لن تدرك الزمن الذي أهدرته حقًا إلا حينما يصبح الموت أقرب من خطوة
واحدة صغيرة، وليس مجرد احتمال ضروري، متناثر في الأشياء كافة .. يأس الماضي حينئذ
سيكون في جوهره رجاءً شاحبًا، ذلك لأن هذه اللحظة هي موعدك مع اليأس الفعلي، في
كامل نقائه .. محاولاتك المرجأة لاستدراك ما لا يمكن تصحيحه، وتعويض ما لا يمكن
استعادته؛ كلها ستنتفض فجأة لتبدأ في قضم روحك بشكل متزامن، كمن ظل يربي أشباحًا في
جسده أطول مما يجب دون أن يطلقها.
لم أخرج من بيتي منذ الإعلان عن اكتشاف الحالة الأولى المصابة بفيروس
كورونا .. أعني بذلك أنني توقفت عن الزيارة الأسبوعية لشقيقتي الكبرى المقيمة
وحدها في منزل العائلة، والتي كان يعقبها عادة المرور على بائع الجرائد، ومكتبة
هيئة الكتاب ثم عدم الاستجابة لرغبة بائسة ومعتادة في تناول فنجان قهوة بأحد
المقاهي التي أمر عليها في طريق عودتتي إلى البيت .. كنت حينئذ أعمل على كتاب جديد
عن "شوبنهاور"، بجانب متوالية قصصية، ومراجعة مخطوط دراستي عن الأصل
الواقعي لرواية "القضية الغريبة لدكتور جيكل ومستر هايد" .. بعد أيام
قليلة، ومع تزايد عدد الإصابات، واستمرار خروج زوجتي من المنزل ـ مصطحبة طفلتي بالطبع
ـ للاعتناء بأمها المريضة، وقضاء احتياجاتها؛ توقفت عن كل ما كنت أكتبه، بما في
ذلك المقال الأسبوعي من "سيرة الاختباء"؛ إذ أصبح تحليل التاريخ الشخصي
داخل ما يُسمّى بـ "الحياة الأدبية" طقسًا أكثر مسالمة مما يحتمل الخطر
المتفاقم، حتى لو كان منطويًا بصورة أساسية على تصفية الحسابات القديمة .. قررت
التفرّغ لاستكمال "وصية كلنكسر" في أسرع وقت ممكن، والبدء أيضًا في
ورشتي القصصية الجديدة .. هذا فقط ما كان بوسعي القيام به على نحو عاجل من ضمن
تدابير عدة كنت أتمنى أن تنتهي حياتي داخل أحلامها السرية.
لم يكن بمقدوري منع زوجتي من الذهاب لأمها، كما لم أستطع أن أطلب منها
الإقامة برفقتها، لأن ذلك كان سيُبعد طفلتي عني .. كان وجها زوجتي وطفلتي قد
تحوّلا، كما يشيع في الكوميكس المعاصر، إلى مجسّمين للفيروس وهما يعبران يومًا بعد
آخر باب الشقة أمام عينيّ، بينما أجلس في مواجهة شاشة اللابتوب، أكتب سطورًا
متلاحقة من النوفيلا التي عليها أن تُغني بصورة حاسمة عن كل انتقام لم أنفّذه، أو
أراجع مشروعًا قصصيًا لأحد طلاب الورشة التي أردتها ككل مرة، وعبر القصص
المستقبلية لأعضائها، أن تكون بعد اختفائي عودًا أبديًا لذاكرتي .. الذاكرة التي يمكن
تلخيصها الآن في شهوانية ذابحة أعيد بها مشاهدة التسجيل المصوّر لممرضة في مستشفى
العزل بالمدينة التي أسكنها، وهى تشرح كيف ترتدي زي الوقاية المعقّم قطعة بعد
أخرى.
أنطولوجيا السرد العربي ـ 8 مايو 2020