سخَّر أديب نوبل نجيب محفوظ، سنوات حياته الطويلة (1911- 2006)، لشيء واحد أكثر من أي شيء آخر، وهو مشروعه الأدبي، وكان عليه أن يزيح من طريقه كل العقبات التي تقف في سبيل تحقيق هذا الطموح، لكن الإزاحة، ربما تبدو فعلاً عنيفاً وصدامياً، تتنافى مع الطبيعة المسالمة لصاحب الثلاثية. كما أنها تنطوي أيضاً على أشكالٍ من الأنانية والانتهازية وكان محفوظ نظيفاً منهما. من هنا كان عليه أن يلجأ إلى طرقٍ أخرى في مواجهة العقبات؛ أن يتجنبها ويتخطاها، عبر أسلوبين مصريين صميمين، هما "المراوغة"، و"التحايل".
المراوغة كان ينتهجها في المسائل السياسية، فمن غير الوارد أن نحصل على رأي أو موقف سياسي صريح لمحفوظ إزاء قضية ما، لأنه كان يعلم خطورة ذلك على إبداعه أولاً، كما أنه كان يُمرّر كل ما يُريد قوله، في الشكل الفني الذي اختاره، وهو "الرواية" التي تُوفر لكاتبها مساحة من الحرية، لتتخفى آراؤه وسط الألاعيب السردية، فلا أحد يستطيع أن يُمسك عليه شيئاً.
أما التحايل فهو الذي أعانه على العيش وفقاً للثنائية المتضادة "الموظف والأديب"، دون أن يكتسب شيئاً من طبائع الموظفين، أو تتعفر روحه بغبار المؤسسات الحكومية التي عمل فيها 37 عاماً. لكن هذين الأسلوبين تحولا على يد منتقدي محفوظ، إلى صفات نُعت بها صاحب "ثرثرة فوق النيل"؛ صفات من قبيل السلبية، والجُبن، ومهادنة السلطة. وكان محفوظ لا يُلقي بالاً لهذه الانتقادات، قاطعاً طريقه نحو تحقيق مشروعه.
عندما أُعلن خبر فوز نجيب محفوظ، بدأ يوسف إدريس حملته الهجومية عليه، فظل يُردد عبر تصريحات أدلى بها للصحافة المصرية والعربية، أن حصول نجيب محفوظ على نوبل إنما هو مكافأة له من جانب الصهيونية العالمية على تأييده للسلام مع إسرائيل، ولمعاهدة كامب ديفيد عام 1979
غير أن هذه الانتقادات تبدو ناعمة وهزيلة إزاء سهام الاتهامات التي انطلقت إلى صدر نجيب محفوظ بعد حصوله على جائزة نوبل في الآداب (تشرين الاول/أكتوبر عام 1988)، فثمة حرائق اشتعلت إثر فوز أول أديب عربي بنوبل، بجانب أجواء الفرح العارم التي سادت في جميع البلدان العربية، وافتتح القاص والكاتب المصري يوسف إدريس ماراثون الاتهامات هذا، بالأحرى ماراثون "التخوين".
كان يوسف إدريس يُمني نفسه بالحصول على الجائزة المرموقة، خاصة بعد أن أوهمه بعض المثقفين والنقاد بأنه تم تزكيته للحصول على نوبل، وأن اسمه مطروح بقوة، وعندما أُعلن خبر فوز نجيب محفوظ، بدأ إدريس حملته الهجومية والتخوينية، فظل يُردد عبر تصريحات أدلى بها للصحافة المصرية والعربية، أن حصول نجيب محفوظ على نوبل إنما هو مكافأة له من جانب الصهيونية العالمية على تأييده للسلام مع إسرائيل، ولمعاهدة كامب ديفيد عام 1979، وكذلك نتيجة لتجنب محفوظ الحديث عن القضية الفلسطينية، أو التنديد بالاعتداءات الإسرائيلية على الشعب الفلسطيني، وبعد هذه التصريحات، انطلقت حملة هجومية شعواء من جانب بعض الكتاب العرب ضد أديب نوبل تتهمه بالتطبيع مع الكيان الصهيوني الذي كافأه بأهم جائزة عالمية حسب زعمهم.
في كتاب "صفحات من مذكرات نجيب محفوظ" للكاتب والناقد رجاء النقاش، يردّ محفوظ على الاتهامات التي وجهها له يوسف إدريس، حيث قال نصاً: "أتصور أن الصهيونية العالمية التي تحدث عنها إدريس ضحكت في سرّها على كلامه. هل بلغت السذاجة بالصهيونية العالمية أن تسعى إلى منح أديب عربي جائزةً كبرى بهذا الحجم لترفع من شأن العرب، وتلفت أنظار العالم إليهم وإلى أدبهم، في حين أن العرب هُم العدو الأول لإسرائيل؟! ثم ما معنى أن الصهيونية أرادت أن تكافئني على موقفي المؤيد لمعاهدة السلام. إن الصهيونية لو أرادت أن تكافئ كاتباً على موقف تُشجعه هي، فقد تضع في يده أو في حسابه البنكي مبلغاً من المال على سبيل الرشوة، لا أن تسعى إلى حصوله على جائزة أدبية هي الأولى في مجالها في العالم".
ربما لم يتخلَّ نجيب محفوظ عن أسلوبه المراوغ في التعبير عن رأيه إزاء أي قضية سياسية، سوى أخطر القضايا العربية وهي "الصراع العربي الإسرائيلي"، فلم يكن رأي محفوظ واضحاً فقط كالشمس، بل كان متهوراً وغير مدروس.
قبل عدة سنوات من توقيع معاهدة كامب ديفيد، وبالتحديد في أوائل عام 1973، وقّع نجيب محفوظ مع عدد من الكتاب والمثقفين، على بيان يُطالب فيه الرئيس أنور السادات بضرورة إنهاء حالة اللاحرب واللاسلم، عبر الاتجاه إلى التفاوض مع إسرائيل، وقبل هذا البيان، كما يحكي الكاتب محمد سلماوي في كتابه "في حضرة نجيب محفوظ"، كان الرئيس الليبي الراحل معمر القذافي في ندوة بجريدة "الأهرام"، وحوله عدد هائل من الكتاب والأدباء، وإذا بنجيب محفوظ يسأله: هل من الممكن أن نحارب إسرائيل وننتصر عليها ونُحرّر أراضينا؟ فرد عليه القذافي: مستحيل. فقال محفوظ: إذاً التفاوض والسلام هما الحل.
وفي عام 1976، انفتحت نيران الاتهامات والتخوين في وجه نجيب محفوظ، بعد حوار أجراه في السابع من كانون الثاني/يناير من العام المذكور، بجريدة "القبس"، وكانت الإصدارات الصحافية في سباق محموم حول صياغة العناوين النارية التي تلتهم صورة محفوظ ومكانته الأدبية والثقافية، ففي سياق الحديث عن حرب تشرين الأول/أكتوبر والمسار السياسي الذي اتبعته مصر بعدها، قال محفوظ نصاً: "إنني أريد السلام وأقبله، حتى لو اقتضانا هذا التنازل عن جزءٍ من الأرض، فالأرض لا قيمة لها في ذاتها، الأهم هو الهدف، ويجب أن يكون هدفنا هو بناء الحضارة، نحن نضحي بالإنسان وندفعه إلى الحروب ليُقتل من أجل الهدف، فلماذا لا نضحي بالأرض إذا كانت هذه التضحية ضرورية لتحقيق الهدف الأكبر وهو السلام من أجل بناء الحضارة".
في عام 1976، انفتحت نيران الاتهامات والتخوين في وجه نجيب محفوظ، بعد قوله: "إنني أريد السلام وأقبله، حتى لو اقتضانا هذا التنازل عن جزءٍ من الأرض، فالأرض لا قيمة لها في ذاتها، الأهم هو الهدف، ويجب أن يكون هدفنا هو بناء الحضارة".
هذا كلام خطير لا شك، وهو منافٍ تماماً لطبيعة محفوظ الكتومة المراوغة، وكان من الطبيعي أن يُدان ويُهاجم، لكن البعض قد تمادى في هذا الهجوم إلى حد التجريح والتخوين، واتهمه بعض الكتاب العرب بأنه يعمل ضد الحقوق الفلسطينية، بل أنه لا يرى الشعب الفلسطيني على الإطلاق، مدللين على ذلك بأنه لم يكتب أيّ عمل روائي أو أدبي عن القضية الفلسطينية التي هي قضية العرب المركزية.
وبرغم أن معاناة الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية وغزة على وجه التحديد كانت جزءاً أساسياً في خطاب نوبل الذي ألقاه نيابة عنه في الأكاديمية السويدية الكاتبُ المصري محمد سلماوي، إلا أن هذا لم يُغير من الأمر شيئاً، وظل محفوظ بالنسبة لبعض الكتاب العرب في خانة "المُطبعين مع الكيان الصهيوني"، برغم أن ياسر عرفات، كان قد هنأه بحصوله على نوبل وكذلك الشاعر محمود درويش، وغيرهم من رموز النضال الفلسطيني.
ما يحدث الآن من عدوان إسرائيلي على قطاع غزة، وكذلك الضفة الغربية، يُظهر كلمة "السلام" ملطخةً هي الأخرى بدماء القتلى الفلسطينيين، ولأن نجيب محفوظ، القامة الأدبية الكبيرة، هو واحد من أول الداعين إلى إقامة السلام مع إسرائيل، لإنهاء قضية الصراع العربي الإسرائيلي، رأينا أنه من الضروري، مراجعة هذا الموقف لأهم أديب عربي، في ضوء الاعتداءات الصهيونية على الشعب الفلسطيني.
في حواره مع رصيف22 رأى الدكتور وليد الخشاب أستاذ الدراسات العربية بجامعة يورك بكندا، أن موقف نجيب محفوظ المؤيد للسلام مع دولة الاحتلال كان متسقاً مع قيمه، ومنطلقاً من موقف أخلاقي محبذ للسلام العالمي وليس فقط على الحدود بين مصر وجيرانها، مشيراً إلى أن أديب نوبل كان أكثر ميلاً للحس المصري القُطري، والذي عبره تتحلل مصر أو تتحرر من التزامات عربية -تجاه فلسطين مثلاً- ، وتوفر نفقات الصراع والتعبئة المتواصلة في إطار صراع سلمي أو حربي إلى التنمية الاقتصادية، ليعيش المجتمع المصري في حالة من الاسترخاء.
هذا هو تحليل الدكتور الخشاب لموقف نجيب محفوظ الذي يراه لا غبار عليه من حيث المبدأ، لكنه يواصل: "الإبادة العرقية التي يتعرض لها إخواننا في غزة تضعنا أمام حقيقة مؤلمة، وهي أن اليمين المتطرف في دولة الاحتلال قد استمر في الصعود منذ بدء عملية السلام مع مصر منذ نصف قرن، وقد ازداد ذلك اليمين في تطرفه، وبالتالي من السذاجة أن نتصور أن قواعد اللعبة وموازين العلاقات بين مصر وجيرانها إلى الشرق لم تتغير. ومن السذاجة أن نتصور أن النظام المهيمن على إسرائيل يحافظ على السلام مع جيرانه العرب من باب احترامهم، لا من باب تقديره لخسارته لو ناصبهم العداء عسكرياً".
ويضيف الخشاب أن ما تفعله إسرائيل بغزة هو بمثابة رسالة إلى مصر والأردن وسوريا ولبنان، وإلى الدولة الفلسطينية في الضفة، مفادها: التزموا بهيمنتنا عليكم وإلا أصابكم ما يصيب الغزيين.
وفي مسألة العلاقة بين حصول نجيب محفوظ على نوبل وتأييده للسلام مع إسرائيل، يرى أستاذ الدراسات العربية، أنه من الظلم تصور أن نوبل ذهبت لمحفوظ بفضل تأييده للسلام مع إسرائيل، "فنجيب محفوظ عملاق أدبي بصرف النظر عن مواقفه السياسية. ومع ذلك فبالتأكيد أن نوبل لم تكن لتمنح لمحفوظ لو كانت له مواقف حادة في مناهضة إسرائيل. ولهذا فلم يكن ممكناً أبداً أن يحصل محمود درويش على نوبل برغم أنه أهل لها، فهو يمتلك كل مقومات الحصول على الجائزة إلا في ما يتعلق بالدفاع عن الحق الفلسطيني".
وفي حين يرى صاحب "مهندس البهجة" وليد الخشاب، أن انتقاد بعض المثقفين لموقف محفوظ منذ ما يقرب من خمسين عاماً أمر مقبول، بسبب تسيد الموقف المناهض للسلام مع إسرائيل في ذلك الزمن، إلا أن الروائي والناقد ممدوح رزق له رأي آخر، حيث يقول لنا: "هؤلاء الكتّاب الذين هاجموا محفوظ لا يريدون مؤيدين ومساندين لـ'ملائكيتهم' في 'حروبهم الانتقائية' وحسب، وإنما قبل كل شيء يريدون الصامتين عن ما يقوّض 'المبادئ' التي ترتكز عليها آلياتهم الرقابية والترهيبية والعقابية... يريدون من لا يفضح انتهازيتهم المعروفة لـ'القضايا الكبرى' من أجل ممارسة العنف والتنكيل تجاه الآخر، اكتساباً للقيمة المجانية، تعويضاً عن الهزائم والآلام الشخصية، وتضليلاً للعجز عن 'الفعل المُغيّر والحاسم' بـ'الكلام' حول 'موضوع عام' لا يكلفهم بأي 'فعل'، بل على العكس، يكافئهم على 'الخزي' أو 'العار' الذي لا يتحملون مسؤوليته، ولا دخل لهم في استمراريته، ولكنهم يجيدون الصراخ والنحيب والقتل البلاغي من حوله".
وبرغم أن الروائي الشاب لا يؤيد فكرة السلام مع إسرائيل ويراها ساذجة ومستحيلة، إلا أنه لا يسخر من الدوافع التي جعلت نجيب محفوظ مؤيداً لفكرة السلام لأنه بحسب تعبيره"لست نجيب محفوظ؛ لم أعش حياته، ولم أجرّب ما مرّ به طوال وجوده على الأرض، ولم يكن جسدي هو الجثة التي خلّفها موته... يمكنني -بل وأفعل ذلك بشغف- السخرية من سلطةِ اسمه الأدبي المتوالدة عبر الزمن، لكنني لست في عداء مع ما يعتقده أو ما يتفوّه به".
ويذهب ممدوح رزق إلى نقطة مغايرة في هذه القضية، حيث يرى أن الهجوم على محفوظ كان نابعاً في الأساس من موقفه المختلف عن الأغلبية، وليس بسبب الموقف في حد ذاته، مشيراً إلى ديكتاتورية الأغلبية، وما تقوم به من أساليب عقابية وترهيبية، "كان هناك احتياج إلى أن يكون أديب نوبل مثل الجميع أو الأغلبية التي ترفض السلام مع إسرائيل، أي أن يفكر ويتحدث بنفس الطريقة التي يفكر ويتحدث بها كل الذين يؤمنون بتحرير الأرض الفلسطينية كاملة، وإلا فالجزاء 'الأخلاقي' لن يتعلق بنجيب محفوظ فحسب، وإنما بتاريخه الأدبي أيضاً... ستكون القضية الفلسطينية 'سلاحاً نقدياً' لاستهداف أعماله، ومطاردتها بالمعاني والدلالات 'التخوينية' أو 'التغييبية' في أفضل الأحوال".
برغم أن معاناة الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية وغزة على وجه التحديد كانت جزءاً أساسياً في خطاب نوبل الذي ألقاه الكاتب محمد سلماوي نيابة عن محفوظ في الأكاديمية السويدية، إلا أن هذا لم يُغير من الأمر شيئاً، وظل محفوظ بالنسبة لبعض الكتاب العرب في خانة "المُطبعين مع الكيان الصهيوني"
وأوضح رزق أن موقف نجيب محفوظ يُذكرنا بشيء من العسير جداً الانتباه إليه فضلاً عن تبنّيه والإيمان به، وهو "كيف تكون 'الحرية' التي تقف وراء أي موقف مختلف 'غير تحريضي' سبباً في 'الإبقاء على حياة صاحبه'، لا قتله؟… الحرية التي تكوّنت على أساس ماض شخصي لم يختبره 'الآخر'؛ وذلك كافٍ وبديهي لأن يكون انحيازك -مهما كان جماعياً- شأن خاصاً بك، وليس سلطة مطلقة".
ويأخذنا أستاذ الأدب العربي الحديث بجامعة القاهرة الدكتور خيري دومة إلى زاوية أخرى في قراءته لموقف نجيب محفوظ من الصراع العربي الإسرائيلي، حيث يقول إن نجيب محفوظ اتخذ في هذه القضية وفي غيرها من القضايا التي طرحها عليه عصره، موقفاً فلسفياً عقلانياً، مشيراً إلى أنه كان مؤمناً بالعقل والعلم في إدارة أمور الحياة الواقعية. ولم يعبر محفوظ عن موقفه هذا في رواياته أو قصصه، وإنما عبّر عن موقفه في الحوارات الصحافية، أي أنه اعتمد على مقاصده الواعية. أما في رواياته، فالأمر مختلف، ويخضع لمنطق داخلي خاص. حتى في رواياته –خصوصاً "اللص والكلاب" مثلاً- يعرف محفوظ أن الانفعال والعواطف والانتقام أمر بشري وطبيعي في أبطال رواياته الخيرين، لكنه ينتهي بهم إلى مصائر مظلمة ما لم يأخذوا العقل والحكمة في اعتبارهم.
ويوضح أستاذ الأدب الحديث أن موقف أديب نوبل لم يكن نابعاً من ثقة في إسرائيل بقدر ما هو نابع من رؤية تقول إن الحضارة وليس القوة هي التي تنتصر في النهاية، وأن من الأفضل أن نتخذ هذا مدخلاً للقضية. ويضيف: "في كل ما جاء بعد عملية السلام الطويلة، وصولاً إلى ما نراه من مذابح مرعبة في غزة الآن، خيبت أفعالُ إسرائيل في كل مرةٍ توقعاتِ محفوظ الذي كان بالفعل حذراً في تعبيره من البداية. ومع أننا في غمرة الانفعال والبكاء لأطفال غزة نكاد نصل إلى رفض قاطع لرأي محفوظ في طبيعة العلاقة بيننا وبين إسرائيل، فإن صوته العاقل يمثل جزءاً أصيلاً من رؤية المصريين غير المعلنة: 'يجب أن نستعد، لكن يجب في النهاية أن نجد طريقاً غير الحرب لأن نتائجها كارثية حتى ونحن نحقق انتصارات تكتيكية'".