الاثنين، 23 أغسطس 2021

الهواجس المتغيّرة للجمال

زميلة قمحية، تبدو بملامحها، وبتسريحة شعرها كالقطة الوديعة .. كانت تضع توّك، وفيونكات تزيد من اقتناعك بأنها قطة فعلاً .. كانت جميلة، وطيبة، ومؤدبة، وفي حالها على عكس الكثير من بنات الابتدائي وقتها، وكانت زميلاتها يحبونها .. كنت أشعر أنها مهتمة، ومتعلقة بي من بعيد لبعيد .. لا أنسى يا دكتور عندما أجريت عملية اللوّز، واللحمية في الصف الثاني، وتغيبت عن المدرسة أسبوعاً كاملاً .. أرسلت كراساتها، وكشاكيلها مع أمي معلمة اللغة العربية في نفس المدرسة كي أنقل منها الدروس التي فاتتني .. كراريسها كانت جميلة وأنيقة مثلها؛ ملونة، وملصوق عليها زهور، وعصافير، وأشجار، وحيوانات، ووجوه كارتونية .. لكن لم يكن هناك موضوع بيننا، ولم تتجاوز علاقتنا أبداً حدود الزمالة، والكلام العادي، القليل للغاية رغم إحساسي بأنها تحبني، وتكتم حبها مثلي .. لا أعرف يا دكتور لماذا كنت متأكداً أيامها من أن حبي لها أقل من حبها لي، رغم أنه لم يكن واضحاً ما يدل على ذلك سوى المعاملة الطيبة، والرقيقة .. تذكرت الآن أنها كانت تبكي مثل القطط أيضاً بدموع صغيرة، وبصوت خافت يشبه المواء المتقطّع .. كان بكاءها نادراً لأنها لم تكن تُضرب من المعلمات .. كانت متفوقة، ومهذبة، وتنظر لي دون أن انتبه.

الفتاة الثانية كانت بنت أخ، أو بنت أخت ـ لا أتذكر بالضبط ـ معلمة العربي التي كانت تدرّس لي في الفصل، والتي كنت أحبها، وأحترمها جداً .. كانت أصغر مني، ورغم أنها كانت ثقيلة، وباردة أحياناً، لكنني كنت أحب صحبتها بسبب هدوءها، ومسالمتها .. كانت جميلة، ورقيقة، وبيضاء، وصوتها غير مسموع، وشعرت أنني أحبها لدرجة الغيرة عليها من أحد تلاميذ فصلها .. كنا نمشي مع بعض كل يوم من المدرسة حتى بيتي الذي يبعد خطوات قليلة .. نتكلم، ونضحك، ثم نوّدع بعضنا .. عمرنا ما تكلّمنا بصراحة في الحب، وما إلى ذلك لكن كان كل منا معلقاّ بالآخر على قدر الصداقة، وبما لا يتجاوز الشعور المشترك بالبهجة من كلام أمي، وعمتها، أو خالتها بأننا سنكون لبعضنا حينما نكبر .. مشاعر، وحركات طفولية يا دكتور لكن ليس هناك ما يعادل جمالها .. ليس هناك ما يعوّض سحرها الذي انطفأ للأبد.

البنت الثالثة حكايتها حكاية يا دكتور .. باختصار كانت أجمل بنت رأيتها في حياتي .. حتى الآن لم أرى وجهاً ملائكياً يشبهها .. لكنها كانت عفريتة .. شقية، وخبيثة رغم صغر سنها، وضآلة جسمها، وضعف صوتها .. أحببت جمالها جداً، وكانت أصغر مني .. كنت أراقبها طوال الوقت، وأنتهز أي فرصة للتحدث معها في المدرسة، أو بجوارها حيث كانت تسكن في الحارة المجاورة لبيتي .. لا أتذكر كيف بدأت علاقتنا حيث كانت في صف أصغر مني، لكن بدأ ذهني في التأكد الآن من أنها بدأت في لفت انتباهي، والاقتراب مني، والتعلق بي ـ ربما بفعل صدف متوالية ـ إلى أن أصبحت مفتوناً بها .. لن أنسى يوم إحدى الحفلات المدرسية عندما جلسنا في جانب بعيداً عن الزحمة حتى نتكلم .. كانت قد وجّهت سباباً منذ لحظات قليلة لبنت أكبر مني، ومنها؛ فاشتكت لي تلك البنت من أن حبيبتي قليلة الأدب .. تحدثنا في الموضوع، وحبيبتي أصرّت على أنها ليست غلطانة فقلت لها فجأة ( أنا بحبك ) .. طلبت مني بإجرام أن أقول ( أنا حمار ) حتى تقول لي هي الأخرى أنها تحبني .. قلتها بعد تردد فردت عليّ بأنها لا يمكن أن تحب شخصاً ليست لديه شخصية .. حزنت جداً منها يا دكتور، ومن نفسي لأنني كنت أحبها للغاية، وحتى هذه اللحظة أحلم بها .. لازلت حتى الآن أستعيد مشهد وقوفها في طابور الفرن المواجه لبيتي، وضمها ليدها البيضاء الصغيرة، النحيلة في وضع ( البوكس ) إذا رأتني واقفاً في البلكونة، كي تُرسل لي لكمات مُداعِبة في الهواء، وهي تبتسم كوردة ضئيلة، لا يستحقها العالم .. أتذكر أنني رأيتها مرة واحدة فقط لما كبرنا .. كانت في كلية الآداب، ولا أتذكر كيف عرفت أنها دخلت قسم اللغة الفرنسية .. وجدتها أجمل مما كانت، وهي طفلة .. شيء وهم يا دكتور .. بجد لا يمكن أن تتخيل روعة عينيها، وملامحها، وشعرها .. الوحيدة من بنات ابتدائي التي قلت لأمي، وأختي أنني أحبها .. ضحكتا عليّ يا دكتور، وأنا تقريباً توقفت عن الكلام معها بعد ( أنا حمار ).

هؤلاء الثلاث فتيات لسن بالترتيب؛ لأن الطفل في ابتدائي بمقدوره أن يحب مائة بنت في وقت واحد .. ساعات مشاعره ناحية واحدة تعلو فيجد نفسه مركزاً معها دون أن يتخلى عن الباقيات، ثم تسيطر عليه أحاسيسه تجاه واحدة أخرى ـ لأسباب غير مستوعبة ـ فينقل تركيزه إليها، وهكذا .. كان الحب سهلاً، ولا تفسده عوائق، أما معاناته فتستطيع أن تأخذ، وتعطي معها، كما أن التعويض متوفر حولك بلا تعب، حتى وإن تأخر، أو توارى قليلاً.

بالنسبة للمعلّمات لا يخطر في ذهني الآن سوى واحدة كانت تُدرّس لنا المواد الاجتماعية .. كانت جميلة، وجسمها رائع، وكانت عصبية، وتضرب بغباء .. لديها بنتان أخذتا جمالها، وكانت مطلقة .. يمكنني الآن تفسير عصبيتها المبالغ فيها بالحرمان الجنسي الذي كان يُعذبها، لكنني للأسف لم أفكر في شهوتها، ولا في جسمها، ولم أتخيل حكايات، أو مواقف جنسية بيننا إلا في لحظات نادرة، وخاطفة جداً لدرجة أنني أشك الآن في حدوثها أصلاً .. جائز أن هذه التخيلات كانت مقتصرة على القبلات، والأحضان كما يليق بطفل في ابتدائي، واعتماداً على توجيهات التليفزيون .. لهذا يهمني يا دكتور أن أخبرك بأن جمال الوجه كان هو المستحوذ على كامل الاهتمام، والانشغال وقتها لدي مهما كان الجسم جباراّ .. كأن الجسم لم يكن موضوع الانجذاب حتى لو كنت أمتلك ماضياً في التعامل معه ..  ربما كانت الشهوة أيضاً تفرض تعتيماً بديهياً على الجسم وقت الرغبة في خلق صلة حسية مع البنت، أو المرأة.

هل كانت معجزات ما أسفل الرقبة تضيع من ذاكرتي بمجرد الانفصال عنها، ولا تعود إلا مع رجوعي لعجنها؟ .. هل من الممكن أن انتباهي للجسد كان يحتاج إلى إرشاد من صاحبته أولاً حتى لو ينتظر عودتي من المدرسة جسد آخر سيتعرى من أجلي داخل بلكونة مغلقة؟! .. حصار يا دكتور لا تدركه مطلقاً يحتّم على مشاعرك البقاء في حدود جمال العينين، والملامح، والشعر، وطريقة الكلام، والسكوت، والمشي، والضحك، والجلوس، خاصة لو أثبت كل هذا أن صاحبتهم ـ مثلما تردد الأغاني دائماً ـ قادمة من عالم آخر، وأنها ـ مثلما تردد الأغاني أيضاً ـ ليست بشراً مثلنا، وأنها تعيش وسط الملائكة ـ يخرب بيت أم الأغاني يا دكتور ـ إضافة بالطبع إلى الرقة، والنعومة، والمكياج البديع .. لا أعرف من أين أتيت بنموذج الجمال الذي كنت أقيس به، أو كيف تراكمت، وتناسقت المواصفات التي كانت تُطيّر عقلي حين أراها في امرأة، أو شابة، أو طفلة .. دعني أقول لك يا دكتور أن الجمال الذي أقصده قد يكون مرتبطاً بعينيّ كطفل، وتم تثبيت معاييره بآلية وفقاً لكتالوجات التليفزيون، والسينما، والصحافة وقتها، وهو ـ للعلم ـ لم يكن متوفراً في أي من فتيات، أو نساء عائلتي كلياً ..  الذي تغيّر عندما كبرت هو أنا، في حين ظل الجمال كما هو .. لكن هل الجمال نفسه اختلف أيضاً يا دكتور، وما كنت أراه لم يعد موجوداً، أم أن مرحلة التعلّق بالوجه قد انتهت تدريجياً، وبصورة منطقية للغاية، ولم يعد لجماله دور سوى تعزيز، أو تعويض نتائج التركيز على الجسد؟ .. هل هناك عوامل تتحكم في تشكيل الجمال ساهمت بقوة في اندثار ما لازلت أعتبرها أيقونات خاصة مع بداية التسعينيات؟ .. التحقيب مخادع، ومضلل، وسادي .. أعرف يا دكتور .. أعرف أيضاً أنني أحدد الحقب الزمنية وفقاً لمراحل حياتي أنا أكثر مما أحددها وفقاً للتاريخ .. لماذا لا تعتبر أنني استغلها فقط كمجرد لغة أعبّر لحضرتك من خلالها عن مدى الخيانة التي أعيش فيها؟ .. لم يتبق من تلك الأيقونات سوى أشباح، ومسوخ .. إنسى عينيّ كطفل الآن يا دكتور، وحاول استرجاع الشوارع، وإعادة تأمل الصور الفوتوغرافية، ومراجعة الأفلام، والمسلسلات، والأغاني، والإعلانات التليفزيونية، وشرائط حفلات الزفاف .. لكن في نفس الوقت لماذا لا يندرج تفكيري هذا في نطاق الحماية العادية بمعيار يُفاضل، ويُفرز للفصل بين الجمال، والقبح وفقاً لذوق شخصي شكّلته سنوات الماضي؟ .. أياً يكن السبب سواء نابعاً من النمو الفردي، أو من تبدّل العالم نفسه فإن لي الحق في الحسرة .. أحياناً يلح عليّ الموضوع جداً يا دكتور تحت تأثير ذكرى، أو مشهد، أو حدث؛ فأبحث على الانترنت عن أحد تكلّم، أو كتب عن ما عشته في الثمانينيات، ليرسم ـ بواسطة التناقض، والتعدد، والتشابك ـ إشارات ـ غير حاكمة ـ لمقاييس جمال كنت ـ ولازلت ـ أراها متجاوزة طبقياً ـ مهما كانت الإغراءات التي تريد إجباري على الاقتناع بأن تلك نظرة بديهية لابن الطبقة الوسطى .. عندي من الدلائل في المدرسة، والحي الذي كنت أسكنه، ومن البيوت، والشوارع، وكل الأماكن الأخرى ما يؤكد تصوراتي، أو على الأقل يمنع استبعادها .. أي شخص في أي زمن، وفي أي مكان يمكنه ـ وسيكون صادقاً طبعاً ـ أن يشرح لك يا دكتور كيف كانت هناك مخلوقات نورانية بحق تعيش على الأرض في طفولته، وأنها صعدت إلى السماء، وتركت خراباً ثقيلاً، معذِباً حينما كبر .. عندك مثلاً؛ منذ بداية صناعة السينما، وأفلام كل مرحلة تتحدث عن الانحطاط، وضياع القيم، وفساد الأخلاق في زمنها بعكس الأزمان المثالية الفائتة .. رثاء كوميدي، متواصل لعالم لم يعشه أحد .. يمكن لأي شخص أن يتكلم أمامك حتى يموت أحدكما أولاً عن التأثيرات الاجتماعية، والثقافية التي تتحكم في ( الانهيار ) .. لماذا يُفرض على الواحد إذن أن يتناول الأمر بصيغة أفضل، وأسوأ؟! .. لا شيء يا دكتور اسمه الجمال الثمانيني الأعلى مكانة من الجمال التسعيني، وربما الأقل مرتبة من الجمال السبعيني، وهكذا .. تحدث كطفل عن نفسك، وهذا ما أفعله الآن .. عن حياتك دون تعميم، ودون تشييد سياقات، أو تعيين أنساق .. كنت أنظر إلى البنت الجميلة في طفولتي كأنني أنظر إلى سحابة ملونة .. نسيم غافل .. برودة معطرة .. حينما تقع نظرتي الآن فجأة يا دكتور على طفلة، أو بنت، أو امرأة دون أن استقبل جمالها بشبقٍ مباشر، وإنما أراها أنثى نادرة من جميلات الثمانينيات المنقرضات حتى لو يمشي حولها كثيرات أجمل، وأسخن منها .. لماذا هي تحديداً يا دكتور؟! .. هل لأنها تطابق النموذج المستقر في طفولتي الذي لا ينفع شرح مواصفاته؟ .. لو استطعت شرحها لربما وجدتها تماثل معايير جمال أخرى، أو تطابق ما يعتبره آخرون مقاييس جمال عامة، ولهذا فهي لا تكتسب أي قداسة أكثر من كونها تنتمي لي فحسب .. هل لأنها صنعت لحظة حنين مبهمة، غير متوقعة، أحالتني لفتاة أخرى من الماضي لا أتذكرها؟ .. الجمال هواجس متغيرة يا دكتور؛ قد تضطرك أحياناً لتصديقها كيقينيات ثابتة حتى تحصل على أدوات مناسبة لهدم أوهامها، ومبالغاتها .. عيناك اللتان يلتهم الوعي المتزايد طفولتهما .. الوجود المستقل لجمال أنثوي مرهون بتاريخك الخاص، الذي يحكمك الميل أحياناً لإلصاقه بزمن محدد كي تعيد خلقه كحالة عامة تختزل فيها كل ما هو خارجه، ولم يعد له وجود في حياتك الآن .. الجمال الذي ينبغي أن يموت في داخلك عند نقطة زمنية معينة حتى تفرح بالجروح الغائرة لافتقاده .. الانتهاز التلقائي لأي أثر محفّز، أو الاستجابة المتوسلة لأي رائحة عابرة من الأيام القديمة .. محاولة فهم الرتوش، والتحسينات القشرية، والمعالجات السطحية ـ أو الجذرية ـ من حقبة لأخرى لجمال يظل على حاله، ولا ينتهي .. الامتزاج غير المنضبط بين هذا، وذاك .. لا وجود لشيء اسمه الجمال يا دكتور.

من رواية “الفشل في النوم مع السيدة نون” ـ دار الحضارة 2014