الأربعاء، 28 أكتوبر 2020

المكان: غرفة معيشة قديمة (سقف متصدّع يسكن العنكبوت أحد أركانه .. حوائط متهالكة .. سرير صغير .. مكتب .. مقعد .. كتب وأوراق تتناثر في فوضى متربة .. أصيص فارغ).

يدخل إلى المسرح رجل في منتصف العمر، يرتدي ملابس منزلية كما لو أنه لم يبدّلها منذ فترة كبيرة .. شعره أشيب قليلًا، غير مصفف، ويبدو أنه مر عليه وقت طويل دون تشذيب .. عيناه منطفئتان على نحو ذاهل، وتحاوطهما دائرتان من الدكنة الغائرة .. وجه نحيف .. لحية صغيرة، مهملة دون تحديد، ويغلبها البياض الباهت .. جسده هزيل بصورة توحي أنه مصاب بمرض ما، فضلًا عن قدر من الانحناء المرتعش الذي لا يكاد ملحوظًا.

يخاطب المتفرجين بابتسامة يحاول أن يُخفي رجفتها، وأن يُبقيها محايدة بشكل ماكر، وبصوت يستقر الإنهاك المرتعب في عمق صلابته الظاهرية:

هل فكر أحدكم من قبل في أن المسرح مكان خطر؟ .. أعني أن يذهب شخص لمشاهدة عرض ما فيحدث شيء غير متوقع يُنهي حياته؟ .. لا أقصد بالشيء غير المتوقع تلك الحوادث التقليدية التي يمكن أن تقع بشكل مفاجئ كانهيار سقف، أو اندلاع حريق مثلًا، وإنما أقصد أن يصعد ممثل إلى خشبة المسرح ليؤدي دوره، وفي أثناء ذلك يخرج مسدسًا من ملابسه ويطلق النار على المتفرجين .. إنه أمر يمكن أن يحدث في أي مكان: في شارع .. في مقهى .. في محطة قطارات .. هل سبق لأحدكم أن فكّر في إمكانية حدوث هذا داخل المسرح؟ ...

عمومًا، أريدكم أن تعرفوا أنني عشت أجمل حياة يمكن أن يحظى بها أي رجل في هذا العالم .. تجوّلت في أنحاء الدنيا .. رافقت نساءً من كل نوع .. كوّنت صداقات مع مختلف البشر .. جرّبت جميع أشكال المتعة في كافة الأماكن .. حتى ذكريات طفولتي لا أستعيدها مثلما يسترجع أي شخص ماضيه بمزيج من التشوّق والحسرة، وإنما امتلكت القدرة على الانفصال الكامل عن الواقع، وأن أعيش في أي وقت ذلك الماضي من جديد كما حدث تمامًا للمرة الأولى، ولهذا فإنني في حماية دائمة من آلام التذكّر ...

عذرًا؛ لم أعرفكم بعد بصديقي القديم .. صديقي الذي لم يفارقني أبدًا منذ ولادتي .. الذي لم تمر لحظة في حياتي إلا وكان هو روحها الأصلية .. أنا مثلكم لا يمكنني رؤيته، أو لمسه، ولكنني قادر على سماع صوته، وكي أسهّل الأمر عليكم سأكون وسيطًا بينه وبينكم كلما أراد أن يتحدث .. سأرتدي هذا القناع (يأخذ قناع بطوط من فوق المكتب)، وسأتكلم بما يطابق صوته كلما أراد ذلك ...

يخاطب صديقه القديم: حسنًا .. تقول إنني كاذب؟

يضع القناع على وجهه، ويتحوّل صوته إلى نبرة "بطوط" المميزة:

"نعم أنت كاذب .. أنت لم تغادر بيت العائلة إلا لمرات قليلة، وخلال ذلك لم تفعل أكثر من الدوران المترنّح داخل المدارات المنكمشة من حوله .. لم تفعل أكثر من التعثّر والوقوع وتخزين الصفعات والركلات والضحكات الساخرة التي لاحقت غفلتك أثناء ذلك الدوران .. كنت في كل مرة تعود سريعًا إلى بيت العائلة حيث تراقب من شرفتك تلك الوجوه التي دهستك، وتتخيّل أسرارًا لها، كأن ملامحها ليست سوى ظلالًا مخادعة لموتك، قبل أن تضطر للخروج ثانية ويتكرر الأمر نفسه .. أنت كاذب .. أنت تهرب من استعادة ذكرياتك الطفولية بقدر محاولاتك الفاشلة لاستردادها .. تفكر في الماضي، وتدوّنه، وتنقّب عن أشيائه المفقودة، ليس كمن يسترجع أحلامًا قديمة، وإنما كمن يُحضّر أرواحًا شريرة داخل عزلته ثم يكافح للاختباء من مطاردتها لبكائه".

يخلع قناع "بطوط"، ويتكلم بصوته الطبيعي:

في لحظة ما من طفولتي المبكرة أدركت أن الدنيا ـ لسبب مجهول ـ قد خُلقت خصيصًا من أجلي، وأن كافة البشر: أسرتي .. عائلتي .. الجيران .. الناس الكثيرون جدًا الذين يسكنون البيوت والمدن الأخرى، ويسيرون في الشوارع ويتحركون داخل التليفزيون، وأسمع أصواتهم في الراديو، وتظهر صورهم في الصحف والمجلات، ويتظاهرون بأنهم لا يعرفونني؛ هم في حقيقة الأمر ينفذون مهمة سرية تجاهي، تم تكليفهم بها من الغيب لغرض خفي .. كل زملائي وأصدقائي، وكل الشخصيات في جميع الحكايات والقصص والأساطير، وكل الموتى الذين عاشوا قبل ميلادي؛ جميعهم كان لهم دور في تلك المهمة .. أدركت كذلك أن لهذه المهمة وقت محدد حينما ينتهي سأتمكن من فهم الحكمة الغامضة التي تكمن وراءها .. أنا أيضًا ظللت أتظاهر بأني لا أعرف .. عشت حياتي متنكرًا مثل الآخرين باعتباري عنصرًا من تلك اللعبة الهائلة .. باعتباري جزءً من شفرة ممتدة منذ بداية العالم لم يحن موعد فك رموزها .. لكن الزمن مر، وتعاقبت السنوات، وأصبحت في نهاية العمر ولم أعرف بعد طبيعة هذه المهمة السرية .. مازال كل البشر في كل مكان يؤدون أدوارهم لحظة بعد أخرى، ومازالوا قادرين بمنتهى البراعة على عدم إبداء أي إشارة مهما كانت واهية على معرفتهم بي أو على ما ينفذونه تجاهي .. لم يقرر أحد طوال تلك السنوات أن يخالف التعليمات ويخبرني بالحقيقة .. ولأن عائلتي ماتت كلها، ولأنني أوشكت كذلك على الموت؛ كان يجب أن أفعل شيئًا في أسرع وقت ممكن .. قررت أن أكتب رسائل لغرباء أخبرهم فيها بمعرفتي بتلك المهمة التي يؤدون أدوارًا فيها، وأنه لم يعد هناك مبرر لإخفاء الأمر .. أتعلمون لماذا قررت استخدام الرسائل؟ .. لأنني لم أكن أضمن ما سيحدث لو توجهت باستفهاماتي المتوسلة إليهم على نحو مباشر .. رغم كل ما حدث أردت أن أحمي تلك المهمة حتى النهاية من أي ضرر يمكن أن يسببه رجائي المعلن لإدراك ماهيتها .. حتي لو لم تكن تلك المهمة سوى ما يخجل الجحيم من تخيّله .. قررت أن أرسل إلى أناس لا أعرفهم تلك الرسائل طالبًا منهم الكشف عن ذلك السر بعد أن أهدرت عمري كله في الانتظار .. كتبت تلك الرسائل بأساليب مختلفة طمعًا في أن ينجح أي منها في انتزاع الإجابة من أحدهم ثم قمت بترك كل رسالة داخل ما يشبه الشق الصغير في جدار كل شخص بحيث لا يعثر عليها إلا هو .. كنت أدور وحدي على البيوت في صمت الليل وأترك الرسالة، ومع ذلك لم أحصل على أي رد .. مر وقت طويل للغاية ولم أحصل على أي رد .. حتى أنني لم أعد أتذكر منذ متى وأنا أشعر بأنني مختطف من جميع الأحياء والأموات داخل هذه الحجرة الأشبه بقبر أزلي دون أن أعلم متي وكيف سيطلقون سراحي.

يرتدي قناع "بطوط" مجددًا، ويتكلم بصوته ذي النبرة العصبية المعروفة:

"كل رسائلك خاطئة تمامًا .. لم تكتب سطرًا منها على الأقل بطريقة تنطوي على الحد الأدنى من الصواب .. جميع عباراتك مبهمة على نحو بالغ السوء حتى أكثرها تجرّدًا ووضوحًا .. أهدرت كل الوقت الذي قضيته في كتابتها مثلما أهدرت حياتك كلها .. لن يدرك أحد شيئًا مما كتبته، وحينما ينتهي كل منهم من قراءة رسالتك فستتحوّل في ذاكرته إلى عدم تام كما لو أنه لم يستقبلها على الإطلاق .. كما لو لم يكن هناك أحد يسكن تلك البيوت التي ظللت تدور بينها .. لهذا لا تتعجب من غياب الرد .. لن يجيب أي شخص على رسائلك ولو عشت ألف عام .. ولو صرت أبديًا ككل الأفكار والمشاعر التي لم تختبرها .. عليك ألا تنتظر .. ألا تتوقع معجزة قد يحدث ببساطة ما هو أكثر استحالة منها .. أما لو بقيت ملعونًا بهذا العشم الخاسر في كلماتك الميتة فلن يكون في ذلك غرابة أبدًا .. كنت طوال عمرك مسخًا مضحكًا، وستنتهي كأنك لم تمر في العالم".

ينزع قناع "بطوط" عن وجهه، ويعاود التحدث بصوته العادي:

أعرف أنه بينكم من تلقّى رسائلي .. نعم، يجلس أمامي الآن من لم يمنحني الرد الذي توسلت الحصول عليه .. أعرف أنه بينكم من لن يجيبني مطلقًا .. هذا ما يعيدني لسؤال البداية: هل فكر أحدكم من قبل في أن المسرح مكان خطر؟ .. أعني أن يذهب شخص لمشاهدة عرض ما فيحدث شيء غير متوقع يُنهي حياته؟ .. لا أقصد بالشيء غير المتوقع تلك الحوادث التقليدية التي يمكن أن تقع بشكل مفاجئ كانهيار سقف، أو اندلاع حريق مثلًا، وإنما أقصد أن يصعد ممثل إلى خشبة المسرح ليؤدي دوره، وفي أثناء ذلك يخرج مسدسًا من ملابسه (يُخرج المسدس بالفعل في هذه اللحظة ويصوّبه نحو المتفرجين) ثم يطلق النار على المتفرجين .. إنه أمر يمكن أن يحدث في أي مكان: في شارع .. في مقهى .. في محطة قطارات .. هل سبق لأحدكم أن فكّر في إمكانية حدوث هذا داخل المسرح؟" ...

يُظلم المسرح كاملًا فجأة: خشبة العرض وقاعة المشاهدة ثم يُسمع دوي إطلاق رصاص مروّع .. تُضاء خشبة العرض فقط، أما قاعة المشاهدين فتظل مظلمة كما هي .. الإضاءة مسلّطة فقط على الممثل المُمدد دون حركة على المسرح وفي يده المسدس .. قناع "بطوط" يحوم في الفراغ بارتفاع بسيط فوق جثة الممثل مع تصاعد ضحكات متتابعة بصوت "بطوط".