"أخذ يبحث عن المقص الصغير وسط الأشياء المبعثرة الغارقة في
التراب على منضدة السفرة: شرائط كاسيت .. عُلب أدوية منتهية الصلاحية .. سرنجات ..
جهاز قياس الضغط .. عُلب سجائر بعضها فارغ والبعض الآخر ممتلئ والبعض الثالث بين
بين .. عملات نقدية معدنية .. أجندات شركة ساندوز ذات الكعب الزمبركي الأبيض ..
ترمومترين .. نموذج تعليمي لقلب آدمي يمكن فكه وتركيبه .. كتب وجرائد .. نتائج
تقويم من شركات الأدوية وشركات التأمين والبنوك ـ فلم يجده".
ما يُقصد بالتفاصيل في هذه المقاربة هو "أشياء الواقع" التي
تكوّن ما يشبه سجلًا توثيقيًا للأزمنة المختلفة: الأغراض الشخصية المتعلقة بحقبة
معينة .. أنواع المأكولات والمشروبات .. الشوارع والميادين والحدائق ..
الكازينوهات والمقاهي والمطاعم .. قاعات العرض .. الكتب والأفلام والمسرحيات
والأغاني والمقطوعات الموسيقية .. أنواع السجائر والعطور والملابس ... إلخ.
"عرضت عليه صور الأميرات فوزية وفايزة وفايقة شقيقات الملك فاروق
المقصوصة من مجلة ملونة ـ بانبهار وحرص شديد كأنهن مثلها الأعلى. أرته ألبومًا آخر
خاصًا بمقالات وصور الزواج الملكي وعلقت: إن هوايتها هكذا بالمصادفة مثل الملكة
فريدة ـ العزف على البيانو والرسم. في عام 1951 سوف يكتشف الدكتور عزيز أن زوجته عايدة عادت لهوايتها القديمة
وجمعت صورًا ومقالات بمناسبة عيد الجلوس الملكي والزواج الملكي الثاني من
ناريمان".
لكن في نفس الوقت يجدر بنا تأمل كيف تتغيّر التفاصيل الثابتة بتعدد
الرواة، أي الطريقة التي تخلق بواسطتها وجوهًا متباينة لوجودها داخل كل حكاية
جديدة .. هذا ليس تأثيرًا في اتجاه واحد، أي انطلاقًا من الشخصية نحو الشيء
المستقل في جموده الخاص بل هو نوع من التبادل القائم دائمًا، والأقرب للامتزاج
الغائم، الذي يعطي التفاصيل حتى في عدم تبدّلها القدرة على إنتاج كائنات متعددة،
وبالضرورة تواريخ مغايرة لأشباحها .. يكمن السر في الكيفية، أي في الشكل الذي يتم
من خلالها تحديد علاقات الخلق المتبادل بين الحكايات والأشياء، أو ما يمكن أن نطلق
عليه صِيغ التوحّد المراوغة بين عمائها.
"حكى لها عن تسكعاته في شارع الملكة نازلي وشارع الملكة فريدة،
الأزبكية وشارع ابراهيم باشا وميدان اسماعيل باشا، كانت عايدة تشرد وتطلب منه
وعودًا بأن يأخذها إلى كازينو صفية حلمي والأوبرا الملكية وكازينو بديعة وأن يعبرا
سويًا كوبري عباس مشيًا. انفجر الدكتور عزيز في الضحك. (يا ستي .. وسان سوسي قدّام
شقتي في ميدان الجيزة .. دا غير اسكندرية التريانون وديليس واتنينيوس وهلّم جرّا
.. وكل ده بقى كوم وأوربا لوحدها كوم تاني)".
لماذا يبدو للمرء "القارئ" أحيانًا أن تفاصيل أحدهم
"الكاتب" في رواية ما أكثر رونقًا وثراءً من كل الأشياء التي تُشكّل حياته،
حتى مع إدراكه أن هذه التفاصيل تصلح كمخزون مثالي لكتابة رواية مماثلة؟ .. هل
لمجرد أنها أشياء شخص آخر، وبالتالي تنتمي إلى أماكن وأزمنة منفصلة عن تلك التي
مرت حياة المرء داخلها؟ .. هل لأن أي عالم شخصي مختلف وفقًا لهذا المنطق سوف تتسبب
تفاصيله بعفوية خالصة عند أي مقارنة في إخماد أشياء ذلك المرء مهما بدت
"تفاصيل الرواية" هزيلة أو عادية مع مزيد من التمعّن؟ .. هل لأن تلك
الأشياء هي المرء نفسه الذي لا يتأمل ذاته إلا كجثة لم تختبر الحياة على الإطلاق
في مقابل ذلك الذي جرّب العالم حقًا، أي الشخص الذي أوجدته فحسب تفاصيل أخرى؟.
"عندما عاد في الثالثة عصرًا دخل إلى حجرة الدكتور عزيز مباشرة،
فوجئ به مستلق على ظهره في السرير، صغير الحجم كطفل، منكمشًا، شاهد فؤاد بنفسه
مئات من أسراب النمل تدخل وتخرج من فتحتي أنف الرجل وتغطي عينيه وتدخل وتخرج من
أذنيه وفمه ـ فأدرك أنها النهاية وأجهش باكيًا".
لهذا فأسراب النمل لا تأتي من الخارج بل من التفاصيل نفسها .. من أشياء
الواقع التي يمنحها الوعي قيمة مقدسة، خاصة حينما تتحوّل إلى ماض مفقود .. أسراب
النمل تختبئ داخل أغوار التفاصيل مهما تعددت أو تباينت الحكايات، أو اختلفت طرق
تكوينها واندماجها .. مهما تجلت الحياة كوفرة براقة أو انطواء شاحب؛ لا يمكن لهذه
الحتمية أن تُنتهك، حيث الجسد المتحسّر لم تخلقه في جميع الأحوال تلك الأشياء التي
كان يجب عليها فقط التواطؤ قهرًا مع "المتغيرات القاتلة للواقع"، وإنما
الأشياء الحميمية التي تضمر الموت وتمرره بأكثر الأشكال غموضًا، وبقدر رسوخها
الظاهري كأيقونات ملائكية يهددها المحو.
موقع "الكتابة" ـ 11 أكتوبر 2020