مثلما يقوم المحقق باصطياد الأدلة الكاشفة من بين المعلومات التي
يمتلكها حول قضية معينة؛ يمكن لقارئ القصة القصيرة أن يؤدي أمرًا مشابهًا عن طريق
انتزاع عبارات محددة خارج التفاصيل والمشاهد التي تتضمنها القصة .. في قصة
"إبريق العرس" لفيليب سميث على سبيل المثال، والتي تدور حول راوٍ يقرر
قضاء أمسية السبت برفقة جدته في المنزل بعد خروج أمه وشقيقته؛ في هذه القصة يمكن
التوقف عند المقاطع الآتية:
"ناولت الجدة الإبريق الزجاجي، وعدت إلى مقعدي ممددًا قدميّ أمام
المدفأة، وقالت جدتي: هذا إبريق عرسي، ولقد كان على المنضدة يوم زفافي مليئًا
بالروم".
"وسط كل هذا اتجه صبي صغير نحوي وهو يحمل شيئًا ما في يده
اليمنى، سلمه لي قائلًا: لقد أحضرت هدية لك، هل تخمن ماذا كانت؟ لقد كانت ساعة
ذهبية يملكها تومي ويعتز بها كثيرًا".
"كما ترى كان لي حبيبان .. تومي وإدوارد، وكان عليّ أن أختار
أحدهما .. كان تومي شابًا رقيقًا، ومع ذلك تزوجت جدك".
"في يوم عرسي أرسل لي تومي هدية هي أغلى ما يملك .. هل تعرف ماذا
فعل بعد ذلك؟ لقد ذهب إلى حديقة أمه وشنق نفسه على شجرة التفاح الكبيرة".
"تدحرج الإبريق الزجاجي من يدها إلى حجرها .. كانت النيران تومض
تحت الرماد، وبينما تطايرت شظية أو شظيتان حملهما الدخان عاليًا إلى
المدخنة".
ومثلما يعمل المحقق على تحليل الأدلة المقتنصة؛ يقوم القارئ بتأويل العبارات
التي عيّنتها بصيرته:
"الإبريق: رمز احتفالي، يشير إلى العرس تحديدًا .. الساعة التي أرسلها
الحبيب إلى الجدة يوم زفافها هو وقت استثنائي، زمن خاص، موعد مرتقب .. الجدة لا
تذكر سببًا واضحًا لاختيارها جد الراوي، كان يكفيها فعل "الاختيار"
فحسب، بما يعني أن القرار كان في يدها، أو بدا كذلك حينئذ .. انتحار تومي بعد
إرساله الساعة للجدة يقرر بأن الوقت الاستثنائي أو الزمن الخاص لا يقع داخل
الحياة، كان الموعد المرتقب ينتمي إلى الموت .. تدحرج الإبريق الزجاجي من يد الجدة
إلى حجرها ثم الصمت الوصفي لوضعيتها يدل على موتها، العرس المؤجل، زفافها المنتظر
إلى تومي أو الحبيب المنتحر الذي بدأ هذا الاحتفال في اللحظة التي أرسل خلالها
ساعته الذهبية إلى الجدة، حيث حياة المرء أشبه بنيران تومض تحت الرماد، تتطاير في
النهاية مع الدخان ثم تتبدد".
ومثلما تضيء الأدلة التي تم اصطيادها سائر المعلومات الأخرى للمحقق؛
تكشف العبارات التي انتزعها القارئ بقية تفاصيل ومشاهد القصة:
"التماع ضوء القمر عبر التلال الذي يُظهر سحب دخان شاحبة تتصاعد
من حديقة أحدهم .. أم الراوي ذات الستة والأربعين عامًا، الأرملة منذ خمس عشرة
سنة، التي تخرج مع صديقها بالرغم من رفض الجدة واستنكارها لتلك العلاقة .. أخت
الراوي التي تخرج هي الأخرى برفقة صديقها .. فتاة تجري عبر البوابة الأمامية لأحد
المنازل .. إعداد الجدة للفحم، وإشعالها لنيران المدفأة" ...
كأنما كل حياة / نيران تحت الرماد تتماثل، تتوارث، تتدافع دائمًا نحو
المصير نفسه كشظايا تتطاير ثم تتلاشى .. كأنما النيران والرماد "أو الذاكرة
التي لا تزال مشتعلة تحت العمر الذي أصبح خامدًا" يسبقان حياة الفتاة التي
تجري عبر البوابة الأمامية لأحد المنازل، ويجهزانها للاختفاء مع سحب دخان في
حديقة، أو عبر مدخنة مدفأة.
ومثلما يعتبر المحقق أن النجاح في حل القضية ليس غايته الوحيدة، وإنما
الحصول على مزيد من الخبرة الاستفهامية التي يطاردها وعيه طوال الوقت؛ يقتفي
القارئ أثر التساؤلات الممكنة داخل القصة:
"هل الشفقة تجاه الجدة هي التي دفعت الراوي حقًا للبقاء معها في
أمسية السبت؟ .. هل كان يشعر على نحو غامض بأنها تخبئ سرًا قديمًا، وأنه من الممكن
في الليلة المناسبة أن تبوح له بذلك السر حينما يكونان وحدهما في البيت؟ .. هل
ماتت الجدة بالفعل أم أن الراوي شيّد هذا المشهد ذهنيًا بوصفه الختام اللائق
بالحكاية التي كشفت عنها الجدة؟".
(من مقرر الورشة القصصية للكاتب ممدوح رزق)
موقع "صدى .. ذاكرة القصة المصرية" ـ 4 يونيو 2020