أنتج فيلم “عشرة على عشرة” عام 1985 ومنذ سنوات طويلة وأنا أعيد مشاهدته مرارًا باعتباره كاشفًا لاحتمالات الحياة التي كنت تعيشها مع أصدقائك في الثمانينيات .. الحياة التي لم أكن جزءًا منها حين حدثت وعجزت عن امتلاكها بعد أن نزَفَت كل دمائها .. كان عماد رشاد يحمل اسم (علاء) وهو اسم أحد أصدقائك الذي لم أعرف صاحبه إلا بعد موتك بخمسة وعشرين عامًا .. كان هذا الاسم مرتبطًا لدي ومنذ تكوّن وعيي الطفولي بالشاب المتحرر الذي يقبض رفقة أصدقائه وصديقاته على المتع الماجنة للمدينة وخارجها، ولابد أن تردد الاسم على لسانك في لحظات بالغة الاهتراء بوصفه صديقًا حميمًا ومقربًا، وبين أفواه أسرتي كواحد من الشياطين التي بعت روحك لها كان سببًا في تشكيل تلك الصورة .. ظل الحصول على صديق يحمل اسم “علاء” حلمًا سريًا لي بعد تجاوز مرحلة الصبا، وظل عدم النجاح في تحقيق ذلك بمثابة ملامسة خشنة لفراغ زهرة ناقصة داخل الحديقة السرابية لصداقاتي .. أتذكر أنه في مرحلة الجامعة تعرفت بواسطة صديقي لي على واحد من أصحابه يحمل اسم “علاء” .. لم يكن متناغمًا مع الصورة القديمة لاسمه في ذاكرتي وإن بدا في غاية القرب من إطارها .. لكن لأسباب قدرية تقليدية تواطأت مع إلزامات معينة في طباعي الشخصية لم يكن هناك ما يسمح لأن نصبح أصدقاءً بشكل فعلي فاكتفت علاقتنا بالترحيبات العابرة في مصادفات الشوارع والمقاهي .. مع ذلك كنت أؤدي تلك المصافحات الودودة ـ على بساطتها وندرتها ـ بامتنان هائل وسعادة خفية .. كنت حينما ألوّح له بتحية صامتة أو ألقي عليه سلامًا مقتضبًا إذا ما تقابلنا في مكان ما أشعر باعتزاز ذلك الذي أدرك غنيمة شاقة بعد زمن طويل من مطاردتها، حتى أنني كنت أردد متباهيًا بيني وبين نفسي حينئذ “لدي صديق اسمه علاء”، متمنيًا لو كان بمقدوري إخبار كل من يعرفني بهذه المعلومة.
أتذكر أنه كان على حائط غرفتك نفس بوسترات فريق ABBA والتي ظهرت في حجرة “علاء” بالفيلم .. صورة “آلان ديلون” أيضًا .. زينة الأسقف في حفل عيد ميلاد “نانا” لابد أنها تذكرك بفروع الزينة التي علقتها بنفسك في أحد أعياد ميلادي في الصالون والصالة .. الرقص على نغمات Je T’aime,…Moi Non Plus في حفل عيد الميلاد .. تصفيفة شعر وشارب وفتحة قميص “حاتم ذو الفقار” ومتعلقاته الذهبية: السلسلة والانسيال والخاتم والساعة أو ما يمثل نمطًا مظهريًا كلاسيكيًا للشبق الذكوري في تلك الحقبة والمتكرر لدى أكثر من صديق لك في صورك المتآكلة .. الموسيقى الراقصة لأغنية داليدا Laissez Moi Danseمع الضوء الأحمر الغائم في سهرة “الشلة” .. الثمانينيات التي تبكيني الآن كأنها تُسكِنني الروح الأكثر ضراوة للبكاء .. مخملية الجحيم الرائقة بالبريق المشؤوم .. بعطرها النفّاذ المُسكر، المتدفق من آماد وأغوار الليالي الكرنفالية المغامِرة في دفء الفناء .. بالصفاء الطفولي الغافل والمشرق لنهاراتها الوردية القاتلة .. أرأيت ما الذي تفعله الثمانينيات باللغة؟.
أخبرني أنها مجرد صدفة يا مجدي! .. أخرج من مركز طباعة بشارع المختلط ثم أستوقف تاكسيًا للتوجه إلى المؤسسة التي أعقد فيها ورشتي القصصية بشارع الجلاء .. سائق التاكسي بين نهاية الخمسينيات وبداية الستينيات، بشعر أبيض خفيف ولحية بيضاء كثيفة وملامح فيها شيء من الغلظة .. يبدأ حديثًا مملًا معتادًا لا أتذكره عن موقف تعرّض له منذ وقت قصير مع أحد الزبائن يكشف عن مدى “التدهور الأخلاقي” لشباب هذا الزمان .. أجيبه بكلمات التعاطف الروتينية المتحفظة محاولًا إغلاق الطريق الذي قام بفتحه .. لكنه يستمر في الكلام ليشرع ـ كما يحدث دائمًا ـ في تمرير شعوره الدائم بالاختناق والضجر من الهموم المتزايدة .. التي لا يحصل على هدنة بسيطة منها إلا عند زيارة أمه في “ميت حدر” .. هنا بدأت بالطبع في مساعدته على تمهيد طريق الحديث بيننا فأخبرته بأنني أيضًا من “ميت حدر” .. سألني بلهفة منهكة عن مكان بيت أسرتي وحينما أجبته طلب مني أن أخلع نظارتي الشمسية .. فعلت ما طلبه ليتملّى في ملامحي ثم رأيت رجفة خاطفة تسري بين تجاعيد وجهه وهو يسألني: إنت أخو مجدي؟ .. قلت بيني وبين نفسي بابتهاج غير مصدّق: “يا للشيطان” .. نعم أنا أخو مجدي .. أبعد بصره عن ملامحي وظل محدقًا في مسار عربته وسط الزحام بينما دموع صغيرة هشة تتقافز سريعًا من عينيه .. تفحصت ملامحه مجددًا بأقصى ما لدي من تركيز محاولًا رسم صورة ذهنية لهذا الوجه قبل أربعين سنة .. تسمرت نظرته نحو الأمام وهو يتمتم مرددًا بلوعة خافتة “يا حبيبي .. يا حبيبي” .. لم يكن لتلك الملامح أثر لا في صورك القديمة ولا في ذاكرتي .. طيبت خاطره بعبارات المواساة المألوفة وأنا أتجهز للتعامل معه كغنيمة .. كصيد وقع في شباكي بمحض إرادته .. أخبرني وهو يجفف دموعه بأنني أشبهك جدًا، وأنه كان صديقًا مقربًا لك فضلًا عن كونه جارًا كان يسكن نفس المنطقة .. تبادلنا رقمي هاتفينا وسيارة الأجرة على وشك الوصول إلى مقصدها .. وكأن سخاء لحظة لقائنا أراد أن يكتمل في نهايتها؛ إذ لم يكتف بحصول كل منا على رقم الآخر بل وأصر على تحديد موعد لمقابلة بيننا .. وفّر صديقك عليّ بهذا الكرم أن أنتظر اتصالًا حتميًا كنت سأتعمّد ترك مسافة زمنية معقولة بين هذا اليوم وبين إجرائه .. اخترت مكانًا منعزلًا مناسبًا يمكنني فيه انتزاع ذاكرته معك دون تطفل من أحد .. غدًا، الجمعة، الساعة السادسة مساءً، بمقهى “العبور” في السكة القديمة.
أخبرني أنها مجرد صدفة يا مجدي! .. قبل الموعد بربع ساعة كنت جالسًا في المقهى ومعي مجموعة من الصور الانتقائية التي تضم أكبر عدد من وجوه أصدقائك .. لم أكن في حاجة لمراجعة المخطط الذي سأسعى لإدارة الحوار بيننا من خلاله .. أعرف كيف أتحدث كأن ما يدور كلامنا حوله أمر عادي، ليس هامًا بقدر السعادة والشرف اللذين حصلت عليهما بالتعرّف على شخص مثله .. أعرف كيف أتكلم عن الماضي كموضوع عام من الأفكار والمشاعر المسالمة، دون الإصرار على اقتحام تفاصيل محددة، وأن أتركه يبوح بما يود هو أن يكشف عنه بلا مقاطعة أو لامبالاة أو تذمر .. أعرف كيف أتدخل في اللحظات المناسبة بسؤال، معلومة، إشارة كأنما أشارك بألفة بديهية في استعادة الذكريات، ولكن على النحو الذي يكون تحريضًا للآخر على “الاعتراف” ولو بشكل ضمني بما أريد أن أسمعه .. أعرف كيف أعرض الصور أمام عينيه، كأنها فقط عناصر وأدوات ضرورية لجلسة الحنين، ولكن بالطريقة التي تجعلها في باطنها مواجهة منتشية مع ما قد يجبرك أن تتعرى أمامه كفرصة أخيرة للنجاة من لعنته.
جلس صديقك أمامي يا مجدي .. شاهد الصور وبدا كأن ملامحه في عينيّ قد ازدادت غلظة .. لا كتحوّل عدائي في حد ذاته وإنما كإمعان في المواراة التي لا تستطيع أن تخدشها أي براعة كلامية لإجباره على الفضفضة .. كأن ملامحه ـ بكل ما تختزنه من كوابيس مجهولة ـ كان يجب مع تطلعه إلى الصور التي لا يظهر فيها وجهه أن تصبح غطاءً سميكًا، يخفي بمرارة متكلسة ركام المرايا التي تعكس المشاهد الأصلية لتلك الليالي البعيدة، الميتة بين الأطر .. كنت أتوسل في صمت لعينيه وهما تتأملان الوجوه وتبكيان من خلف نظرة منطفئة، جامدة، مذبوحة بالخذلان .. فعلت كل ما أعرفه لكي أستخرج الأحشاء التي تخصني من “الحسرة على الأيام الجميلة” .. “مجدي الشهم والطيب وأعز الأصدقاء” .. “كنا في الصيف نسافر أحيانًا جمصة أو رأس البر” .. “والداك كانا يحبانني ويعتبرانني أفضل أصدقاء مجدي” .. “قضينا الأيام كلها في المرح البريء الذي لم تعكره الهفوات البسيطة للبعض” .. دون جدوى يا أخي .. كأنني أنا الذي جئت للاعتراف أمامه بابتسامتي التي يتصاعد مزيج ارتباكها وخيبة أملها لحظة بعد أخرى .. كان يبدو بإصراره البارد على الاكتفاء بأن الماضي أفضل من الحاضر وحسب، وأنه كان نقيًا من المساوئ اللاأخلاقية عدا استثناءات غير مؤثرة لأصدقاء ليس من بينهم أنت ولا هو ولا أي أحد ممن يظهرون في الصور، وأن حياته الشخصية البائسة المضجرة تستحق أن يحكي قصتها بدلًا من أي سيرة أخرى؛ كان يبدو كأنما يتحدث عن ذكرياتي أنا يا مجدي .. كنت أمد له أطراف الخيوط فيعيدها إليّ مشانق بالغة الخشونة والمتانة .. ألهذا لم يظهر في صورك؟ .. هل ينبغي أن أصدّق أنه حقًا لا يعلم؟ .. كنت أرفض الإقرار بذلك، وكان يبدو أنه لن يتكلم صراحة حتى لو استمرت هذه الجلسة في المقهى ألف عام .. لن يمد ذراعيه لالتقاطي وهو يراني أسقط من السماء المعتمة لذكرياتك .. لكنني لم أخرج من هذا اللقاء دون انتصار .. أشار صديقك إلى “علاء” داخل إحدى الصور .. كان أثناء سرده لما أعرفه أصلًا، وبينما كان يُخبرني بأسماء بعض الشخصيات التي لم يكن لي علم بها في بعض الصور؛ وضع إصبعه بجانب وجه أحد أصدقائك وقال أن اسمه “علاء”، بل وأخبرني أيضًا بالمكان الذي لا يزال يعمل به حتى الآن .. كانت الصورة في مطعم “مارشال المحطة” حيث كنت تجلس أنت و”علاء” وصديق آخر وتشربون البيرة وتدخنون المارلبورو .. هذا هو “علاء” إذن .. لهذا لم تكن الابتسامة التي ودعت صديقك بها عند عتبة المقهى يائسة تمامًا.
لم يحتاج “علاء” أكثر من ثوان قليلة ليعرف أنني أخوك .. رآني أسأل عنه أحد الموظفين بالشركة التي يعمل بها عند بوابتها المطلة على شارع البحر .. تقدّم نحوي بأعوامه التي تقترب من الستين، ثم تمعّن في ملامحي بقوة، وبالرغم من أن النظارة الشمسية كانت لا تزال فوق وجهي إلا أنه قال نفس العبارة لكن هذه المرة كيقين لا كسؤال: “إنت أخو مجدي” ثم احتضنني .. سألته إذا كان وقته يسمح للجلوس بعض الوقت في مقهى “سوليتير” المجاور للشركة .. بعد لحظات كنا نجتاز باب المقهى في ظهيرة أصبحت بشكل متوقع أكثر بُعدًا بكثير من اليوم الثمانيني الذي التقطت فيه صورتكما داخل “مارشال المحطة” .. ومثلما فعلت مع صديقك الذي قابلته في مقهى “العبور”؛ رحت أتلصص على ملامحه كأنني أريد أن أعرف كيف كانت ستصير ملامحك لو امتدت بك الحياة إلى هذا العمر .. كأن ملامحك ليست إلا خليطًا من ملامح أصدقائك، أي أنها اعتمدت في تكوينها على ما فعلته وجوههم بوجهك الأصلي .. ليست وجوههم وحدها قطعًا ولكن ما أصبح يشكل صورتك أثبت ثماثلًا بين الوجوه كافة: أصدقائك .. عائلتك .. جيرانك .. حتى الغرباء الذين لا تعرف أسمائهم .. حتى الغرباء الذين لم ترهم قط .. وإذا كان من السهل استنتاج أنني شقيقك بمجرد النظر فذلك ليس راجعًا إلى تشابه الملامح بيننا وإنما إلى تشابه الملامح التي اجتاحتها.
تكرر السيناريو ذاته يا مجدي: نفس الطريقة في التطلع إلى الصور (حتى تلك التي يظهر فيها منذ أربعين سنة) .. نفس غلظة الملامح .. نفس المرارة المتحجرة في العينين التي تخفي أسرار الماضي باستماتة .. نفس الكلام الرومانسي اللعين المتكرر .. نفس الحكي لمواقف وأحداث يمكن أن يسردها كل الجالسين حولنا على الطاولات، وكل العابرين داخل ميدان الهابي لاند في تلك اللحظة، وكل سكان المنصورة الأحياء والأموات .. الشيء الوحيد المختلف أن “علاء” كان تعمّده للاختباء أكثر وضوحًا .. كانت رغبته في عدم البوح مفضوحة بصورة تفوق تلك التي أظهرها صديقك سائق التاكسي في مقهى “العبور” .. كان ذلك التحفظ متسمًا بمسحة خبث مكشوفة .. أثر معلن من الدهاء القديم الذي لا يمر في الكلمات وإنما في النبرة المائعة، في النظرة المتأرجحة، في الابتسامة الخفيفة التي تحتجز طوفانًا من الضحكات عند التحدث بجدية وحياد.
لكن ـ مرة أخرى ـ في مقابل أنني استمعت إلى ما أعرفه بالفعل؛ حصلت على أسماء ومعلومات جديدة، قليلة جدًا، وباهتة للغاية، لكن من يعرف؛ ربما تصلح مستقبلًا كقرابين في رحلتي إليك .. مستقبلًا! .. نعم، هي مجرد صدفة يا مجدي .. أن أستقل تاكسيًا يقوده أحد أصدقائك الذين أنقّب في كل مكان عنهم بعد خمسة وعشرين عامًا من موتك .. أن يرشدني هذا الصديق إلى مكان “علاء” فأعثر عليه وأتكلم معه عنك وعن الثمانينيات وبقية الرفاق: من لا يزال حيًا، ومن أصبح ميتًا، ومن هاجر، ومن اختفى، ومن تبدلت حياته من حال إلى حال .. هي مجرد صدفة لأنه ليس هناك فرق بين أن يحدث هذا أو لا يحدث .. لأن الماضي جعلهم نسخًا قد تختلف في كل شيء ولكنها تتفق على حرماني منك .. على منعي من الوصول إليك .. كنت أحّدق في عيونهما عسى أن أرى الذكريات تعيد نفسها كما جرت تمامًا .. أن أكتشف في هذه العيون كل الكلمات والأفعال والأصوات والروائح والإيماءات التي دُفنت داخل الصور .. لكن اليأس كان كاملًا منذ البداية يا مجدي .. فقط يدمغ نفسه .. لا يتوقف اليأس عن دمغ نفسه بواسطة ما كان يتحتم عليّ تصوّره بأنه ليس مجرد صدف.
جزء من رواية “نصفي حجر” ـ قيد الكتابة.