يموت الآن .. يعرف ذلك جيدًا، لكنه ليس إلا الإدراك النشوان الذي
تعوّده حينما يوشك على الانتهاء من مقطوعة موسيقية، وقد بلغ ذروته الخالصة .. كان
ما يختبره هو المقطوعة الختامية التي تحتوي عمره كاملًا بينما تنهيه .. لذا فهي
نشوة تتجسّد في بدنه المفتت بصورة أكثر سحرًا، وكأن رعبه الدائم من الموت الذي
تغذّى على حياته كلها كان تمهيدًا طويلًا خاطفًا لتلك الطمأنينة الخارقة التي
تُخرجه من الحياة.
لم يكن تعمّده إصابة نفسه بكورونا انتحارًا خفيًا، بل انسجامًا مع
الإبادة كحقيقة ماورائية للعالم .. حينما ظهر الفيروس لم يفكر في مؤامرة من أي
نوع، وإنما على العكس كان يؤمن أن لخالقه هدفًا محددًا وواضحًا .. أن يتألم ويحتضر
ويموت بشر كثيرون جدًا في كل مكان بأداة من صنعه .. أن يستمتع خالق الفيروس
بمشاهدة هذا لحظة بعد أخرى، كمن يتجوّل بين أشلاء الأسباب المتنكرة للحروب،
والدوافع الملفقة للقتل .. كمن يحلّق في نقاء الإرادة الكونية، حيث يتحقق التناغم
معها بقدر الاستجابة لمقصدها المتجذّر داخلك .. أن تعذِّب وتميت فحسب، لاسيّما من
خلف ستار محصّن، بصرف النظر عن علة ذلك .. كان كورونا هو الاستجابة القصوى.
لم تكن النشوة فقط هي الناجمة عن الموسيقى التي يؤلفها، وإنما الحسرة
كذلك .. كان دائمًا يعتبر مقطوعاته ـ رغم كل وحشيتها ـ أشبه بترويض قهري لما
تستحقه الدنيا، وما يلائم وعيه بالوجود .. أشبه بإخضاع محتوم لذاكرته .. لم يكن
قادرًا رغم محاولاته المستمرة أن يجعل تلك الموسيقى لائقة بأفكاره ومشاعره تجاه كل
شيء، كأنها لعنة منذورة لمغافلته مهما فعل .. وصل به الأمر إلى نوبات من عدم
التصديق: بعد كل ما حدث؛ كيف يكتفي بتأليف الموسيقى أصلًا؟! .. كان هذا العجز
المتصاعد هو الجرح المستقر في عمق كل نشوة.
موته الآن ليس تقليديًا، بل هو الموت الجمالي المنشود الذي طالما
انتظره .. المقطوعة التي قضى ماضيه بأكمله يحلم بها، ويعرف في هذه اللحظات أنه كان
يتجهّز لتحقيقها: الصداع الفائر .. السعال الذي يمزق الرئتين .. الأنفاس اللاهثة
.. دقات القلب المتلاحقة .. العرق الغزيز .. الرعشات القوية .. الضباب الثقيل في
العينين .. الألم الذي يطحن العظام .. الانتفاضات الحارقة في الأمعاء .. جميعها
ليست علامات الاحتضار بقدر ما هي نغمات وإيقاعات المقطوعة الأخيرة التي ينظّمها في
عقله، ولا يسمعها أحد غيره .. لا يستوعبها إلا غيابه الموشك على الاكتمال .. لكنه
ينتبه فجأة إلى أن هذه المقطوعة ستتبدد معه .. لن تبقى بعد موته بالرغم من رجائه
أن تكون هي التذكير الوحيد به .. كان في احتضاره مكان صغير لضحكة بالغة الخفوت،
وكأنها كانت النغمة الضرورية الناقصة قبل النهاية.
أنطولوجيا السرد العربي ـ 28 يوليو 2020
اللوحة لـ (بابلو بيكاسو).