منذ شهر ونصف تقريبًا كتبت إحدى مستخدمات تويتر: "حد يعرف كاتب
أو صحفي معاصر معروف وفكره محترم من قاطني الدلتا؟" .. أجابها قارئ مشكورًا:
"ممدوح رزق طبعًا" .. لم تكن سعادتي بهذه الإجابة مستقلة عن سخريتي من
السؤال نفسه؛ فهو في اللحظة التي كان يُطرح فيها؛ ثمة استفهام مقابل كان يثبّت
بالضرورة عدم منطقيته: "حد يعرف كاتب أو صحفي معاصر معروف وفكره محترم من
قاطني القاهرة؟" .. الاستفهام الذي سيتم سحقه فورًا بدهشة استهزائية عامة،
بالضبط مثلما يستفسر شخص ما عن إذا كان أحد يعرف ثقبًا مر منه شيء من قبل! .. لم
تكن إحدى مستخدمات تويتر هي من كتبت ذلك السؤال إذن، وإنما تاريخ ما يُسمى بالمركز
ذاته، ولم تكن سعادتي بإجابة القارئ إلا تقويضًا للخراءات المحتالة الأنيقة التي
يتأسس عليها هذا التاريخ .. كنوع من الانسجام العفوي مع تلك اللحظة تذكرت حينها سطورًا
من المقال الأول لـ "سيرة الاختباء" عن طلاب ورشتي القصصية:
"دائمًا ما أفكر بعد انتهاء هذه المحاضرة في أن هؤلاء إذا ما
استمروا في الكتابة، وتزايدت حدة (الجموح) في قصصهم بمرور الوقت، وتضاعفت
لامبالاتهم تجاه السائد والمضمون، وظلوا مقيمين في هذه المدينة بعيدًا عن مكان قد
يمنحهم الوضعية الملائمة للحماية والتعويض؛ فإن هناك ثمنًا بالتأكيد سيستمرون في
دفعه .. إنه أمر أشبه بقانون قطّاع الطرق" ...
كان ذلك السؤال مثالا ناصعًا لما يعنيه "قانون قطاع الطرق"
.. التواطؤ والاندماج بين المتون المتجذرة: "الشهرة" .. "الفكر المحترم"
.. "المركز" .. على جانب آخر لا تؤدي الأساليب الأزلية الشائعة في
الدفاع عن ما يُسمى بـ "الإقليم" إلى أكثر من التكريس والحماية لتلك
الفقاعة الخارقة التي حددت مواقع "المدن الأخرى" بكونها "في
الخارج" .. يكافح "قاطن الدلتا" ـ بتعبير مستخدمة تويتر، وكما أدركت
لدى الكثيرين منهم عبر سنوات طويلة ـ للانتماء إلى المركز بوصفه ارتقاءًا مستحقًا،
كأنما المشكلة لديه تتعلق بالمسافات، وليس بالإطار المعرفي نفسه الذي يقرر تلك
المسافات ويضمن توالدها .. ببساطة؛ يسعى جاهدًا للمشاركة في لعبة
"القيمة"، لا تخريبها.
"يحلل الكاتب الفروق التأسيسية بين المدينة المركزية وهوامشها،
كيف تنشأ علاقات القوة بين المؤسسة وأطرافها، ومسارات تطورها، كيف تتشعب وتتداخل
وتتكاثر خارج أطرها التقليدية، كما يوضح أيضًا كيف تكمن السلطة المركزية في اللغة
التي تُستعمل لإنكارها؛ حيث تتكفل الضفادع الملتهبة بإقرارها عن طريق الاستخدام
المتواصل لتلك السياقات اللغوية الساذجة، التي ينبغي بحسب تأويلها المعتاد أن تكون
"مُرهبة" لذلك الذي يقوم بتقويض هذه السلطة".
تتناول هذه العبارات من متواليتي القصصية "البصق في البئر"
كتاب "الضفادع الملتهبة" للكاتب الفرنسي هنري لي روكس، الذي قام ندا
القلوط بترجمته رغمًا عنه؛ تتناول الحيل الخرقاء لأطفال المتن، أو "الضفادع
الملتهبة" كما أطلق عليهم مؤلف الكتاب، الذين يحاولون دائمًا بعفوية محمومة
الدفاع عن المركز أو "الجغرافيا الثقافية" التي عيّنت أماكنهم، ورسمت
مدارات متكاثرة لخطواتهم في مواجهة المقاصد الهادمة لما يدّعيه ذلك المتن ..
الاستهلاك البائس للغة الذي يمارسه "قطاع الطرق" طوال الوقت فوق أسوار
مدينة غارقة.
تمثل
إرادة "الاختباء" رفضًا متهكمًا للهويات الاستباقية التي يفرضها المركز
كماض متأصل من الانتقاءات المزيفة، وكسلطة خطابية تُشكّل "الظهور"
الأدبي ـ سواء داخل "إقليم" أو خارجه ـ بحسب اليقين الذي يدعم هيمنتها
في الوعي العام، حيث لا يثير سؤال كـ "حد يعرف كاتب أو صحفي معاصر معروف
وفكره محترم من قاطني الدلتا؟" استنكارًا جماعيًا إلا في أحلام اليقظة.
موقع "الكتابة" ـ 1 يونيو 2020