"إنني أخاف من نفسي! أخاف من الخوف، من انقباضات ذهني أمام
الفزع ومن ذلك الإحساس الرهيب بالذعر غير مفهوم الأسباب".
تقوم مجموعة "الخوف" لـ جي دي موباسان، ترجمة سحر سمير
يوسف، والصادرة عن المركز القومي للترجمة على تعريف محدد للخوف .. ليس الشعور
الناجم عن التهديدات الواضحة أو المخاطر المدركة، وإنما الذي يسببه على نحو مفاجئ
الوعيد الغامض للأشياء العادية، والتواطؤ المُهلِك للأحداث غير المستوعبة .. الخوف
الذي تُضمر بواعثه التفاصيل المألوفة، والمسالمة بكل ما تبدو عليه طبيعتها
الظاهرية من هدوء ورتابة .. كأنه من جانب آخر الأثر العدائي الناتج عن التجسيدات
المجهولة للظلام المتربّص في العمق المبهم للذات.
"يزعم بعض الحالمين أن البحر يخفي بداخله بقاعًا شاسعة مائلة
للزرقة حيث يتدافع الغرقى مع الأسماك الكبيرة وسط غابات عجيبة وداخل مغارات
بللورية، أما النهر فلا يحوي غير غياهب عميقة موحلة تئن بها الأشياء، وبالرغم من
ذلك فهو يبدو جميلًا عندما يشع بريقًا تحت أشعة الشمس الساطعة، ويصدر هديرًا عذبًا
عندما يرتطم بحوافه المغطاة ببوص يهمهم فيما بينه".
"أما أنا فأعتقد أن القصص التي يهمس بها البوص الضعيف بصوته
الخفيض الخافت تكون أكثر حزنًا من المآسي الكئيبة التي يحدث بها صوت الموج
المرتفع". "قصة: فوق صفحة الماء"..
عند التفكير في الارتكابات المخيفة للأشياء العادية بوصفها واقعًا تم
اختباره بالفعل، وهو ما لا ينفيه إطلاق صفة "الخرافة" عليها؛ فإن هذا
يمثل دافعًا بالضرورة للتأمل في سرد هذه الارتكابات باعتباره واقعًا مختلفًا ..
شكل من الحقيقة المغايرة خضع عند تحويله إلى حكاية لتغييرات أنتج على إثرها خيانة
ما لأصله، حتى مع الرغبة الصادقة، والالتزام المتعمّد بالمطابقة بين الحدث وقصته
.. هذه التحريفات غير الملموسة لدى ساردها هي التي تحاول أن تعيد إلى الواقع
البدائي خبرته الناقصة، أي تكافح دون توقف لاستكمال الحقيقة التي تمثلت في الماضي
بينما تعيد ولادة نفسها ثانية كقصة قصيرة.
كيف لا تنفي "الخرافة" التجربة كواقع؟ .. أستعير هذه السطور
من مقال سابق لي بعنوان "اختصارات حول الفانتازيا" للإجابة على هذا
الاستفهام:
" إن أشكال
السرد الروائي التي تُقدم انحرافات طاغية عن ذاكرة متخمة بأساليب تقليدية وموضوعات
مستهلكة ينبغي أن يكون لها نفس السلطة التي تتمتع بها (أشياء الواقع) حينما كان
مجرد واقع ولكنه لم يعد كذلك بعدما صار وجودًا مفتوحًا، لا نهائيًا، أكثر مراوغة
وتوحشًا من أن تحكمه ثنائيات متعارضة .. الخبرة العجائبية إذن لا تؤثر أو تساهم في
إنتاج الحقيقة وحسب وإنما تخلق التاريخ أيضًا؛ فاللحظة الحاضرة شارك في قرار
(حدوثها) وفي الكيفية التي حصلت بها أساطير وحكايات شعبية وقصص خيالية، فردية وجماعية
مختلفة .. بشكل أكثر تحديدًا يمكن القول أنه لا يمكن إرجاع الزمن إلى ذاكرة دون
الأخرى أو منح القدرة لتجارب على حساب تجارب مغايرة .. يقول (خوليو كورتاثر): (الفانتازي
والملغز ليسا فقط الخيالات العظيمة في السينما والأدب والقصص والروايات. بل حاضر
فينا أنفسنا، في تكويننا النفسي، ولا يستطيع العلم ولا الفلسفة أن يقدما لنا إلا
تفسيرات بدائية وأولية)".
"كنت سأحاول تهدئتهم مجددًا عندما استيقظ الكلب فجأة ورفع رأسه
ومد عنقه إلى أعلى وأخذ يرقب النار بنظرة شبه باهتة ثم أخذ ينبح ذلك النباح الكئيب
الذي يجعل القشعريرة تسري في أوصال المسافرين مساءً في الأرياف، وعندئذ اتجهت جميع
الأنظار إليه، وكان قد بقي ساكنًا ـ واقفًا على أربع ـ متسمرًا في مكانه وكأنه
مذهول لرؤية شيء ما، ثم عاد ينبح مرة أخرى تجاه شيء غير مرئي، غير معروف ولكنه كان
بالتأكيد شيئًا بشعًا حيث كان شعر الكلب قد انتفش". "قصة: الخوف".
ماذا لو كان التغيير مقصودًا؟ .. يتعمّد السارد ممارسة التحريف عند
سرد الواقع، سواء بالحذف أو بالإضافة أو بتبديل الأزمنة أو بتزييف العناصر، أو
بتثبيت النقائض على سبيل المثال .. ليس فقط كعدم ثقة في ما يعتقد أنها الحقيقة،
وإنما أيضًا كترويض قصصي للخوف .. كمجاهدة للفهم أو الهروب أو التفاوض مع الأشباح
التي أكدت وجودها داخل الجسد حينما تركت بصماتها المعلنة خارجه.
"بعد قليل انضم إلينا طبيب، وأخذ يفحص لمدة طويلة آثار تلك
الأصابع في الجثة ثم نطق بتلك الكلمات الغريبة: "كأن هيكلًا عظميًا قام بخنق
هذا الرجل". شعرت عند سماع هذه الكلمات برعدة تسري في جسدي، ونظرت على الفور
للحائط، وبالتحديد لتلك النقطة التي رأيت اليد المسلوخة معلقة بها من قبل، لم تكن
اليد في مكانها، وكان القيد محطمًا ومازال يتدلى على الحائط، فتوجهت نحو جثة
القتيل ووجدت فمه في حالة تشنج وقد أطبق على إحدى أصابع تلك اليد المفقودة. كانت
أسنان القتيل قد قطعت أو بالأحرى نشرت الإصبع عند العقلة الثانية تحديدًا".
"قصة: اليد".
يمكننا التفكير أيضًا في أن ما يبدو واقًعًا للخوف يُعاد كتابته هو في
الأصل تاريخ مخبوء يسبق وجود شخصياته .. ذاكرة متوارية في عتمة ما قبل الماضي
البشري، لا تبدأ أحداثها في الحاضر، وإنما تُكتشف بواسطة الخاضعين لغموضها .. كأن
حضورها المباغت ليس إلا إعادة سرد غافلة لواقع أكثر بدائية من الحياة والموت، يكمن
داخل الموجودات كافة، ويمر عبر عمائها الشامل، كي يشير إلى حقيقته الملغزة بواسطة
الصور الإيحائية المخيفة .. بهذا تصبح القصة القصيرة جهدًا يبذل في سبيل التحرر من
العماء، الذي قد لا يعني أكثر من العثور المستمر على ظواهر متباينة للتوحد بين
التفاصيل المألوفة، والظلام الذاتي .. التوحد الذي يتيح للكائنات أن تتبادل
كوابيسها عبر الحكايات المختلفة، وأن تحل الأجساد والأشياء والأماكن والأصوات
والمشاهد محل بعضها؛ فالنهر حجرة مهجورة، وجثة المرأة العجوز في قاعه يمكنها أن
تستيقظ لتطلب من الكلب الذي اخترقت الرصاصة رأسه أن يمشط شعرها بيده المقطوعة
فيكتشف حين يفعل ذلك أن هذا الشعر للشبح الذي يظهر جالسًا داخل بيته ثم يختفي
فجأة.
"ظللت أتساءل من بعد، لماذا فعلت ذلك؟ لماذا قبلت أن أمسك بذلك
المشط وأنا أرتعد؟ لماذا أمسكت بين يديّ بخصلات ذلك الشعر الطويل، والتي خلفت لدي
شعورًا بتجمد الأطراف كما لو أنني كنت ممسكًا بثعابين؟ لا أدري لِمَ فعلت ذلك؟.
بقي ذلك الشعور بتجمد أصابعي ملازمًا لي، ومجرد التفكير فيما حدث يصيبني بقشعريرة.
قمت بتمشيطها كما شاءت، ولست أدري حقًا كيف أمكنني التعامل مع هذه الخصلات التي
كانت كخيوط الثلج، فأعقصه ثم أحله، ثم أجدله كما يُجدل عُرف الخيل! وفي أثناء ذلك
كانت تتنهد وتتطأطئ رأسها وبدت سعيدة". "قصة: الظهور".
ماذا لو لم يكن هناك تاريخ غير مستوعب يتقدّم على هذا الواقع؟ .. ماذا
لو لم تكن هناك ذاكرة مجهولة تستعرض محتوياتها عبر الزمن؟ .. هنا يكون الخوف هو ما
يُشكّل طبيعة مستقلة لعالم غير مرئي .. يكون السرد صيرورة ملتبسة لحياة تحدث في
بُعد آخر .. عالم يحصل الخوف داخله على نتائج مختلفة عما ينجم عنه في الطبيعة
البشرية .. تحولات ما ورائية تتواصل إثر ما يتم حكيه، كأنها لا تستهدف مصيرًا
يتجاوز استمرارها .. لكننا إذا ما تخيلنا انفصالًا ما بين الخوف وكتابته .. الخوف
بوصفه خطوة اضطرارية للموت، ولخلود العالم غير المرئي في المقابل .. فإن كتابة
الخوف قد تكون بالضرورة وهمًا إجباريًا لمراوغة الفناء، ربما ستفشل الحياة التي
تتكوّن في بُعد آخر من استعماله.
جريدة "أخبار الأدب" ـ 3 مارس 2019