رأيناها أمامنا فجأة عند عتبة الحجرة .. مغمضة العينين، كأنها لازالت
نائمة .. لم يكن الظلام الذي خرجت منه هو نفس الظلام الذي تركناها بداخله منذ
ساعتين بعد مغادرة طبيب الباطنة .. كان ظلام ثلاثة وستين عاماً .. صدرها يعلو
ويهبط بتلاحق ثقيل، كأن التنفس أصبح محاولات عسيرة لانتشال حطام غارقة .. زرقة
خفيفة تطفو فوق شحوب وجهها، لا تكشف عن المدى المرعب الذي وصل إليه المرض بقدر ما
تعلن أن وليمة صغيرة تُطهى منذ زمن طويل صارت ناضجة الآن .. كانت تستند إلى الباب
.. فارق ذبول تجاعيدها فزع الأيام الماضية من الموت .. لم نعرف هل كان ذلك
استسلاماً، أم أن الإفصاح عن الفزع يتطلب قدرة لم تعد تملكها .. لكننا رأينا الموت
بالفعل .. لم يكن منبعثاً من ارتجاف جسدها .. كان متدفقاً من لحظة قديمة لم نعشها
.. تحوّلت مع تراكم السنوات إلى توقع ينمو دون أن يراه أحد .. بلغ الآن حتميته
القصوى أمام خيال جماعي يبلل ملابسه .. كان يجب على الطيران إلى المستشفى أن يُبعدها
عن حافة الغيبوبة .. لكنها بقيت هناك عدة أيام .. عند الحافة .. كأنها تحترم قيمة
الوداع أكثر من اللازم .. حينما نامت بعمق فوق سرير العناية المركزة كنت أقف وراء
الشباك الزجاجي متوسلاً عفو لا أفهمه .. شاهدتها تفرك قدميها تحت الملاءة البيضاء
.. المشهد الذي ظللت أراه في بيتنا طوال عمري .. كأنها ليست مريضة .. كأنها تأخذ قيلولة
بعد الغذاء اليومية، وستستيقظ بعد قليل لتعد الشاي، وتجلس في البلكونة حتى حضور
المساء .. كأن هذا هو السرير الذي نامت فوقه كل حياتها .. لكنها تركت حافة الغيبوية
لتخطو بداخلها إلى الأبد.
لم تترك مرآة في البيت إلا واحتفلت أمامها بأول مريلة سترتديها ..
تبتسم بسعادة لا تصدقها ثم تسأل أمها: هل ستتركها غداً في الحضانة وحدها؟ .. تعيد
أمها طمأنتها بالتأكيد على أنها ستكون قريبة منها للغاية، لأن الحضانة ملاصقة
للبيت، وأن بقية الأطفال ستتركهم أمهاتهم أيضاً، وأن المعلمة ستهتم بها، وستلعب وستغني
معها خلال المدة القصيرة جداً التي ستتركها هناك .. تأخذ جولة جديدة أمام المرايا
.. تستمتع بجمال المريلة، ثم تراجع ثانية محتويات حقيبتها الصغيرة التي ستعلقها
فوق ظهرها: الكراسة والكتاب والقلم والأستيكة والبراية .. مكونات الفرح التي سينضم
إليها كيس الساندوتشات في الصباح .. تتحسس الزمزمية، وتبتسم للقطط والعصافير
الملونة التي تُزينها .. تسأل أمها مجدداً: هل ستتركها غداً في الحضانة وحدها؟.
بعد قليل ذهبت إلى سريرها .. وقفت عند عتبة الحجرة أتامل نومها ..
رأيتها ـ بالطبع ـ تفرك قدميها تحت الملاءة البيضاء.
جريدة (القاهرة)
16 أغسطس 2016