الجمعة، 8 مارس 2024

مقامات الغضب: خارج الدعابة الطوباوية

لا يتطلب "سرد الغضب" انعزالًا مقصودًا فحسب، وإنما يستدعي التفكير في طبيعة هذه "العزلة" أيضًا. إنها ليست صوتًا ما زال يُعرّف نفسه بموقع المشاركة الذي يتخذه بين الأصوات الأخرى، وإنما الصوت المأخوذ بانفلاته، الذي يطارد فرديته المبهمة، المتناثرة خارج التجارب الجماعية والتواريخ الشاملة. الصوت المؤرق باستثنائيته العسيرة حين يقوده "الغضب" لاكتشاف إغواءات "اللعب" المخبوءة في "حكايته". "السيرة" المناقضة التي تعرض مقاومتها للتجزّء والطمس داخل سياقات الصراع في اللحظة التي يرويها ذلك الغضب. تتوقف الذات عن أن تكون أداة في ورطتها الوجودية "غرض صغير يُستخدم مؤقتًا في المأساة الكلية"، لتكون حينئذ لاعبًا بالدور الذي تعوّد أن يستعملها. تحوّله إلى "شيء" يمكن استراق النظر إليه، التسلل عبر صدوعه الغامضة، وتفكيك بداهته.

"مثل كثيرين أفعل كل يوم أشياء عديدة، لكني في الحقيقة لا أفعل شيئًا .. أبدد طاقتي في كل الأفعال؛ أصحو، أذهب للعمل، أحب، أكره، لكن لا أثر، لا نتيجة. كل ما أفعله صاخب، مشتعل، منفجر؛ بوم .. بوم، ثم لا شيء .. هدم .. هدم .. معول يسقط على كتلة، بناية، علاقة، رابطة، فتطير أجزاء الكل دون اعتبار لأي قانون أو قاعدة، ينهار المتماسك، يفتت الصلب. تتطاير شظايا، أجزاء مشوهة، منبعجة، لا يمكن تجميعها تلقائيًا، قد يتمكن الضغط، أو التحوير من تجميع المتشظي، حيث تتوالد المخلوقات الخربة، الرعب المجسد لعدم الانسجام، عدم التوازن".

في رواية "مقامات الغضب" للكاتبة صفاء النجار، والصادرة حديثًا عن الدار المصرية اللبنانية؛ تلاحق كل شخصية في حكيها "المنعزل" المدى الغائم لغضبها، بتوظيف حضورها القهري أو خبرتها الخاضعة كخيط "ممزق" في نسيج علاقات متعددة ومتشابكة، أو كأثر "ملتبس"، متبدد، لماض تحتله شخصيات أخرى. كأن هذه الملاحقة السردية بمثابة كفاح لرؤية مضادة، لإزاحة العمى الذي يمثل شرطًا جوهريًا للعبور في المسارات القدرية، أو كأنه بحث عن نوع من العمى المجازي الذي بقدر ما يغمض العينين بقدر ما يحفز البصيرة على استنطاق غيبيتها.

"ما الذي يقضي على الغضب؟ يفرغه من طاقته، يحوله لشيء أبله بلا معنى؟ لا شيء يعادي الغضب كالملل والتكرار، الغضب دائمًا طازج، في كل مرة تفور الدماء، تتسع الشرايين وتعمل مضخات القلب بأقصى قوتها وتدفعك الهرمونات لحافة الهاوية، ويتحول العالم لحفرة، هوة، صراخ من السقوط المفاجئ، الذي لم يحدث بعد، أو ربما يحدث في خيالك، لعبة المحاكاة".

المونولوج الكتابي إذن يحاول تعديل ظواهر الواقع أو إعادة ترتيبها وفقًا لأساليب متباينة، ولكنه يراوغ في الوقت نفسه كل ما يطمع أن يكون مثالًا أو نموذجًا بديلًا. هنا يكمن اللعب؛ حيث لا يتيح سرد الغضب ملاذًا ترويضيًا على نحو فعلي، وإنما يجعله الحكي، بكل فرضيات المرح اللغوي غير المحكومة، المتوالدة في طيات "التدوين"؛ يجعله يخاتل الاحتمالات التقويضية لذلك الواقع، يدفعه لتجاوز حدوده المتعينة ليصبح أقرب إلى الخيال المترصد وراء كل تفسير. السرد يحوّل الغضب من خطاب مستقر، يحاصره الضجر، ويمتلك من المبررات والتأثيرات المباشرة ما يجعله متجانسًا مع "الأحكام المسبقة" إلى طيف تخريبي، يتخطى الدوافع الملموسة والبصمات المتوقعة، يفسد المعاني الجاهزة التي تحاول أن تبقيه آمنًا.

"الفضاء يكاد ينفجر من الكلام، فيس بوك المقهى العالمي الكبير، يتحول الصراخ إلى غضب دائم مكتوم .. وهذا البيت مصدر كبير للغضب، نوافذه الزجاجية التي تجعل الشمس تسكن في غرفتي، أشعتها تهاجم وجهي، فأنهض من السرير غاضبة لأغلق الستائر الـ "بلاك أوت"، وأحاول العودة للنوم، ومع تقلبي في السرير وهروب النوم مني ومطاردتي له .. يزداد تدفق الغضب، الحمم البركانية تتناثر وتسيل وتحفر أخاديدها في رأسي، النوم الغاضب يقذفني في أحلام فلاشية، غير مترابطة، تتداخل الأصوات التي تخترق أدوارًا عدة وتتسلق أشجارًا عتيدة".

ذلك تحديدًا ما يجعل المونولوج كذلك "حوارًا" بين الذات والشخصيات الأخرى، "جدلًا" بين خفاء الذات وأسرار تلك الشخصيات، حيث لم تعد الذات ـ حين تسرد غضبها ـ شخصًا يتكلم، وإنما أصبحت "غضبًا يروي حلمًا اغترابيًا" .. الغضب يفتش ـ كسارد متعدد الأصوات ـ عن جذر مجهول، ومن ثمّ فإن الذات تعيد صياغة الشخصيات العالقة في متاهاتها فتشكّلها كأحلام مماثلة، أو بالأحرى تنتزع اغتراب كل منها وتخلق بواسطته حلمًا موازيًا لها، سعيًا وراء الجذر "الاستعبادي" نفسه، والذي يمكن الحدس بمشيئته في أبسط التفاصيل وأكثر المشاهد اعتيادًا.

"هذه العائلة كل من فيها عانى إما من تمرده وعصيانه وثورته وغضبه وإما من خضوعه وخنوعه واستسلامه، عائلة أفرادها لا يعرفون الاعتدال، على طرفي النقيض يقفون، وكل يدفع الثمن ولا فائدة من النصائح سوى مزيد من التوتر والعناد، هذه العائلة تخاف من الفشل، تهرب منه، لكنه الفخ الذي يقع فيه كل أفرادها".

ثمة ذاكرة ضبابية، مناوئة للماضي ـ كما يتصوّر حدوثه ـ يسعى كل راوٍ لخلقها، لا استنادًا إلى الغضب فحسب، وإنما إلى ما ينبغي أن يحصده هذا الغضب بالضرورة. ربما تكون ذاكرة انتقامية عوضًا عن الذاكرة الحصينة التي لم يمتلكها السارد مطلقًا. ذاكرة عقابية تجاه الحرمان من امتلاك هذه الذاكرة. كأن كل حكاية أشبه بكرسي اعتراف للحياة والموت لا للشخصية الساردة نفسها، وكأن كل اعتراف ضمني للوجود، يُفضح في ثنيات وأغوار المونولوج الذاتي هو ما ينتج تلك "الرسائل" غير المقروءة بين الغرباء. الرسائل التي تتجاوز ما يعتقد كل منهم أنه السياج الواقعي الذي يطوّق عالمه. ذلك الاعتراف "الغيبي" الذي يتم الحدس به أو استبطانه أو إدراكه عبر صمت "الرسائل" هو ما يوثق السعي، العفوي، المضمر للغة الحكي من أجل هدم الأسس التي يبدو أن هذه الرسائل ناجمة عنها. من أجل خلخلة ما يدعي الثبات في كل "إحالة" إلى يقين أو مبدأ ما.

"أقرب الناس إليك وفي لحظة ما عند مفترق طرق، عند اتخاذ قرار تأييد أو رفض، سيبتعد عنك الغرباء .. ويتهمونك بما ليسوا فيك وسيفسرون كل ما قمت به من محبة واحتواء تفسيرًا ليس خاطئًا فحسب ولكن مؤامرتيًا، وسيستغلون كل ثغرات حياتك، كل نوافذك، جلدك الذي عريته أمامهم، ولن تستطيع أن تكسب ابنة خنت ثقتها وتخليت عنها في أدق لحظات حياتها بالتجاهل، بالتعامي .. لم تؤازرها كما ينبغي، وحتى هذه اللحظة لا تستطيع أن تقدم لها نصيحة نافعة".

نلاحظ هذا التداخل بين "الذكريات" التي يتم استدعاؤها عبر الأصوات الحكائية المتعددة، وهذا ما يتسق مع فكرة "الغضب" كسارد، لا الشخصية التي تنتج "المونولوج" أو "الرسالة" أو "الكتابة" في حد ذاتها، ذلك لأن الغضب يخاطب ما لا يُرى في الماضي، ما لا يكشفه الجسد ضمن حدوده، ولهذا فإن كل ذكرى تشير إلى عتمة ذكرى أخرى لا إلى نفسها فحسب. الكتابة هنا قرينة الثأر، حتى لو لم يستوعب السارد ما وراء "ارتكابه" حين قرر أن يتوحد بغضبه سرديًا. الثأر الذي "يحوّل العالم إلى نص هائل يُصاغ من التدوينات اللانهائية الشبقية الغاضبة" كما ذكرت في كتابي "الغفلة والإدراك" / مدخل تفكيكي لفلسفة شوبنهاور. الغضب يحكي باعتباره اللحظة القصوى للانفصال، ليس عن الآخرين وإنما عن الأزلية التي لم تُخدش. الانفصال الذي هو تذكير وحفر في جرح الانتزاع عن الأمان الأبدي.

"علاقتي بالله غائمة، هو في ملكوته وكلياته وسموه، وأنا في غضبي وحيرتي، لم يحدث أن سألته أو احتجته، لم يكن لدي حاجة لشيء، لا أتذكر أني دعوت الله بعمق، لكني أراه دائمًا بعيدًا، أشعر به متمركزًا خلف حجب كثيفة تفصل بيني وبينه".

 لذا؛ ما يُعد "انتقامًا" حكائيًا، بمستويات انتهاكه في حدتها وخفوتها الظاهري، يستهدف ما تعتبره الذات أصلًا لكل بناء معرفي لا يمكنه تبرير نفسه، مهما تنكر في حكمة أو تقمص فضيلة، أو تحصن في وهم جمالي. الغضب هو إعطاب لدلالات ما يسرده "الغاضب"، أي ما تحاول الذات الساردة الاحتماء به تلقائيًا حتى عند ذروة رغبتها في التخلي أو المقاومة، لأن الغضب نفسه هو ما يحفز التوترات والتناقضات التي تفكك المرجع "القيمي" أو الغاية "المتعالية"، فيصبح ما تحكيه الذات أقرب إلى تمرين مستتر على العدم. التمرين القائم على تشريح "الزيف" الذي تشير إليه كلمات "مارتن هيدجر":

"بالقطع، يمكن لأي كائن كان أن يبدو على غير ما هو عليه في حد ذاته".

"أشعر بعطب في مراكز الطاقة، وبالحاجة إلى شحن جديد والرغبة في امتصاص طاقة الآخرين، لتزويدي بالسخط والغضب اللازمين لروحي. "فيس بوك" واحد من وسائطي العديدة للحصول على الطاقة، لي على الفيس بوك أكثر من حساب لا أتذكر عددهم، واحد فقط يحمل وجهي الحقيقي، البقية بأسماء وصور تعبيرية مختلفة، أجرب واقعًا غير واقعي، ذاتًا غير ذاتي، أتبنى آراء مناقضة لآرائي، ألف وجه أرتدي وأنا أراقب الآخرين، كأنهم فئران في تجربة".

أستعيد الآن ما كتبته في مقالي ("كوكسال بابا” طفولتي: الكوميديا غضب .. الغضب ليس كوميديًا):

فكرت في هذا لأنني كنت طفلًا يربي منذ لحظاته المبكرة خبرة انعزالية للغضب .. الخبرة التي لا تعتمد على الإحساس التقليدي والتنامي المتدرّج للمعرفة به فحسب وإنما على تأمل أغواره واكتشاف الآثار المتعددة والمتغيّرة لتحريره وكتمانه .. كانت خبرة قائمة على التلصص للكيفية الملغزة التي لا تُبقي تلك المراقبة من خلالها الغضب محكومًا بالشروط المباشرة للواقع وإنما تضاعفه وتحفّزه على التمادي خارج نفسه ليتمثل حتى في أكثر الانحيازات براءة للذات .. كان التأمل يجعل الغضب في أطواره البدائية أشبه بالإلهام الشهواني الذي يحرّضه على التناثر بين الأجساد كافة، وعلى اجتياح المسافات والحدود والنفاذ عبر الحياة والموت".

في كل سرد للغضب ثمة من يرى كائنًا يطير عبر شرفة مفتوحة. هذا الكائن ليس أحدًا بعينه حتى لو كان مجسدًا في شخص ينتمي إلى السارد. هذا الكائن لا ينتمي في حقيقته إلا لنفسه، لغيابه، للندبة التي تركها في روح من يحكي. كائن لا يُعرّف إلا برماد المحترقين حول القطارات المنفجرة. هذا الكائن هو الانتظار، التأرجح بين النقائض، الذي يجعل من المغامرة والحيرة والترقب والترحال هواجس متغيرة عن المغامرة والحيرة والترقب والترحال. الذي يجعل الشوق المتوطد في كل ألم ليس أكثر من دعابة طوباوية، لا يقتنصها إلا الغضب حين يتمعن في عزلته، في الثأر من ذلك الذي يعتلي دائمًا مفترق الطرق.

أخبار الأدب

3 مارس 2024