منذ طفولتي بدأ يسيطر تدريجيًا على نفسي هذا اليقين الذي أفسد عمري
كله بأن الحياة تنقسم إلى عالمين أخذ كل منهما مكان الآخر على نحو كارثي وغير
مفهوم؛ فما كان يجب أن أعيشه حقًا هي تلك الدنيا التي توجد في القصص المصورة
وأفلام الكارتون والحكايات الخيالية، أما الواقع الذي أسكنه برفقة عائلتي وجيراني
وزملائي في المدرسة والكائنات كافة هو ما كان يجب أن أقرأه وأشاهده عبر الوسائط
التقليدية المحدودة، فقط من أجل الاستمتاع بالشر كخرافة لن تتجسّد في حياتي إلا
بمعجزة غير متوقعة أو سوء حظ مستبعد .. كحماية شكلية لهذه الحياة من أن تتسلل
إليها جرثومة ذلك الظلام الذي أصبح خيالًا محضًا .. اليقين الذي وقف راسخًا وصلبًا
ضد قبولي للواقع تحت أي مستوى .. الذي حتّم عليّ رفض الاستمتاع بالدنيا كما يبدو
أن هذا ما يقوم به الآخرون أحيانًا، حتى وأنا أمارس نفس الأداءات والطقوس، بل وبينما
أشعر فعلًا بمتعتها .. الذي قدّر لي عدم الانخراط والتوغل والإقدام على مساراتها
وعلاقاتها إلا مجبرًا وراضخًا ومتذمرًا، وبالطبع كخائف يقتله اليأس الذي سبق لحظته
الأولى في الكابوس .. لكن جوهر الألم ربما يكمن في أنني لست يائسًا كاملًا ..
بوضوح اعترافي مازلت متفائلًا لأقصى درجة رغمًا عني، وكل ما أظهره من علامات ثابتة
ومؤكدة لليأس لا ترجع في الحقيقة إلا لقلة الحيلة أو الكسل الناقم .. مازلت خاضعًا
للانتظار المعذِب أن يسترد كل من العالمين مكانه الأصلي، متمسكًا ببقائي مسجونًا
داخل العتبات الضبابية كما اعتدت أن أسمي وجودي طوال الأربعين سنة الماضية .. الحواف
المائعة التي أغادرها معميًا خطوة إثر أخرى نحو العتمة الأخيرة.
من المتوالية القصصية "البصق في البئر" ـ قيد الكتابة.
اللوحة لـ "كارل شبيتزوغ".