضرورة أيضًا أن ما حصلت عليه خلال ذلك الماضي لم يكن ناجمًا عن ما يبدو “تواجدًا” أو “تواصلًا”، وإنما على النقيض كان ناجمًا عن “اختبائي”، وهو ما تناولته في قصتي القصيرة “بطوط”:
“لاشك أن التأثير الناجح لهذا الانقطاع عن الآخرين كان سببًا جوهريًا لهذه السعادة؛ فقد تزايد الاهتمام والاحتفاء بكتاباتي، وانتشرت الاقتباسات من نصوصي في كل مكان، كما كثرت الكتابة عن أعمالي، وإعادة نشرها، فضلًا عن التدفق الذي لا ينقطع لمخطوطات وإصدارات الآخرين إلى بريدي، والآملين في مراجعتي لها وتقديم النصائح، والكتابة عنها، وكذلك الدعوات المتواصلة لمناقشة الأعمال الأدبية في ندوات ومؤتمرات، ولتدوين وإلقاء الشهادات عن الكتابة، وللمساهمة في ملفات بالصحف والمجلات والمواقع، أو لكتابة مقالات ثابتة في مطبوعات ثقافية، أو للحوارات الصحفية والمقابلات الإذاعية والتليفزيونية، إلى جانب ترجمة كتاباتي، وتحويل قصصي إلى أفلام قصيرة، وحصولي على جوائز، مع العروض التي تقدمها دور النشر لإصدار كتبي.. أما حالة الهوس العام التي بدأت منذ سنوات طويلة على الإنترنت بهذا المقطع من قصيدة “عنكبوت مسكين يقيس زاوية الحائط”.
لا تخف
ليس معنى الوقوف في النافذة
أنك ستسقط
ليس معنى السعال
أنك مصاب بالسرطان
ليس معنى ضيق التنفس
أن قلبك به شريان مسدود
الحياة فقط هي التي معناها
أنك ستموت.
هذا الهوس العام مازال في تصاعد مستمر على مواقع التواصل الاجتماعي والمدونات والمنتديات والمواقع الأخرى، والذي جعل هذه الكلمات من أكثر الاقتباسات تداولاً على الإنترنت، إن لم تكن الأكثر شهرة. جموع بشرية هائلة تتزايد عبر الزمن في كل مكان بأعمار وجنسيات مختلفة يواصلون نشر هذا المقطع، ويضيفون إليه الصور واللوحات، ويستخدمونه كتوقيع يُعبّر عن وجودهم في العالم”.
كتب ج. د. سالينجر “الحارس في حقل الشوفان” في مرحلة تاريخية وبين عوامل “ثقافية” عامة أتاحت لروايته أن تحقق هذا النجاح الجماهيري على مستوى العالم.. في فيلمRebel in the Rye للمخرج الأمريكي داني سترونغ والمقتبس من كتاب J. D. Salinger: A Life لكينيث سلاوينسكي؛ سأل وايت بورنيت أستاذ الكتابة الإبداعية ومؤسس مجلة “ستوري” سالينجر إذا كان على استعداد لتكريس حياته لكتابة القصص مع معرفة أنه لن يجني شيئًا في المقابل.. أجابه سالينجر بعد أعوام، وبعد نشر الرواية التي أصبحت إعلاميًا من “أهم الروايات في القرن العشرين” بأنه ينوي أن يفعل ذلك لبقية حياته.. لكن الاستفهام الحقيقي بالنسبة لي: هل كان يمكنك أن تواصل الكتابة منعزلًا قبل نشر “الحارس في حقل الشوفان” وقبل أن تعيش كل ما حازته من احتفاء؟.. إن سالينجر الذي كان يمكن أن يغلق الأبواب على نفسه قبل نشر الرواية ليس هو سالينجر الذي اعتزل العالم بعد نشر الرواية.. الأبواب أصبحت مختلفة.. العزلة مختلفة.. الجميع يتذكر دائمًا سالينجر باعتباره كاتب رواية أسطورية تحوّل إلى زاهد أسطوري.. لكن من يفكر في ما يقع خارج الرواية وجعلها تحتل هذه المنزلة في “التاريخ الأدبي”؟.. من يفكر في توقيت اتخاذ سالينجر لقرار الابتعاد عن الناس والتوقف عن النشر؟
إن سالينجر ـ ببساطة ـ كان يريد أولًا أن يتحسس بصمته في “الخارج” قبل أن يبقى في “الداخل” حتى نهاية عمره.. لم يكن للحظة أن تسبق الأخرى.. يتعلق الأمر بالغضب الذي سيقوده إلى تلك العزلة وكان عليه أن يمر أولًا بـ “حقل الشوفان”.. يتعلق الأمر بما كان “مضطرًا” إليه ولم يكن هناك سبيل لتجنبه أو التفاوض معه حتى يخلق “اختباءه”.. أيقن سالينجر أن رواية واحدة حققت “انتقامه” من كل سلطة اعتبرها جديرة بتقويضه الساخر.. لكن على جانب آخر ثمة من يعيش في “مرحلة تاريخية” أخرى، وعوامل “ثقافية” مغايرة لتلك التي خرجت من بينها “الحارس في حقل الشوفان”، وهو ما يقتضي أن يواصل الغضب حفر بصماته في “الخارج” مهما كان مدى بقائه في “الداخل”.. الغضب الذي تنطوي مشاهده الانتقامية على تفكيك ما يمكن أن تعنيه “البصمة”، “الداخل” و”الخارج”.. على تفكيك “الاختباء” نفسه.
موقع "الكتابة" ـ 13 مارس 2023