تقول لورا كارلسون بطلة رواية "الصائد صفر" لباسكال روز: (لا
تريدني أن أنسي. كانت ترغب أن أتذكر. كانت تريدني أن أعاني أمامها. وأنا إن كنت
أجيد المعاناة فلم أكن أجيد الكلام).
إن ما يخلق الاختلاف بين هذا التعريف الشخصي والتوصيفات الأخري المشابهة للذات داخل هذه الرواية الصادرة عن سلسلة الجوائز بالهيئة العامة للكتاب، أو حتي تلك التعريفات المماثلة التي يمكن أن تتكرر بسخاء عظيم داخل سرديات أخري هو أن هذا التعريف لم يضع حدوداً له كمجرد إقرار خبري مباشر بطبيعة وجودية، وإنما تحوّل علي نحو جوهري إلي استراتيجية شكلية للحكي..يمكننا منذ السطور الأولي للرواية إدراك أن باسكال روز ستعتمد علي توظيف العبارات القصيرة، النقية، المستندة أحياناً إلي تكرارات مقصودة لتكوين البنية السردية الملائمة لـ "إجادة المعاناة، وعدم إجادة الكلام".. التي سيضاف إليها لاحقاً "عدم إجادة التفكير".
(قلت إنني لا أجيد التفكير. عندما أقرأ لا أفكر. كنت منومة مغناطيسياً. كنت أبلع الكلمات حتي تختلط السطور أمام عيني، حتي الخبل. تقريباً كانت حسبما أعتقد رغبة في الموت. رغبة في الموت في حرب اليابان).
(كنت أمكث صباحات بأكملها وأنا أكرر محاولاتي المتعلقة بالكتابة وبتأتآتي).
هذا ما قد يعطي شعوراً حاسماً بأن لورا كارلسون أثناء التشريح المحكوم بالدوار لتاريخها أقرب إلي أن تكون طفلة تحاول مراجعة وحفظ مقرر دراسي معقد، وهي تعرف جيدا أنها ستستمر في مواجهة اختباراته العسيرة طوال عمرها.. تعرف أنها تعيد كتابة حياة مجهولة لا تتمكن من فهمها، ولا تضمن بالضرورة أنها تنتمي إليها، ولكنها لا تملك سوي مواصلة التجريب الشاق للكلمات المرتبكة.. ربما يكمن في هذا التجريب الكيفية اللائقة بالتعامل مع هذه الحياة.. تدفع باسكال روز بطلتها لاكتشاف ما يبدو أنه تواطؤ غامض بين أقدار متشابكة، وإلي مقاومة الوعي لهذا التواطؤ ببذل الجهد اللازم لتثبيته في الذاكرة.. هذا التثبيت يهدف إلي اختيار الأماكن الصحيحة في الزمن الخاص لتسكين تلك الأقدار بعد تحويلها ـ حكائياً ـ إلي علامات جمالية، كاشفة، أو كذخيرة ـ غير موثوق بهاـ يمكن استعمالها في حروب يبدو مصيرها محدد سلفاً.
(طفولتي كانت مخيفة. الشقة كانت مخيفة. جدي وجدتي كانا مخيفين واستغرقت أمي في صمت مخيف. في البداية سعت إلي العمل بناء علي فكرة جدتي، اشتغلت معلمة للإنجليزية في المدرسة نفسها التي تعلمت فيها. عانت وهي تقاوم الإنهاك، لم تستطع إعداد دروسها، ولا مواجهة نظرة زملائها المشفقة. وذهبت جدتي إلي المديرة كي تشرح لها. أزاحوا عنها عبء العمل . ومن هذه اللحظة، ستقضي أمي أيامها الطويلة الموحشة في لعبة السوليتير. سوليتير طيلة النهار. تولي جدي وجدتي تربيتي واهتما بابنتهما تقريبا مثلما يتم مع الطفل المتخلف).
لكن لورا كارلسون باستخدام هذا التخطيط السردي لا تكتفي بالتنقيب داخل الماضي بما يعني إعادة تمريره إلي العالم في صور مختلفة، بل تعيد أيضاً تشريح تاريخ الشخصيات الأخري التي ساهمت في تكوين هذه الخبرة.. ليس باعتبار هذه الشخصيات عناصر مؤثرة، تقتصر أدوارها علي البصمات الفاعلة في حياة (لورا) بل ككيانات مستقلة لكلِ منها حكايته الخاصة، التي يتعين عليها أن تُكتب.. الكتابة التي لا تسعي وراء أن تتخذ تلك الكيانات طبائع مغايرة بل لتوضع في السياقات المجازية التي تحولها إلي نماذج قابلة للتأمل المعزول عن طغيانها الجسدي.. الأم بينيدكت المحطمة، التي تنادي علي زوجها الميت، ويلهو الضباط بجسدها وهي سكرانة في البارات والفنادق.. الأب أندرو كارلسون الذي قُتل في الحرب العالمية الثانية، ولا تمتلك ابنته إلا صورتين له.. الجدة (آكلة الأطفال).. الجد الشغوف بالرياضيات والفلك وصيد السمك.. الصديقة ناتالي التي حرضتها علي اكتشاف كيفية مقتل أبيها.. الحبيب برونو المؤلف الموسيقي الذي هجرها ليقيم مع السوبرانو البولندية.. الانتحاري الياباني توسوروكاوا أوشي قائد الطائرة (الصائد صفر) التي قتلت أباها.. كذلك لا تتوقف (لورا) عند اقتفاء أثر هذه الأقدار وعلاقاتها وتحولاتها، بل تستعمل آلية المراجعة والحفظ في توثيق السيّر العديدة للأماكن والأصوات والمشاهد والمذاقات والروائح والملموسات.. ليس بوصفها أيضاً مواد وتفاصيل تم تكريسها لتشييد الأزمنة البشرية بل كمخلوقات حية لكلٍ منها ماضيه الشخصي الذي يستحق أن يوجد في نسق افتراضي يُبقيه مهيئاً لكافة الاحتمالات.
(كان ضجيج الصائد صفر قد عبر رأسي بسرعة شديدة جداً لكن بالإنصات الجيد فهمت أن طرق الراقصين علي الأرضية قد يحدث التباساً. في أي ناحية يتوجب عليّ انتظاره؟ صفوف من النمل صعدت إلي ساقيّ, إلي ذراعي. وقبل أن تشلني، كان يتعين عليّ الوصول إلي الحمام وغرز سدادات الأذن خاصتي).
إن ما يتولي إنتاج هذا المقرر المدرسي المعقد بالنسبة لـ (لورا كارلسون) هو الموت.. التهديد بالموت.. صوت الطائرة (الصائد صفر) الذي يلاحقها.. الموت كترويع حاضر دائما،ويختبيء في خفاء محصن.. الموت الذي تسوقه دوافع مبهمة، ليس في حاجة لتبريرها.. الذي لا يؤمن إلا بمنطقه الخاص.. الموت كظلام خارجي مجهول الهوية،يمكنه الانقضاض فجأة في أي وقت ليفسد الشعور باقترابه كافة اللحظات التي تبدو آمنة.. الوعيد الذي يهبط من السماء ويخترق الجسد ويفصله عن ذاته دون توقع.. الموت الذي يحوّلك إلي نسخ متناثرة تحاول كل منها أن تنقذ الأخري.
(لو تركوا لي هؤلاء الأطفال، لو لم يأخذوهم مني، فسأحدثهم عن تسوروكاوا. ولأجلهم سأتخيل فترة شبابه)، (كنت سأقص عليهم، أنه كان يبدأ طريقه كل صباح من إمبراطورية الشمس المشرقة وأنه يوماً ما سيجدهم، وأنهم يوماً ما سيسمعونه. هي ليست حكاية كتلك التي تقصها عليكم جدتكم، فهي حقيقة خالصة. ومعني أنكم سمعتموها أنه كشف موقعكم علي خريطة الأحياء، وأنكم ستصيرون موتي عما قريب).
إن التطور الأساسي في الرواية يكمن في تحوّل الموت مع تقدم خطوات (لورا) في الحياة ـ المتزامن مع تفحص الماضي والسقوط داخل فراغاته ـ من تهديد خارجي إلي هيمنة داخلية.. من طنين طائرة عسكرية إلي صوت أصيل في الباطن.. لا يمثل هذا اكتشافاً لحقيقة الموت بقدر ما هو تمييز لحقيقة العالم.. أن التجارب والخبرات الدنيوية هي صنيعة الموت نفسه السابق لوجودها، وأنها لا تتسم بحضور قائم بذاته، ينبغي له ـ بديهيا ـ الاستسلام لمصير حتمي، قادم من عتمة بعيدة.. تتحول لورا كارلسون من المقاومة المتواصلة للموت المنقض عبر أذنيها إلي التماهي معه.. تصبح هي الموت نفسه.. كأنها بلغت ذروة التعرف علي جسدها.. علي الحكمة الأبدية التي تقف وراء صراعاتها مع الآخرين.. يقترن هذا التطور بتحوّل في البنية السردية للرواية حيث يتسارع الحكي مع التزام أقل بالاستراتيجية الشكلية التي بدأها، المعتمدة ـ كما سبق وأشرت علي توظيف العبارات القصيرة، النقية، والمستندة أحياناً إلي تكرارات مقصودة.. هذا التسارع سيخلق شكلا آخر من التماهي بين الرواية والموت، فالأداء اللغوي سيتسلل إليه تدريجيا ـ مثلما تحصل الطفلة بعد وقت ما علي قدر من الاستيعاب للمقرر المدرسي المعقد ـ ما يتجلي كنوع ضبابي من المعرفة.. اليقين اليائس بالموت كخالق للحياة، وليس كقبضة سوداء منفصلة، تسقط من أعلي.. بالإمكان إذن إدراك أن هذا التسارع في الحكي قد يصبح تمثيلاً كتابياً لصوت طائرة (تسوروكاوا) بعد أن أصبح اقترابها قادماً من الداخل، وأن هذا هوالدليل الصلب للتماهي مع الموت.. التماهي الذي يصل بك إلي حالة (الصفر) كما كان الاسم الذي تحمله طائرة الانتحاري الياباني.. العدم الأزلي حيث لم تحدث الحياة أصلا بل امتداد لم ينقطع مطلقاً للموت.. الموت الذي سيعلن عن نفسه كمتن سردي.. كمصير يأتي تدريجياً من باطن الرواية محدداً حركة اللغة، وليس كحقيقة يتم استدعائها أو مجرد واقع يُراد تأمله..سيكون من المنطقي إذن أن تتخيل (لورا) تحريضها للأطفال علي اكتشاف الموت الكامن داخل أنفسهم.. داخل أجسادهم حينما يتعرفون علي وجوده مثلما فعلت.. إعطائهم الانتباه القاتل لإقامته في أرواحهم؛ وهو ما سيجعلهم يسمعونه دائماً.
(وضعت الصور بجانب يوميات تسوروكاوا وقارنت بينهما. لا أعلم أيهما أبي، أندرو كارلسون أم تسوروكاوا أوشي. ضمهما الموت متشابكين، الواحد منهما يتشبث بالآخر في قاع المحيط الهادئ. تمزقت جثتاهما بشكل متماثل. قرضهما الملح. وكنت أنا وسطهما. كنت أنا طفلتهما).
سنلاحظ في نهاية الرواية التخلص التدريجي من التسارع في الحكي والعودة إلي الإلتزام بالاستراتيجية الشكلية التي تمسّك بها البناء السردي منذ البداية.. استرداد النبرة الطفولية المنسجمة مع رجوعها كطفلة يُعاد ولادتها بفعل الموت.. كأن الهجوم الانتحاري في 7 إبريل عام 1945 الذي قتل فيه (تسوروكاوا) الضابط (كارلسون) كان ممارسة جنسية في حقيقته.. مضاجعة ذكورية بين رجلين ميتين.. مضاجعة الموت لذاته، والتي أنجبت طفلة ميتة اسمها (لورا)..تماهي مع الموت، باعتبارنا موتي نتناسل المزيد من الموت.. باسكال روز تريد أن تُسمعنا الصائد صفر الذي في أجسادنا وعلاقاتنا وأمنياتنا بأقصي ما لديها من قوة.. بواسطة الكتابة.. نحن نقرأ، وكأننا نصغي لصوت الطائرة التي تقترب في داخلنا.. القراءة بديل للسمع.. كأن لورا كارلسون تسبق الجميع في إدراك انتمائها إلي الموت.. لم تعد تقاومه لأن الموت أصبح هي نفسها..لهذا أرادت أن تذهب إلي نهايته حيث ينبغي أن تكون..ضغطت بقدميها علي دواسة سرعة السيارة، ولم ترفعها بينما الشاحنة تقترب منها.. (ساعدني. ضمني بين ذراعيك).. هكذا كانت تنادي (تسوروكاوا) وهي تصطدم..ربما فكرت (لورا) في المستشفي بعد إفاقتها من الحادث، أن مضاجعة أخري كان ينبغي أن تحدث، تم تأجيلها.. ممارسة جنسية أخري لابد أنها ستتحقق في لحظة قادمة للوصول إلي الغاية التي من أجلها يمر الزمن.. حيث كل ما في العالم ليس إلا صوت الطائرة وهي تقترب.
إن ما يخلق الاختلاف بين هذا التعريف الشخصي والتوصيفات الأخري المشابهة للذات داخل هذه الرواية الصادرة عن سلسلة الجوائز بالهيئة العامة للكتاب، أو حتي تلك التعريفات المماثلة التي يمكن أن تتكرر بسخاء عظيم داخل سرديات أخري هو أن هذا التعريف لم يضع حدوداً له كمجرد إقرار خبري مباشر بطبيعة وجودية، وإنما تحوّل علي نحو جوهري إلي استراتيجية شكلية للحكي..يمكننا منذ السطور الأولي للرواية إدراك أن باسكال روز ستعتمد علي توظيف العبارات القصيرة، النقية، المستندة أحياناً إلي تكرارات مقصودة لتكوين البنية السردية الملائمة لـ "إجادة المعاناة، وعدم إجادة الكلام".. التي سيضاف إليها لاحقاً "عدم إجادة التفكير".
(قلت إنني لا أجيد التفكير. عندما أقرأ لا أفكر. كنت منومة مغناطيسياً. كنت أبلع الكلمات حتي تختلط السطور أمام عيني، حتي الخبل. تقريباً كانت حسبما أعتقد رغبة في الموت. رغبة في الموت في حرب اليابان).
(كنت أمكث صباحات بأكملها وأنا أكرر محاولاتي المتعلقة بالكتابة وبتأتآتي).
هذا ما قد يعطي شعوراً حاسماً بأن لورا كارلسون أثناء التشريح المحكوم بالدوار لتاريخها أقرب إلي أن تكون طفلة تحاول مراجعة وحفظ مقرر دراسي معقد، وهي تعرف جيدا أنها ستستمر في مواجهة اختباراته العسيرة طوال عمرها.. تعرف أنها تعيد كتابة حياة مجهولة لا تتمكن من فهمها، ولا تضمن بالضرورة أنها تنتمي إليها، ولكنها لا تملك سوي مواصلة التجريب الشاق للكلمات المرتبكة.. ربما يكمن في هذا التجريب الكيفية اللائقة بالتعامل مع هذه الحياة.. تدفع باسكال روز بطلتها لاكتشاف ما يبدو أنه تواطؤ غامض بين أقدار متشابكة، وإلي مقاومة الوعي لهذا التواطؤ ببذل الجهد اللازم لتثبيته في الذاكرة.. هذا التثبيت يهدف إلي اختيار الأماكن الصحيحة في الزمن الخاص لتسكين تلك الأقدار بعد تحويلها ـ حكائياً ـ إلي علامات جمالية، كاشفة، أو كذخيرة ـ غير موثوق بهاـ يمكن استعمالها في حروب يبدو مصيرها محدد سلفاً.
(طفولتي كانت مخيفة. الشقة كانت مخيفة. جدي وجدتي كانا مخيفين واستغرقت أمي في صمت مخيف. في البداية سعت إلي العمل بناء علي فكرة جدتي، اشتغلت معلمة للإنجليزية في المدرسة نفسها التي تعلمت فيها. عانت وهي تقاوم الإنهاك، لم تستطع إعداد دروسها، ولا مواجهة نظرة زملائها المشفقة. وذهبت جدتي إلي المديرة كي تشرح لها. أزاحوا عنها عبء العمل . ومن هذه اللحظة، ستقضي أمي أيامها الطويلة الموحشة في لعبة السوليتير. سوليتير طيلة النهار. تولي جدي وجدتي تربيتي واهتما بابنتهما تقريبا مثلما يتم مع الطفل المتخلف).
لكن لورا كارلسون باستخدام هذا التخطيط السردي لا تكتفي بالتنقيب داخل الماضي بما يعني إعادة تمريره إلي العالم في صور مختلفة، بل تعيد أيضاً تشريح تاريخ الشخصيات الأخري التي ساهمت في تكوين هذه الخبرة.. ليس باعتبار هذه الشخصيات عناصر مؤثرة، تقتصر أدوارها علي البصمات الفاعلة في حياة (لورا) بل ككيانات مستقلة لكلِ منها حكايته الخاصة، التي يتعين عليها أن تُكتب.. الكتابة التي لا تسعي وراء أن تتخذ تلك الكيانات طبائع مغايرة بل لتوضع في السياقات المجازية التي تحولها إلي نماذج قابلة للتأمل المعزول عن طغيانها الجسدي.. الأم بينيدكت المحطمة، التي تنادي علي زوجها الميت، ويلهو الضباط بجسدها وهي سكرانة في البارات والفنادق.. الأب أندرو كارلسون الذي قُتل في الحرب العالمية الثانية، ولا تمتلك ابنته إلا صورتين له.. الجدة (آكلة الأطفال).. الجد الشغوف بالرياضيات والفلك وصيد السمك.. الصديقة ناتالي التي حرضتها علي اكتشاف كيفية مقتل أبيها.. الحبيب برونو المؤلف الموسيقي الذي هجرها ليقيم مع السوبرانو البولندية.. الانتحاري الياباني توسوروكاوا أوشي قائد الطائرة (الصائد صفر) التي قتلت أباها.. كذلك لا تتوقف (لورا) عند اقتفاء أثر هذه الأقدار وعلاقاتها وتحولاتها، بل تستعمل آلية المراجعة والحفظ في توثيق السيّر العديدة للأماكن والأصوات والمشاهد والمذاقات والروائح والملموسات.. ليس بوصفها أيضاً مواد وتفاصيل تم تكريسها لتشييد الأزمنة البشرية بل كمخلوقات حية لكلٍ منها ماضيه الشخصي الذي يستحق أن يوجد في نسق افتراضي يُبقيه مهيئاً لكافة الاحتمالات.
(كان ضجيج الصائد صفر قد عبر رأسي بسرعة شديدة جداً لكن بالإنصات الجيد فهمت أن طرق الراقصين علي الأرضية قد يحدث التباساً. في أي ناحية يتوجب عليّ انتظاره؟ صفوف من النمل صعدت إلي ساقيّ, إلي ذراعي. وقبل أن تشلني، كان يتعين عليّ الوصول إلي الحمام وغرز سدادات الأذن خاصتي).
إن ما يتولي إنتاج هذا المقرر المدرسي المعقد بالنسبة لـ (لورا كارلسون) هو الموت.. التهديد بالموت.. صوت الطائرة (الصائد صفر) الذي يلاحقها.. الموت كترويع حاضر دائما،ويختبيء في خفاء محصن.. الموت الذي تسوقه دوافع مبهمة، ليس في حاجة لتبريرها.. الذي لا يؤمن إلا بمنطقه الخاص.. الموت كظلام خارجي مجهول الهوية،يمكنه الانقضاض فجأة في أي وقت ليفسد الشعور باقترابه كافة اللحظات التي تبدو آمنة.. الوعيد الذي يهبط من السماء ويخترق الجسد ويفصله عن ذاته دون توقع.. الموت الذي يحوّلك إلي نسخ متناثرة تحاول كل منها أن تنقذ الأخري.
(لو تركوا لي هؤلاء الأطفال، لو لم يأخذوهم مني، فسأحدثهم عن تسوروكاوا. ولأجلهم سأتخيل فترة شبابه)، (كنت سأقص عليهم، أنه كان يبدأ طريقه كل صباح من إمبراطورية الشمس المشرقة وأنه يوماً ما سيجدهم، وأنهم يوماً ما سيسمعونه. هي ليست حكاية كتلك التي تقصها عليكم جدتكم، فهي حقيقة خالصة. ومعني أنكم سمعتموها أنه كشف موقعكم علي خريطة الأحياء، وأنكم ستصيرون موتي عما قريب).
إن التطور الأساسي في الرواية يكمن في تحوّل الموت مع تقدم خطوات (لورا) في الحياة ـ المتزامن مع تفحص الماضي والسقوط داخل فراغاته ـ من تهديد خارجي إلي هيمنة داخلية.. من طنين طائرة عسكرية إلي صوت أصيل في الباطن.. لا يمثل هذا اكتشافاً لحقيقة الموت بقدر ما هو تمييز لحقيقة العالم.. أن التجارب والخبرات الدنيوية هي صنيعة الموت نفسه السابق لوجودها، وأنها لا تتسم بحضور قائم بذاته، ينبغي له ـ بديهيا ـ الاستسلام لمصير حتمي، قادم من عتمة بعيدة.. تتحول لورا كارلسون من المقاومة المتواصلة للموت المنقض عبر أذنيها إلي التماهي معه.. تصبح هي الموت نفسه.. كأنها بلغت ذروة التعرف علي جسدها.. علي الحكمة الأبدية التي تقف وراء صراعاتها مع الآخرين.. يقترن هذا التطور بتحوّل في البنية السردية للرواية حيث يتسارع الحكي مع التزام أقل بالاستراتيجية الشكلية التي بدأها، المعتمدة ـ كما سبق وأشرت علي توظيف العبارات القصيرة، النقية، والمستندة أحياناً إلي تكرارات مقصودة.. هذا التسارع سيخلق شكلا آخر من التماهي بين الرواية والموت، فالأداء اللغوي سيتسلل إليه تدريجيا ـ مثلما تحصل الطفلة بعد وقت ما علي قدر من الاستيعاب للمقرر المدرسي المعقد ـ ما يتجلي كنوع ضبابي من المعرفة.. اليقين اليائس بالموت كخالق للحياة، وليس كقبضة سوداء منفصلة، تسقط من أعلي.. بالإمكان إذن إدراك أن هذا التسارع في الحكي قد يصبح تمثيلاً كتابياً لصوت طائرة (تسوروكاوا) بعد أن أصبح اقترابها قادماً من الداخل، وأن هذا هوالدليل الصلب للتماهي مع الموت.. التماهي الذي يصل بك إلي حالة (الصفر) كما كان الاسم الذي تحمله طائرة الانتحاري الياباني.. العدم الأزلي حيث لم تحدث الحياة أصلا بل امتداد لم ينقطع مطلقاً للموت.. الموت الذي سيعلن عن نفسه كمتن سردي.. كمصير يأتي تدريجياً من باطن الرواية محدداً حركة اللغة، وليس كحقيقة يتم استدعائها أو مجرد واقع يُراد تأمله..سيكون من المنطقي إذن أن تتخيل (لورا) تحريضها للأطفال علي اكتشاف الموت الكامن داخل أنفسهم.. داخل أجسادهم حينما يتعرفون علي وجوده مثلما فعلت.. إعطائهم الانتباه القاتل لإقامته في أرواحهم؛ وهو ما سيجعلهم يسمعونه دائماً.
(وضعت الصور بجانب يوميات تسوروكاوا وقارنت بينهما. لا أعلم أيهما أبي، أندرو كارلسون أم تسوروكاوا أوشي. ضمهما الموت متشابكين، الواحد منهما يتشبث بالآخر في قاع المحيط الهادئ. تمزقت جثتاهما بشكل متماثل. قرضهما الملح. وكنت أنا وسطهما. كنت أنا طفلتهما).
سنلاحظ في نهاية الرواية التخلص التدريجي من التسارع في الحكي والعودة إلي الإلتزام بالاستراتيجية الشكلية التي تمسّك بها البناء السردي منذ البداية.. استرداد النبرة الطفولية المنسجمة مع رجوعها كطفلة يُعاد ولادتها بفعل الموت.. كأن الهجوم الانتحاري في 7 إبريل عام 1945 الذي قتل فيه (تسوروكاوا) الضابط (كارلسون) كان ممارسة جنسية في حقيقته.. مضاجعة ذكورية بين رجلين ميتين.. مضاجعة الموت لذاته، والتي أنجبت طفلة ميتة اسمها (لورا)..تماهي مع الموت، باعتبارنا موتي نتناسل المزيد من الموت.. باسكال روز تريد أن تُسمعنا الصائد صفر الذي في أجسادنا وعلاقاتنا وأمنياتنا بأقصي ما لديها من قوة.. بواسطة الكتابة.. نحن نقرأ، وكأننا نصغي لصوت الطائرة التي تقترب في داخلنا.. القراءة بديل للسمع.. كأن لورا كارلسون تسبق الجميع في إدراك انتمائها إلي الموت.. لم تعد تقاومه لأن الموت أصبح هي نفسها..لهذا أرادت أن تذهب إلي نهايته حيث ينبغي أن تكون..ضغطت بقدميها علي دواسة سرعة السيارة، ولم ترفعها بينما الشاحنة تقترب منها.. (ساعدني. ضمني بين ذراعيك).. هكذا كانت تنادي (تسوروكاوا) وهي تصطدم..ربما فكرت (لورا) في المستشفي بعد إفاقتها من الحادث، أن مضاجعة أخري كان ينبغي أن تحدث، تم تأجيلها.. ممارسة جنسية أخري لابد أنها ستتحقق في لحظة قادمة للوصول إلي الغاية التي من أجلها يمر الزمن.. حيث كل ما في العالم ليس إلا صوت الطائرة وهي تقترب.
أخبار الأدب
06/08/2016