السبت، 9 مارس 2024

النقد السينمائي و”الجنون” وما يعنيه “الميديوكر” حقًا

كيف ساهم النقد السينمائي في تنميط “الجنون” بالأفلام العربية؟

لماذا ينحاز “النقاد” غالبًا إلى “الخرافات الشعبوية العدائية” التي تحكم طبيعة تناول “الأمراض النفسية والعقلية” في الأفلام العربية إما بالتغاضي أو بالدعم والإشادة؟

كيف شارك هذا الانحياز في التكريس التاريخي لبديهيات معرفية وجمالية زائفة تتسم بالجهل والسذاجة، وتمنح شرعية “أخلاقية وقيمية” لأشكال العنف المتعددة تجاه الشخصية الموصومة بـ “الجنون” في السينما العربية؟

كيف يُنظر إلى هذا الانحياز من خلال ميكانزمات الدفاع اللاشعورية لـ “الناقد” السينمائي؟

هل يُعد هذا الانحياز نوعًا من التطهر وتجديد الولاء وإثبات الانتماء إلى “العقائد الحاكمة” للوعي العام؟

كيف يعتبر هذا الانحياز تواطؤًا مروّضًا مع سلطة المجتمع كشبح مترصد، رادع وعقابي، باستغلال الطرائد السهلة، غير المكلفة، ليضمن “الناقد” مكانته كـ “فاعل ثقافي” غير مُهدِد، أو كابن بار ضمن علاقات القوة التي تفرضها هذه السلطة؟

هل تشير هذه المساهمة النقدية في تنميط “الجنون” بالأفلام العربية إلى طبيعة “الفكر” لدى “النقاد” العرب التي تهيمن على مقارباتهم وتحليلاتهم للفن السينمائي بشكل عام؟

حينما حددت هذه الاستفهامات لتكوّن مدخلًا للكتابة عن “النقد السينمائي و”الجنون” في الأفلام العربية” كان ثمة مصطلح سلطوي شائع ـ بكل ما يعنيه وينتجه التسلط من جهل وزيف وعنف ـ يناوش ذهني وهو “الميديوكر”.

في كتابه “العناصر النمطية في السينما المصرية” وتحديدًا في فصل “العُقد النفسية وفقد الذاكرة والجنون”؛ كتب د. نبيل راغب:

“وبرغم هذا التكرار فإن الأفلام التي اعتمدت في علاجها لهذه العناصر والتيمات على أسس علمية وطبية وسيكلوجية كانت قلة ملحوظة، إذ أن معظمها اعتمد على الأفكار الشائعة والدارجة بين عامة الناس، وهي أفكار غالبًا ما تكون غير علمية أو مغلوطة أو خاطئة، فقد كان هدفهم الاستراتيجي هو استغلال العناصر الميلودرامية  والمثيرة التي يمكن أن تترتب على المفاجآت غير المتوقعة الناتجة عن العُقد النفسية وفقد الذاكرة والجنون، بصرف النظر عن مصداقيتها العلمية”.

المؤرخ زياد عساف أيضًا في مقاله “نزيل مستشفى الأمراض العقلية .. صور سينمائية” بصحيفة “الرأي” الأردنية يكتب:

“وهذا ما يحدث في الحقيقة إذ أن غالبية الناس ينظرون لمثل هذه الحالات باستخفاف وإهمال ونظرة دونية شكلتها مفاهيم اجتماعية ودينية مغلوطة، ما يساهم في تأزيم هذه الحالات وكان للسينما العربية الدور الأكبر في تشكيل هذه الثقافة السلبية مما لا يعفيها من المساءلة القانونية والأخلاقية. ففي كثير من الأعمال السينمائية المتعلقة بهذا الخصوص لجأت السينما لتقديم المرضى النفسيين بصورة فكاهية ساخرة والهدف مادي بحت دون استدراك أن السينما بهذه الخطوة أحدثت حالة من الشرخ الاجتماعي بحق هذه الفئة من الناس وبالتالي التعامل معهم بسخرية لا تخلو من الغمز واللمز، والنفور منهم لدرجة أن تشكل في وعي الأغلبية ضرورة تجنب المصاهرة والنسب مع كل من يمت للمريض النفسي والعقلي بأي صلة، ما أوقع الظلم على كثيرين دون وجه حق”.

كذلك في الملف الذي أعده الصحفي “رامي الجزيري” في جريدة “الوطن” بعنوان “أنا مش قصير أوزعة .. كيف عالجت السينما المصرية الصحة النفسية”؛ ذكر الدكتور أحمد هلال الطبيب النفسي: “إن السينما المصرية أساءت إلى الطب النفسي وإلى المرضى النفسيين وقللت من شأنهم”.

كلمات د. نبيل راغب والمؤرخ زياد عساف والطبيب النفسي أحمد هلال بقدر ما تصف وتحلل “طبيعة سينمائية تقليدية” فإنها بالضرورة أيضًا تحفّز على التفكير في دور النقد السينمائي إزاء هذا “التنميط” التاريخي للجنون في الأفلام العربية .. إن انحياز “النقاد” في الغالب لـ “الخرافات الشعبوية العدائية” التي تحكم طبيعة تناول “الأمراض النفسية والعقلية” كما كتبت في مقدمة المقال لا يعكس فقط غياب الوعي والمعرفة أو القدرة على بذل الجهد “النقدي” بشكل عام لدى “العاملين تحت لافتة النقد السينمائي”، وإنما يشير كذلك إلى “المكاسب المهنية” التي يحصل عليها هؤلاء “النقاد” مقابل اللامبالاة تجاه هذه الطبيعة السينمائية ـ كمثال ـ أو مساندتها والترويج لها .. المكاسب التي وإن كانت منفصلة عن “السينما” و”النقد”؛ فإنها ليست منفصلة حتمًا عن المساهمة في “أشكال العنف المتعددة تجاه الشخصية الموصومة بـ “الجنون” في السينما العربية” من خلال التوطيد المتواصل لإكراهات “تغييبية” لم تنج منها ـ بالطبع ـ الأعمال المقتبسة .. إكراهات ينتجها الحمق والغفلة، وتحرّض على “العداء” وتبرره بوصفه “فضيلة” نحو المصنّف كـ “مجنون” سواء على الشاشة أو خارجها .. إنه التواطؤ الذي يحصل “الناقد السينمائي” دائمًا على مكافأة أو ثمن بقائه عنصرًا فعالًا من تدابيره داخل ما يُسمى بـ “المجتمع”.

أتذكر الآن قصة قصيرة للكاتب والممثل الأمريكي جيسي آيزينبيرغ بعنوان “مراجعة أمينة لفيلم بقلم ناقد سينمائي” وقدّم من خلالها صورة ملهمة لـ “الناقد” الذي نتحدث عنه:

“الخلاصة، ها هي المشاكل الأساسية التي يعاني منها فيلم Paintings of Cole: أنه عُرض في أقصى المدينة وهو الشيء غير المريح، ألَّفه رجل أحسده، عرضته موظَّفة جميلة لم أستطع تذكُّر اسمها المحيِّر، وقائم على فكرة نفَّذتها برداءة أثناء دراستي العُليا، وتلقَّى الإطراء من الـTimes  التي رفضَت أن أعمل فيها”.

كيف يمكنك مقاومة ذلك الإغراء العفوي شديد الإلحاح، والذي يبدو في لحظات كهذه أكثر منطقية وعدلًا من أي فكرة أخرى بأن “تحكم” على “الكائن” الذي ينتمي إلى الأغلبية من “العاملين تحت لافتة النقد السينمائي” بأنه “ميديوكر”؟ .. كيف يمكنك مقاومة ذلك بكل ما لديك من احتقار للمصطلح، وسخرية من تعريفاته، ودأب على تقويض حضوره بينما تراقب أحدهم يلقب بـ “الناقد السينمائي” استنادًا وحسب إلى علاقاته الشخصية والعائلية التي تمنحه الأدوار والمناصب في المهرجانات والمؤسسات الإعلامية وجمعيات النقاد فضلًا عن الورش التي “يُعلِّم” من خلالها “النقد الفني”، وكذلك استثماراته في شركات الإنتاج وتسويق الأفلام إلخ؟ .. كيف يمكنك مقاومة وصف هذا الشخص ـ بأقصى ما تقدر على استدعائه من تهذيب ـ بأنه “محدود الموهبة ـ مدعي ـ غير مميز ” كما يفعل دائمًا “أنطاع القيمة”؟

إن الأمر لا يحتاج سوى إلى التفكير في أن “الميديوكر” ليس “الفرد” الذي يعيد تدوير المستهلك والمعتاد والمسالم ليراكم المقالات والكتب والفيديوهات عن “السينما”، ولكنه “النسق” الذي يستعمل “ميكانزمات الدفاع اللاشعورية” لـ “الناقد السينمائي” وهو ما يستهدفه النقد الثقافي كما تشير د. صورية جغبوب في مقالها المنشور بالعدد الأول من مجلة كلية الآداب واللغات، جامعة خنشلة:

“ينبني النقد الثقافي على نظرية الأنساق المضمرة، وهي أنساق ثقافية وتاريخية تتكون عبر البيئة الثقافية والحضارية، وتتقن الاختفاء تحت عباءة النصوص، ويكون لها دور في توجيه عقلية الثقافة وذائقتها، ورسم سيرتها الذهنية والجمالية، لأن النقد الثقافي مشروع في نقد الأنساق، والنسق مرتبط بكل ما هو مضمر”.

“الميديوكر” ليس الشخص المنحاز إلى “الخرافات الشعبوية العدائية” وإلى القوالب اللغوية الجاهزة في تحليل الأفلام أي ما يضمن إنتاج وتوطيد “الإقصاء” عبر “الوسائط المعرفية” كما ذهب “ميشيل فوكو” في محاضراته عن “المجتمع العقابي”، ولكنه “الانحياز” نفسه الذي يلبي احتياج “الفرد” إلى التطهر وتجديد الولاء وإثبات الانتماء إلى “العقائد الحاكمة” للوعي العام .. “الميديوكر” ليس كائنًا حيًا خاضعًا لـ “التقييم” وفقًا لمعايير “كائن آخر” يؤمن بها كـ “مبادئ شمولية محصنّة”، ولكنه التواطؤ المروّض مع سلطة المجتمع كشبح مترصد، رادع وعقابي، باستغلال الطرائد السهلة، غير المكلّفة، ليضمن “الناقد” مكانته كـ “فاعل ثقافي” غير مُهدِد، أو كابن بار ضمن علاقات القوة التي تفرضها هذه السلطة.

“يُعد استعمال “المعاق ذهنيًا” في تكريس الإيمان بالأنساق المألوفة للحياة بمثابة جائزة كبرى لهذه الأنساق؛ فالأشخاص العاديين الذين يتم توظيف حكاياتهم لتوطيد اليقين بخرافات العالم لا مساءلتها ومحاكمتها؛ هؤلاء يؤدون أدوارًا طبيعية وشائعة، لكن “المعاق ذهنيًا” حين يتم استعباده من خلال السلطة البديهية لهذا اليقين بحيث يتحدد رجاؤه الدنيوي في أن يصبح إنسانًا عاديًا، خاضعًا لأنساق الحياة فإن خرافات العالم تكتسب بفضل ذلك الدعم الاستثنائي مزيدًا من القوة والتأثير كحقائق حاسمة، في إنكارها أو التجرد منها مجابهة لغربة مضنية وهلاك محتوم”.

تلك كانت السطور الختامية من مقالي عن فيلم The other sister الذي أنتج عام 1999من إخراج غاري مارشال وبطولة جولييت لويس وجيوفاني ريبيسي، وكأنها تتحدث عن “الميديوكر” باعتباره “الفكر” وليس الذين يصنعون الأفلام في حمايته، مثلما هو “النمط” وليس الذين ينتجون المقاربات والتحليلات الراضخة لهيمنته .. وكأنها تشير إلى الفرق ـ العسير ملاحظته ربما ـ بين إدراك الفرد بأن ثمة تمثيلًا لذاته يتسم بالصدق والصواب في لحظة معينة، وبين الدوافع والمبررات القهرية التي قادته إلى هذا الإدراك.

الهوامش:

ـ  العناصر النمطية في السينما المصرية / د. نبيل راغب ـ المركز القومي للسينما 2013

ـ نزيل مستشفى الأمراض العقلية .. صور سينمائية / زياد عساف ـ صحيفة “الرأي” الأردنية، 7 يوليو 2020

ـ “أنا مش قصير أوزعة” .. كيف عالجت السينما المصرية الصحة النفسية؟ / رامي الجزيري ـ جريدة “الوطن” المصرية، 10 أكتوبر 2018

ـ مراجعة أمينة لفيلم بقلم ناقد سينمائي / جيسي آيزينبيرغ، ترجمة: هشام فهمي ـ صفحة “المترجم” 2016

ـ النقد الثقافي: مفهومه، حدوده، وأهم رواده / د. صورية جغبوب ـ مجلة كلية الآداب واللغات / جامعة خنشلة ـ العدد الأول، يناير 2015

ـ المجتمع العقابي ـ دروس ألقيت في الكوليج دو فرانس (1972 ـ 1973) / ميشيل فوكو، ترجمة: نصير مروّة ـ المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2022

ـ The other sister: السينما كتجميل للأنقاض الخالدة / ممدوح رزق ـ أراجيك، 1 يناير 2022

تحميل العدد الأول من مجلة “الناقد”

https://drive.google.com/file/d/1y19vVww-tL4TR70yO8RHYxsadi4Kr962/view?fbclid=IwAR0b2nL6x6RtjbBiOOkfHzdpY0fQIwSAL4cz6u_MaRkKRz9fLAunZWtcZXg