بدءًا من الغد أريدك أن تستمع إلى الموسيقى منذ الصباح الباكر .. إن
لم تكن موسيقى ناعمة فاستمع إلى موسيقى الجاز، وإن لم يكن من ذاكرة اللابتوب فمن
إحدى محطات الإنترنت ولتكن Jazz Radio أو Jazz 24 أو 1.FM .. الموسيقى الكلاسيكية ستكون
في نهاية الأسبوع، وسيشتمل الوقت المخصص لها على تنويعات مشبعة .. أريدك أن تتناول
إفطارك فوق هذا العشب، بين هذه الزهور، وأمام هذا البحر .. بعد أن تنتهي طفلتك من
اللعب مع الطيور والفراشات والغيوم؛ أريدك أن تجلس معها، وبرفقة قطتكما الصغيرة
تحت هذه الشجرة كي تملأ بالونات الحوار للقصة المصورة التي رسمتها، وجعلتك أنت وهي
والقطة تشاركون بطوط والأولاد وعم دهب في مغامرة بحرية تشبه تلك التي كانوا
يخوضونها أيام الثمانينيات .. في المساء، وبعد أن تشاهد فيلمًا من الكلاسيكيات
الملائكية؛ أريدك أن تستقل مع صديقيك هذه السيارة المماثلة لتلك التي كانت لدى
لوريل وهاردي في مسلسلهما الكارتوني، وأن تتوجهوا لمراقبة البيت القديم الذي
تعلمون أن أعضاء جماعة سرية يجتمعون فيه، ويمارسون طقوسًا سحرية مخيفة، وأنهم
سلالة لأتباع عقيدة غامضة ظهرت منذ قرون، ويستعملون مخطوطات ووثائقًا عتيقة عن
عوالم سرية مختبئة تحت بيوت وشوارع المدينة، تقود إلى خارج الزمن .. سيكون هناك
مطر، وظلام، وإضاءة خافتة، وسيتمكن راديو السيارة من التقاط الموجات الأثيرية التي
يتواصلون من خلالها مع أقرانهم في أماكن أخرى، وستنصتون إلى خططهم وتحركاتهم داخل
المدينة، وسيكون لديكم في السيارة ما يُناسب هذه الرحلة من كتب، وأوراق، وصور،
وخرائط، ودفاتر ملاحظات، ولابتوب متصل بالإنترنت، وهواتف محمولة، وطعام، وشراب ..
أريدك أن تصدّق أن صديقيك لن يفعلا شيئًا يفسد الأمر .. أرجوك .. توقف عن تعريف
البيت بأنه مجرد ممر إلى الشرفة .. أنت في الأربعين الآن، ولم يعد هناك وقت ..
غادر هذه الشرفة التي قضيت كل حياتك فيها تراقب الناس، وتتقمص شخصياتهم التي
تتخيلها، ثم تلوّح بالوداع لوجوههم بعفوية تزيد قوتها أو تنقص بحسب مستوى الألم
الذي تتصوّر أنك قادر على استعماله .. سينتهي بك الأمر لأن تكون مثل جارك العجوز
الذي يمضي معظم الوقت في الشرفة المقابلة .. لم يعد يراقب، ولم يعد يتقمص، وإنما
أصبح يكتفي بتقليد مشي العابرين .. يردد كلماتهم وانفعالاتهم التي تصل إليه، ولكنه
مازال يلوّح بالوداع لوجوههم فور وصولهم إلى نهاية الشارع تاركين ألمًا مضاعفًا
غير صالح للاستخدام .. أعلم أن الموسيقى أصبحت من أكثر الأشياء التي تثقل يأسك
مثلما تفعل الأفلام الملائكية، وأنه لا يوجد عشب أو زهور أو بحر أو طيور أو فراشات
أو غيوم أو قطة أو شجرة، وأنك قتلت طفلتك قبل أن تحاول رسم القصة المصورة، وأنه
ليس هناك صديقين ولا سيارة ولا جماعة سرية .. لكن ألا ترى؟ .. أصبح الناس هم الذين
يراقبون العجوز الذي لم يعد يتذكر عن ابنته التي صارت شبحًا سوى أنها صاحبة اليدين
اللتين تنتزعانه من الشرفة نحو الداخل لإنقاذه من ضحكاتهم.
صحيفة "المثقف" العراقية ـ 3 يوليو 2018
اللوحة: مرمم شباك الصيد / لؤي كيالي.