بعد فترة استغنى عن شرائط الكاسيت وبدأ يسجّل استدراكاته اليومية على
الهاتف المحمول حتى أصبح بعد سنوات طويلة يمتلك مخزونًا هائلًا من الملفات الصوتية
يماثل ذلك الذي يحتوي شرائطه القديمة .. حتى جاء اليوم الذي توقف فيه عن الخروج من
بيته .. اليوم الذي بدأ فيه بالضرورة التوقف عن مقابلة البشر إلا قليلًا جدًا، ومن
ثمّ لم يعد هناك حوار حقيقي بينه وبين أحد .. لم يعد لديه ما يوثّقه فتوقف عن
التسجيل .. أصبح يعيد الاستماع يومًا بعد آخر لتسجيلاته منذ البداية كأنما يسترجع
ذكريات حياة أخرى، مستقلة عن تلك التي عاشها حقًا .. حياة أصلية .. ولم يكن هناك
ما يؤنس وحدته أكثر من تخيّل اليوم الذي سيستمع فيه كل الذين تحدث معهم في تلك
الشرائط والملفات الصوتية إليه .. إلى ما قام بتسجيله بعيدًا عن عيونهم .. كان
يعرف أن هذا اليوم سيأتي بعد موته .. وبالرغم من أنه لم يكن لديه تصوّر منطقي محدد
للكيفية التي ستصل بها التسجيلات إليهم حين يكون راقدًا في قبره؛ إلا أنه كان
موقنًا أن الأمر سيتحقق.
لكن ما لم يكن يتوقعه ـ ولم يكن هناك أيضًا سبب منطقي لعدم التوقع ـ بدأ يحدث .. مات واحد منهم ثم تبعه آخر قبل أن يلحق ثالث بهما .. بدأوا يموتون وهو لا يزال حيًا، يواصل الاستماع إلى الشرائط والملفات ولا يدري ماذا يفعل .. لم يكن بوسعه أن يعطي أو يرسل لأحد منهم التسجيلات التي خاطبه خلالها .. كان يدرك أن استماعهم إلى تسجيلاته يشترط عدم وجوده للأبد .. أن يكون غائبًا على النحو الذي يضمن ألا يلتقي بأي منهم ثانية .. كان يدرك أنه لن يستطيع أن يقوم بهذا وهو على قيد الحياة .. لن يتمكن من الابتعاد كل هذه المسافات وهو ما زال يتنفس .. لم يكن غريبًا إذن أنه حينما أراد الاستماع مجددًا إلى الشرائط والملفات التي تحدث فيها إلى الذين أصبحوا موتى وجد ضحكاتهم مسجّلة بدلًا من كلماته .. لم يكن هناك أدنى أثر لصوته .. ضحكاتهم فقط .. لم يكن غريبًا أيضًا أنه بعد انكماش تدريجي للألم الذاهل الذي تملّكه نتيجة لذلك؛ وجد نفسه يفسر هذا الاستبدال الفادح بأن تلك الضحكات هي ثمن بقائه حيًا .. أن الوتيرة لن تتعطل .. سيتعاقب موتهم، وستبدد ضحكاتهم صوته من التسجيلات تباعًا، وفي كل مرة يحدث هذا سيقطع خلوده خطوة جديدة .. أنه نوع العذاب الذي ليس إلا دليل الألوهة حيث أن من جرّبت كلماته التي لم يسمعها إلا هو الفناء فإنه حتمًا لن يختبره ثانية.
من المجموعة القصصية "ولقلبي سواده الفاتن" ... تصدر قريبًا.