الأربعاء، 2 ديسمبر 2020

قشرة الطلاء الصغيرة ... (مسرحية قصيرة في فصل واحد)

المكان: حجرة نوم تقليدية (نافذة مغلقة .. باب مغلق .. سرير صغير .. دولاب .. مرآة .. طاولة .. كرسي مواجه للجدار، يجلس عليه رجل في منتصف الخمسينيات، يرتدي بيچاما).

الوقت مساءً

يُفتح الباب وتدخل شابة في العشرين من عمرها.

الشابة: أبي .. هل ستظل جالسًا هكذا أمام هذا الجدار؟

الرجل: ولم لا ...

ـ إنك لم تتحرك منذ ساعات طويلة...

ـ حسنًا ...

ـ هل لم يعد لديك ما تفعله سوى ...

(يقاطعها) ـ إذا لم يكن هناك شيء تريدينه فأرجو أن تغادري الحجرة، وتغلقي الباب .. أما إذا كان هناك ما يستدعي بقاءك فعليكِ إغلاق الباب أيضًا.

ـ ولماذا لا أتركه مفتوحًا؟

ـ لأنني أريده أن يكون مغلقًا مثل هذه النافذة.

(تغلق الباب) ـ حقًا .. إنك تجيد إهدار الوقت.

ـ أشكرك.

ـ أبي .. إنك لست عجوزًا لدرجة أن تضع كرسيًا أمام جدار وتجلس أمامه كل هذا الزمن.

ـ أي زمن تقصدين؟

ـ الأيام التي لم أعد أتذكر عددها منذ بدأت في القيام بهذا الأمر الغريب .. بعد أن تستيقظ في الصباح، وقبل أن تنام في الليل .. في أي لحظة من اليوم تفعل هذا: تجلس على هذا الكرسي وتتمعّن في الجدار.

ـ وماذا في ذلك؟

ـ ما تفعله يخيفني .. لا أعرف لماذا تقوم بهذا .. لا أعرف لماذا تخليت فجأة عن كل ما كنت تحبه في حياتك : لم تعد تكتب أو تقرأ أو تتحدث معي .. لم تعد حتى تفكر شاردًا في صمت وأنت بجواري في حجرة المعيشة .. أصبح كل ما يشغلك هو التمعّن في هذا الجدار السخيف بينما تجلس كتمثال على وشك التحطّم.

ـ أو كجثة مضحكة .. أليس كذلك؟

ـ لا .. أنا لا أقصد ذلك يا أبي .. إن لي الحق في أن أكون قلقة عليك.

ـ وأنا لي الحق في أن أفعل ما أريد.

ـ نعم .. ولكن ...

ـ ولكن يبدو أنكِ ما عدتِ تملكين شيئًا آخر تقومين به .. لم يعد لديك أصدقاء .. لم يعد لديك عمل منزلي .. لم يعد لديك ما تشاهدينه على شاشة ما .. أصبح كل همّك في الحياة هو جلوسي على هذا الكرسي.

ـ أبي .. أنا أحبك.

ـ وأنا كذلك.

ـ إنك لم تحتضنني أو تقبلني منذ وقت طويل جدًا.

ـ أحيانًا يحدث هذا.

ـ إن الأمر يبدو كما لو أنك نسيت أنني ابنتك .. أشعر بأنك لم تعد تتذكر شيئًا سوى الجلوس أمام هذا الجدار الذي لا يعني أكثر من كونه جدارًا .. مجرد جدار.

ـ أنا لا أنظر إلى الجدار.

ـ لا تنظر إلى الجدار؟!

ـ نعم.

ـ إذن ما ذلك الذي تتمعّن فيه يومًا بعد آخر؟

ـ قشرة الطلاء الصغيرة.

ـ ماذا؟

ـ أنظري .. ثمة قشرة طلاء صغيرة تتدلى من الجدار .. منذ أيام عدة رأيت هذه القشرة ترتعش .. ارتعشت للحظة واحدة ثم توقفت.

ـ وبعد ذلك؟

ـ لا شيء .. هذا كل ما حدث.

(تضحك) ـ ولذلك تجلس كل يوم ولساعات طويلة أمام هذا الجدار .. أبي؛ إنني لم أعد طفلة حتى أصدق دعاباتك الكاذبة.

ـ أنا لا أكذب .. أنا فقط أريد أن أرى قشرة الطلاء الصغيرة هذه وهي ترتعش مرة أخرى.

(تواصل الضحك) ـ قشرة الطلاء الصغيرة؟ .. ترتعش؟

ـ نعم .. إنه ما أريد رؤيته حقًا، مثلما يعتبر أي أحد في العالم شيئًا ما جديرًا بالنظر إليه.

ـ أبي .. هل تظن أنه بوسعك أن تقول مثل هذه الكلمات إلى شخص غريب دون أن تشعر بالخجل؟

ـ بل بوسعي أن أؤكد لكِ أنه لا يوجد سبب يجبرني على التحدث في الأمر مع الغرباء .. إنني حتى غير مقتنع بأنه كان من الواجب عليّ أن أذكره لكِ .. ربما فعلت ذلك أملًا في أن تتوقفي عن التساؤل.

ـ إنني أسألك لأنني لا أعرف ماذا أفعل ...

ـ وأنا أريد الانتظار حتى ترتعش قشرة الطلاء الصغيرة مرة أخرى ...

(في ما يشبه الصراخ) ـ وما أهمية ذلك يا أبي؟ .. ما فائدة أن ترى قشرة طلاء صغيرة تتدلى من الجدار وهي ترتعش؟ .. هل هو حدث يستحق انتظاره إلى هذه الدرجة؟

ـ دون شك.

ـ حسنًا .. لماذا تنتظر في حين أنه يمكنك ببساطة أن تقترب منها ثم تنفث زفيرًا قويًا وينتهي الأمر؟

ـ كلا .. أريد أن أراها ترتعش وحدها.

ـ إنه شيء مستحيل تقريبًا، خاصة أنك تصرّ على غلق النافذة الوحيدة في الحجرة .. حتى الباب لا تريد أن تتركه مفتوحًا .. هذا يعني أنك تمنع أي نسمة هوائية محتملة من الوصول إلى تلك القشرة.

ـ وهذا بالضبط ما أقصده .. لم يكن هناك هواء يكفي قشرة الطلاء لأن ترتعش في المرة الأولى .. ومع ذلك ارتعشت .. كأنها فعلت ذلك من تلقاء نفسها .. وهذا ما أريد أن أراها تفعله ثانية.

ـ أبي .. ألا تعتقد أن ما تقوله وتفعله غريبًا؟

ـ بل هو بالنسبة لي أكثر الأمور منطقية وصوابًا، أما الغريب حقًا فهو وقوفك هكذا، ومحاصرتي بمثل هذه الأسئلة.

ـ إنني أسألك لأنني لا أعرف ماذا أفعل ...

ـ وأنا أريد الانتظار حتى ترتعش قشرة الطلاء الصغيرة مرة أخرى ...

ـ إذن أخبرني عن السبب .. قل لي ما الذي يعنيه ذلك بالنسبة لك .. أي تأثير لرعشة قشرة طلاء صغيرة في نفسك؟

ـ لا أستطيع أن أخبرك.

ـ إذن أنت لا تعرف السبب .. أنت تجهل حقيقة ما تقوم به .. كيف يمكنك إدعاء المنطق والصواب تجاه أمر لا تدركه يا أبي؟

ـ ربما أدركه على نحو يجعلني عاجزًا عن تفسيره لكِ.

ـ حسنًا .. ماذا لو لم ترتعش قشرة الطلاء الصغيرة ثانية؟

ـ سأظل جالسًا على هذا الكرسي أمام الجدار حتى نهاية حياتي.

ـ وماذا لو لم تكن قد ارتعشت في المرة الأولى؟

ـ ماذا تقصدين؟

ـ أعني أنك ربما تكون قد تخيلتها كذلك .. ربما يكون ما رأيته كان نوعًا من خداع البصر، رجفة عابرة في عينيك قد لا تتكرر مرة أخرى.

ـ بل كان ما رأيته حقيقيًا تمامًا .. لا تبدأي هذه اللعبة معي .. إذا كانت أسئلتك قد هُزمت فأي حيلة أخرى ستحاولين استخدامها لن تواجه إلا المصير ذاته.

ـ حيلة؟ .. إنني لا أستخدم أية حيل .. أنا أريد الاطمئنان عليك فحسب.

ـ إن جلوسي هنا يجب أن يكون أقوى دافع لديكِ كي تشعري بالاطمئنان.

ـ هل تظن حقًا أن ذلك أمر عقلاني يا أبي؟

ـ بالتأكيد.

ـ حسنًا .. ماذا لو ارتعشت قشرة الطلاء الصغيرة في أية لحظة؟ .. ما الذي سيحدث بعد ذلك يا أبي؟ .. ماذا ستفعل؟

ـ لا أدري .. إنني لم أفكر في هذا .. لكن منذ ساعات قليلة، وبينما كنت أحدّق كالعادة في تلك القشرة؛ انتابني هاجس مفاجئ .. خاطر مقلق، لم يتوقف عن التصاعد في داخلي حتى هذه اللحظة.

ـ ما هو يا أبي؟

ـ ماذا لو أن هذه القشرة تراني مثلما أراها؟ .. ماذا لو أنها تعرف سبب جلوسي أمامها كل هذا الوقت؟ .. لماذا لا تكون رعشتها الأولى استدراجًا متعمّدًا لي حتى أبقى هكذا في انتظار شيء لا تنوي أن تكرره ثانية؟

ـ أبي .. إنك ...

ـ أهذي .. أليس كذلك؟ .. أنا لا يعنيني حقًا ما تتصوّرينه عني .. يمكنك الاعتقاد بأنني مجنون لو كان هذا الاستنتاج السهل سيوفر عليكِ مشقة التفكير فيما أقوله .. فقط تذكري أنني لم أطلب منكِ أن تفكري في أي شيء .. لم أطلب منكِ أن تسأليني عما أفعله .. لم أطلب منكِ الوقوف بجواري .. لم أطلب منكِ شيئًا على الإطلاق.

ـ بل أنا الذي أطلب منك يا أبي .. أنا الذي أطلب منك أن تتذكر ابتساماتك لي حينما كنت طفلة صغيرة .. ضحكاتك .. حكاياتك .. يدك التي كانت تساعدني على رسم الحياة وتلوينها .. أنا الذي أطلب منك أن تتذكرني يا أبي.

ـ أنا لم أفعل أي شيء من ذلك.

ـ ماذا؟

ـ نعم .. أنا لم أفعل أي شيء من ذلك .. أنا فقط حاولت أن أبتسم .. أن أضحك .. أن أحكي .. أن أرسم وألوّن .. حاولت أن أفعل أكثر مما يمكنك تصديقه .. لكنني لم أستطع.

ـ لكنك فعلت يا أبي .. لا يمكنك أن تمحو الماضي بهذه البساطة.

ـ بل لم يكن هناك شيء أصلًا ...

ـ كيف؟

ـ ما حاولنا أن نحميه من الضياع لم يكن له وجود من الأساس .. كنا في حقيقة الأمر نحاول انتزاع أنفسنا خارج الغياب الذي يسبق كل شيء .. كنا نتوهم أننا نمتلك وجودًا أصليًا في مكان خفي من العالم .. لم يكن الماضي سوى المحو نفسه.

ـ أبي .. لا تهدم كل شيء .. إنني لا أعرف ماذا أفعل ...

ـ ـ وأنا أريد الانتظار حتى ترتعش قشرة الطلاء الصغيرة مرة أخرى ...

ـ أبي .. هل تجدني مخطئة في شيء ما؟ .. هل تعتبرني ابنة غير صالحة؟ .. هل أستحق أن تبتعد عني مثلما هجرت أصدقاءك ومعارفك والناس كلها؟

ـ لم يكن لي أصدقاء ولا معارف .. لم يكن هناك ناس .. وأنتِ لست كمثل أحد.

ـ أنا ماذا إذن يا أبي؟ .. أخبرني؟ .. هل قشرة الطلاء الصغيرة أكثر أهمية مني بالنسبة لك؟

ـ أنتِ ابنتي.

ـ أنت لم تعد تعتبرني كذلك .. لو كنت حقًا مازلت ابنتك قل لي: هل ما أرتديه يُعجبك؟ .. هل تراه جميلًا؟ .. كنت دائمًا أحب ذوقك في اختيار ملابسي .. أخبرني إذن: هل تجدني أنيقة الآن؟ .. إن لم تجيني على هذا السؤال سأؤقن حقًا أنك أصبحت تمثالًا على وشك التحطّم .. لا .. بل جثة مضحكة مثلما وصفت نفسك.

ـ ربما من الأفضل أن تكوني الآن في مكان آخر.

ـ أي مكان يا أبي؟ .. هل لم يعد يعنيك إلى أين سأذهب؟ .. من سأقابل؟ .. ما الذي يمكن أن يحدث لي؟ .. حسنًا .. يسعدني أن أخبرك بأنه لم يعد لدي مكان أذهب إليه .. نعم .. أنا أيضًا لم يعد لدي أحد في الخارج .. لم يعد لدي سوى هذه الحجرة والنظر إليك وأنت تحدّق في قشرة الطلاء الصغيرة.

ـ أرجو ألا تكرهينني بسبب هذا.

ـ كلا يا أبي .. لن أكرهك .. أنا فقط سأفعل ما يجب عليّ فعله .. (تتحرك بعصبية نحو الجدار) سأطيح بهذه القشرة اللعينة من الجدار.

(يصرخ بسعادة قبل وصولها إلى القشرة) ـ أنظري .. إنها ترتعش .. هل رأيتيها؟ .. لقد ارتعشت قشرة الطلاء ثانية .. كنت أعرف أنها ستفعل ذلك .. أنظري .. إنها ترتعش مجددًا .. هل ترين؟ .. إنها تواصل الارتعاش...

(تتوقف ساهمة وهي تحدّق في القشرة) ـ أجل .. أراها .. أراها جيدًا يا أبي .. لكن .. لكن يبدو أنها موشكة على السقوط .. أليس كذلك؟

(بصوت خافت ومتحسّر) ـ نعم .. يبدو ذلك ...

(تصرخ باكية وهي تمسك بيده وتشير إلى القشرة) ـ كلا يا أبي .. أرجوك .. لا تدعها تسقط .. إفعل أي شيء .. لا تترك قشرة الطلاء الصغيرة تسقط يا أبي .. أرجوك ...

(ظلام)

إلى ايرينيوش ايريدينسكي