منذ أن سمع فجأة هذا الصوت الرهيب الذي يشبه ارتطام لوح زجاجي هائل
سقط من السماء بأرض غاية في الصلابة، ومنذ أن تأكد أن هذا الصوت قد انبعث داخل
جسده، ولم يسمعه أحد آخر؛ تحوّلت الكلمات التي ينطقها كافة إلى شظايا زجاجية
متناهية الصغر .. يطلب من زوجته أن تصمت قليلًا فتتناثر قطع الزجاج الضئيلة بعدد
الحروف التي كانت ستتضمنها عبارته المعتادة في هذه اللحظة .. يقرأ لطفلته قصة
"سنووايت والأقزام السبعة" .. يسرد لشقيقته العجوز التي تعيش بمفردها
حادثة قتل واغتصاب جديدة قرأها كي يستمتع بذهولها الخائف .. يشرح لصاحبه على
المقهى لماذا يتمنى لو عاد به الزمن عشرين سنة محتفظًا بمعرفة المصير الذي انتهت
إليه حياته بعد تجاوز الأربعين .. يسأل سائق التاكسي ذا الملامح الشائخة إن كان
يمتلك صورًا فوتوغرافية قديمة لشوارع المدينة .. يتحدث في ندوة أدبية عن العوامل
الطفولية التي أثّرت في كتابته للقصة القصيرة .. لا تتوقف الشظايا الزجاجية عن
التدفق من فمه.
كان صوت الارتطام مفاجئًا، ولكنه لم يزرع صدمة .. حتى الدهشة التي
رافقت بداية التدافع لقطع الزجاج الضئيلة من بين شفتيه كانت بسيطة ومؤقتة، خاصة
بعدما انتبه إلى عدم الشعور بألم، أو إنهاك، أو بجرح ما قد نشأ عن هذا الانهمار
المسنون، وفي المقابل لم يسبب غياب الكلمات متاعب للآخرين أكثر من احتياجهم الدائم
لترك مساحة حذر صغيرة بين أجسادهم وفمه حين يتكلم .. كان الجميع يستوعب ما يود أن
يقوله عبر هذه الشظايا الزجاجية، بنفس الآلية المعهودة للإدراك، كأنما ليس هناك
فرق أن يتكلم بلغة أو بأخرى .. على نحو ما كان يجب أن يكون هذا مُريحًا، ولكنه
للأسف لم يكن كذلك؛ فالعبء الأفظع الذي لم يكن هناك طريقة لتجنّبه هو ضرورة أن
يتخلص بنفسه من قطع الزجاج الضئيلة الناجمة عن حديثه، والتي كان يرفض الجميع
مساعدته في لمّها، ثم إلقائها في أكياس القمامة .. كان يتعيّن أن يفعل هذا بيديه،
لأنها شظاياه وحده، وبالضرورة لزم عليه دائمًا أن يزيحها من المسافات التي تفصله
عن الآخرين .. أصبح يحمل معه طوال الوقت حقيبة كبيرة تحوي فرشاة وجاروفًا وأكياسًا
سوداء كأنها أدوات لمهنة يعيش منها، ورغم أنه لم يكن يتحدث كثيرًا أصلًا إلا أنه
قرر تقليل لحظات كلامه، مقررًا أن ما حدث يمكن اعتباره دافعًا قويًا للوصول إلى ما
كان يتمناه منذ زمن طويل أي الخرس التام.
منصَّة (Rê) الثقافيَّة ـ 8 فبراير 2019
اللوحة: محسن البلاسي.