كوجه محنّط في العتمة، لا يكشفه سوى عينين تتلفتان داخل عمائها ..
مجرد شخبطة طفولية، رُسمت خطوطها الباهتة بضمير هازئ؛ هي فقط كل ما تتطلبه إضاءة
هذا التعريف المنكمش لكينونة على وشك الاختفاء ثانية، أو أن ظهورها المؤقت لم يكن
إلا جزءًا من غيابها الخارق .. تتشكل الحروف بما يشبه اللامبالاة الكاريكاتورية،
كأنها بلاغة بصرية مضادة لا تُستعمل لقراءة الكلمة، وإنما لملامسة التوحد الأزلي
بشبحيتها .. تنقسم Doodlebug إلى
شطرين يجسّدان اختزالًا منطقيًا للملامح في هذه اللحظة: Doodle / شخبطة تحدد أعلى الوجه، حيث
تأخذ العينان المتلفتتان محل حرفي الـ O ، وأسفلها bug / حشرة لتكوّن موضع الفم .. إذن الكلمة ورسمها
يؤكّد كل منهما الآخر .. حقيقة مستقلة، تثبت نفسها ذاتيًا دون حاجة لاستناد إلى
علة خارجها .. ملامح يتخيلها المحو لحشرة تكتم صراخها .. هكذا نتعرّف على سر تحنيط
الوجه في العتمة .. لكن ما هي العتمة؟ .. إنها ليست بيتًا يقبع الجسد المتصلّب
برجفة الهلع داخله ـ قام بدوره الممثل جيرمي ثيوبالد ـ كما سيبدو أنها تعلن عن
مكوناتها الظاهرية .. الأشياء الجديرة بتعبئة الفراغ المقبض حول المسوخ الشبقة في
لوحات جان روستن .. ليست مكانًا يقع خارج هذا البدن المرتعش بالخوف والترقب بل
تكمن تحت جلده حيث يتأصّل العماء وراء العينين .. ظلال عتمة الباطن هي ما يحاصر
الجسد: فردة الحذاء في اليد كسلاح متأهب في رحلة المطاردة لكائن ضئيل، مبهم ومراوغ
داخل الفضاء الباهت، المختنق، كزنزانة صغيرة لم تتبدّل تفاصيلها منذ أن شُيّدت في
بداية العالم .. رداء كالح، ممزق ومتسخ كآثار لمعركة طويلة، منهِكة، لم يزل يخوضها
سوى فرد واحد، مغلق عليه بإحكام .. دقات الساعة المتلاحقة كمزحة زمن لم يبدأ من
الأساس، ولكنه رسّخ يقينًا زائفًا بقرب انتهائه كمهلة خائنة .. الآخر، الذي يدّعي
أنه ليس أنت، فكرة الحياة والموت مجسّدة في صوت بشري عبر الهاتف، لا تجيبه كأنها
بالتأكيد ليست المرة الأولى، كأنك تعرفه تمامًا، وتتوقع بالضرورة ما الذي سيقوله،
الصوت أيضًا يدعم ذلك بخطاب أقرب إلى الرسالة الآلية المسجلة، تقرير إخباري، تحذير
ما زال يُعيد نفسه؛ إذ لا يكفي إغراق سماعة الهاتف في ماء الدورق لتعطيل الإيمان
الذي يختبئ العدم داخل كلماته المترصّدة .. ضربات متعاقبة، تخطئ في سحق
"الحشرة" المستمرة في الهروب، تقترن باحتضان الحيلة المنعدمة لفردة
الحذاء في الصدر، كأنما يتم تحفيز المواساة نحو جميع الخطوات الخاسرة لماضٍ يجب
تصفيته، والتعلّق اليائس بإمكانية اجتيازها لخيبة الأمل المعاندة .. محاولة دهس
النسخة الضئيلة بقدمين حافيتين للجسد الممسوس تتخذ شكل الرقصة البدائية بينما
يواصل ممارسة الطقس الأقدم في التاريخ على الإطلاق، مكافحًا في الوقت نفسه
لاسترداد طبيعة ما قبل الخبرة، أي حينما كان هناك احتمال لحماية الغفلة، أو
لاكتساب الألوهة، أو لفهم اللعنة على الأقل .. الصورة التي يتم ملاحقتها، المتمثلة
للجسد الأكبر وهي تقوم بالأمر ذاته "الرقصة البدائية" كقردٍ يؤدي صلاة
عفوية للخلاص، كأنما تنعكس هذه الصورة في مرآة تصغيرية، بينما تجاهد لاستدعاء
الأصل الغامض كبداية متطهرة، يمكنها أن تخلق نفسها على نحو متكرر .. مطاردة النسخة
الضئيلة لنسختها الأكثر ضآلة أثناء ملاحقة النسخة الأكبر لها، كأنما "جريجور
سامسا" بطل رواية "المسخ" لفرانز كافكا يطارد تمثلاته المتفاوتة،
وصولًا للحظة السحق المتوالي حيث النسخة الضئيلة تضرب الأكثر ضآلة بفردة الحذاء،
قبل أن تتلقى هي الأخرى ضربة منتشية مماثلة من الجسد الذي تصوّر نسخته الأصغر،
والتي يعقبها ظهور وجه هائل يحمل الابتسامة ذاتها للنسخة الأضخم من هذا الجسد
ممسكة بفردة حذاء عملاقة كي تسحقه بها.
بما أن ظلال عتمة الباطن هي ما يحاصر الجسد؛ فإن تناسخات جريجور سامسا
غير منفصلة بل متماهية، دائمة التبدّل، أي تتغيّر مستويات التفاوت بين أشكال
انمساخها وفقًا لما تظنه الذات عن وجودها، عن تدرّجات القوة والضعف، أو المعايير
المجسّمة للضآلة، وما تعنيه المقاومة ومجابهة الاضمحلال في لحظة معينة .. لم تكن المراوغة
هروبًا للصورة الضئيلة من صورتها الأكبر، وإنما فقط ملاحقة للأكثر ضآلة .. الصورة
المنطوية على جوهر الأخرى "الأضخم" التي تطاردها .. لا يقتصر الجوهر على
ما اكتمل حدوثه، وإنما يشتمل على التهديد بالتضاؤل، بمصير ينبغي إزاحته قبل أن
يطغى كواقع .. لكن جريجور سامسا في توهمه انتصارًا على ضآلته، يوطد خضوعه البديهي لنسخة
أخرى أكبر له .. نسخة كانت تلاحقه أيضًا لتفسد هذا الانتصار باعتباره أكثر
انمساخًا منها، وبالتالي تمتلك الدافع لسحقه .. هكذا يظل جريجور سامسا عالقًا في
هويته المتفاقمة كحشرة، دون حد نهائي يتوقف حين يصل إليه عن أن يكون ضئيلًا مقارنة
بنموذج ذاتي آخر يسعى للتخلّص منه .. سيقودنا امتداد المسيرة الحتمية للسحق كلما
تعملقت النسخة أو تضاءلت إلى العدم الذي يحلم بجريجور سامسا .. العتمة التي لم
يدهسها أي حذاء بوصفها المادة الخام للسحق، أو العماء المتأصّل وراء العيون التي
تتلفت حولها .. تتحرك تناسخات جريجور سامسا كمدركات غائمة، احتمالات تمر في الوعي
كتأكيدات مؤقتة، كتفسيرات عابرة للإرادة .. لهذا تبدو حياة جريجور سامسا، كما
يختصرها الفيلم كابوسًا لا ينقطع من التوهمات المتزامنة، من السحق المتبادل، حيث
النسخة الأصغر تدهس هي الأخرى نسختها الأكبر بما أن وجودها الأكثر ضآلة يضمن حضور
النسخة الأضخم من تلك التي تفوقها حجمًا أو "قوة".
الانمساخ هنا والآن مثل الموت حيث لا يمكن أن ينوب أحد عن الآخر أو
يحمله عنه بتذكير مارتن هيدجر .. الانمساخ هو الموت؛ انمساخ الوجود ليس إلا هذا
الجسد المتناثر في شحوب الأسود والأبيض والرمادي كمفترق كاشف لنسيج كوني لم يُخدش
مطلقًا منذ امتداده كغطاء للجحيم .. تتحرك الكاميرا كما لو أنها تحدد مواضع التورّط
المتغيرة للمتفرج لحظة بعد أخرى: المُطارِد .. النسخة التي يتم ملاحقتها .. النسخة
الأكبر المخفية التي تتبّع المُطارِد .. هذا لا يثبت التماهي فحسب، بل يجعل
المتفرج كذلك منتجًا للحركة، وليس متلقيًا لها، وبالتالي تتنوع أدوار العناصر
الساكنة وفقًا للأثر الجسدي لهذا المتفرج، أي البصمة التخييلية للصراع بين عمائه
وأشباحها .. مع هذه التبدلات تتغير مساحات الخفوت والسطوع عبر المشاهد، ودرجات
حدتها، كأنما الإضاءة تكتشف الأشلاء التي تكوّن الجسد وتشرّحها من زوايا متباينة،
لكنها لا تتخلّى عن البهتان في جميع الأحوال؛ إذ أن هذا الجسد لا يتسم بيقين "المرئي"،
وإنما يُتصوّر وجوده كـ "شخبطة" يمررها الغياب .. يتلازم "الصمت
الشخصي" الدائم لجريجور سامسا، الذي يقدّم الامتناع عن الرد على المكالمة
التليفونية إقرارًا دامغًا به؛ يتلازم مع موسيقى لا تتوقف عن ترسيخ "عدم
النطق" ـ قام بتأليفها ديفيد جوليان ـ باعتبار أن ثمة أمرًا غير عادي على وشك
الحدوث، ومع ذلك يتكرر باستمرار .. كأن الموسيقى هي التي تغلق الفم، أي تمنع
الكلمات من الخروج ـ لنسترجع الآن الكيفية التي كُتب بها اسم الفيلم في البداية ـ
حيث لا يجب أن تتحوّل الصرخة المكتومة إلى لغة .. هذا ما يجعل النسخة الضئيلة في
وعي الجسد الذي يطاردها مُصاغة من الكلمات .. اللغة سر انمساخها، ولذا ينبغي أن
تُسحق ـ كالخطاب المنبعث عبر سماعة الهاتف قبل "إغراق كلماته" في ماء
الدورق ـ حتى يتمكن الخيال من الاستحواذ على الحقيقة، التي هي كل ما لا نعرفه، كما
يشير جاك لاكان، وحتى يتجرّد جريجور سامسا من الخطأ مع كل فهم تحت سلطة العلامات بما
أن الكلمات ـ وفقًا للاكان أيضًا ـ هي موت الأشياء .. المطاردة إذن كأنها محاولة
للعثور على الأشياء خياليًا خارج موتها اللغوي .. كأن اللاوعي يكشف مسرح حروبه
الأبدية من خلال هذا الحلم، وبالضرورة يفسّر الأحلام كلها، وبهذا تكون تلك
المجابهة مع "الرمزية" هي التي ترسم حركة التبدّل الدائمة بين التناسخات
مثلما تؤشر لدقات الوقت السريعة بوصفها خطوات طائشة ومحمومة لقلب جريجور سامسا
المتوقف من قبل أن يعتقد بوجود موعد ما.
موقع "الكتابة" ـ 10 أكتوبر 2019