الاثنين، 17 فبراير 2020

الاحتجاز

ظلوا يحتجزونه سنوات طويلة جدًا داخل هذه الحجرة .. كان يمكن لتلك السنوات أن تكون أقصر في وعيه من زمنها الفعلي، لولا أنهم بدهاء عفوي جعلوا النافذة الصغيرة الوحيدة موجّهة فقط نحو السماء، بحيث يتعذر عليه رؤية أي شيء آخر في الخارج .. لم يكتفوا بذلك، وإنما تركوا له أيضًا مخزونًا من الأوراق والأقلام لكي يكتب ما يريد طوال مدة احتجازه .. كانوا يدركون تمامًا أثر ما يدبرونه، وهكذا صارت السنوات أطول بكثير من زمنها الفعلي.
كان تعذيبهم له رهيبًا .. على فترات متفاوتة التقارب كان يُفتح باب الحجرة ثم يدخل إليه شخص جديد .. كل مرة شخص مختلف عمّن سبقه .. أحيانًا يكون رجلًا، وأحيانًا يكون امرأة .. أعمارهم وملابسهم وحركات أجسادهم مغايرة لبعضها أيضًا .. يتقدم نحوه ذلك الشخص ثم يقف أمامه وينظر في عينيه، ويضحك .. ضحكاتهم كذلك غير متشابهة .. للحظات قليلة لا يفعل أكثر من الضحك ثم يغادر الحجرة ويغلق الباب ثانية .. سنوات طويلة جدًا قضاها عاجزًا عن مقاومة هذا التنكيل المتكرر .. يفقد في تلك اللحظات قدرته على الحركة والنطق وحتى على إغماض عينيه، ولا يستردها إلا بعد أن يصبح بمفرده مرة أخرى.
كان قادرًا على سماعهم بوضوح من وراء باب الحجرة، ولم تكن أصواتهم تؤكد سوى أنهم يعيشون حياة عادية، تماثل حياته المألوفة التي يقضيها في الأحلام كأنها الواقع .. لهذا كانت أقرب إلى حلم واحد ممتد بعدد أيامه المتعاقبة، يعيشه كما لو أنه يشارك البشر دنياهم الحقيقية منذ الطفولة وحتى العُمر الذي صار إليه، ولا يحتاج بعد الاستيقاظ منه يومًا بعد آخر داخل الحجرة ذاتها إلى ما يحتاجه الشخص العادي .. لا يحتاج أن يأكل أو يشرب أو يضاجع أو يقضي حاجته أو يتحدث مع الآخرين أو يمشي في الشوارع أو يجلس في المقاهي .. كل هذا كان يؤديه داخل العالم التقليدي الذي يدخله بمجرد البدء في النوم، أما اليقظة فلم تكن تعني سوى الجدران والنافذة الصغيرة، والباب المغلق .. لكنه مثلما حُرم من معرفة الماضي الذي سبق احتجازه الغامض، والدوافع التي جعلته حتميًا طوال تلك السنوات، وموعد النهاية التي يعجز عن توقعها؛ لم يفهم كذلك لماذا كان عليهم تعذيبه بتلك الكيفية الثابتة التي لا تتغير .. كان بديهيًا أن يمضي عمره في تدوين أشكال الانتقام التي عزم على تنفيذها عندما يستطيع الخروج .. حدد لكل شخص أسلوبًا خاصًا في الثأر، يعتمد على طريقة الضحك التي يُعذبه بها، ولا تتطابق مع طريقة شخص آخر .. لهذا أيضًا بالضرورة؛ لم يكن من الممكن أبدًا أن ينسى وجوههم.
سنوات طويلة جدًا لم يفعل سوى النوم كي يحلم بالواقع، والتحديق في غيوم النهار والليل عبر النافذة الصغيرة، وكتابة خطط الانتقام من الضاحكين، والتلصص على أصواتهم من وراء باب الحجرة .. الأصوات التي بدأت ذات يوم في التناقص بتدرّج بطيء، ومعه تباعدت مرات دخول كل منهم إليه .. لكن هذا لم يخفف من آلامه، بل على العكس؛ كان هذا التناقص التدريجي في أصواتهم، والمقترن بتباعد نوبات التعذيب سببًا في تضاعف الضحكات القديمة داخل ذاكرته.
حينما اختفت أصواتهم تمامًا، ومرت فترة كبيرة دون أن يدخل إليه أحد، وبعد أن امتلأت كل الأوراق التي لم يهتموا من قبل بالاطلاع على ما دوّنه بها؛ جرّب أن يفتح باب الحجرة .. كانت هذه هي المرة الأولى التي يحاول فيها ذلك .. وجد الباب مستجيبًا لحركة يده التي جذبته للخلف .. كأنه لم يكن موصدًا في أي وقت سابق .. تحرّك إلى الخارج حاملًا أوراقه الكثيرة .. لم يجد السماء والأرض اللتين اعتاد رؤيتهما في الحلم؛ بل السماء كما كان يتخيّلها حين يحدّق في الغيوم عبر النافذة الصغيرة، والأرض كما كان يتخيّلها في وحدته الطويلة كظل هائل لتلك السماء .. فوق هذه الأرض تناثرت جثثهم التي يعرف وجوهها جيدًا .. لم يكن هناك غير هذه الجثث التي تجمدت ملامحها على الضحكات التي عذّبته طوال السنوات الطويلة جدًا .. السنوات التي صارت الآن أقصر بكثير من زمنها الفعلي .. مترنحًا بحسرته الثقيلة؛ راح يمر على كل جثة، ويضع بيديه الشائختين في فمها المفتوح والمتحجّر ورقة الثأر التي تخص صاحبها قبل أن يعود إلى داخل الحجرة ويغلق بابها بإحكام.
أنطولوجيا السرد العربي ـ 16 فبراير 2020