الخميس، 7 ديسمبر 2023

سمكة زينة في صحن الخلود: الفناء مغامرة شعرية

في المجموعة الشعرية "سمكة زينة في صحن الخلود" لرضا أحمد، والصادرة عن سلسلة "الفائزون" بالهيئة العامة لقصور الثقافة؛ ثمة لغة تتشكل وفقًا لامتزاج متعدد بين الحدة والتمزق، تكشف بواسطته الذات عن استعارتها لخطاب الفناء كي تتكلم نيابة عنه بينما تتحدث عن نفسها. ذلك يبدو كأنه محاولة ضمنية، مراوغة، ولا تخلو من هزل بالطبع لاستنطاق هذا الفناء على نحو فعلي. كأن الذات تستخدم شعريتها في دفع الفناء لتعرية جوهره بدرجة النقاء القصوى أي بخالص فداحته، ولكن من الجانب المقابل لسطوته. لا من موضع غيبيته المعتم وإنما عبر بصمته المقهورة في العالم الممثلة في الذات، التي تقدم نفسها ظاهريًا ككائن يحكي سيرته وحسب. كائن يحفر صورة الخراب والقمع والتنكيل في مظاهره الرقابية والاستجوابية والعقابية المهيمنة، باعتبار ذلك الكائن مجرد فكرة استعراضية، عاجزة ومسجونة في ذهن المطلق. تحمي المطلق بفقدها المتواصل لكل ما تتوهم امتلاكه؛ حيث كل حلم بالنجاة ليس إلا تعميقًا عفويًا خبيثًا لعلة الوجود المبهمة، الغائرة في جسد الكائن. فكرة مؤقتة تختبر الألم والبؤس والتيه دون أن يكون بوسعها أن تصبح شيئًا مناقضًا لا يُقتل، متحرر ومحصن وخالد، أي ليس ناجمًا عن لغة. فكرة تأخذ دور الدوبلير في لعبة الإثم، تخضع لكل جلاد بوصفها انتهاكًا كونيًا. مصدرًا للذنب كبديل لذنب القداسة. نقرأ في قصيدة "سمكة زينة في صحن الخلود":

سأقول أنني غنيت

وأنني أعرف الصهيل والهدير والآلام الأخرى؛

لسنا في حال أفضل

لكننا على الأقل

لا نغمس لقمتنا في الطين

ولا نضيق على أولياء الله

زوايا الأضرحة،

لا نعاتب الرب خفية

ونطمئن ذئاب الزمن على خرافنا الهادئة؛

أوباش وحفنة من العجزة

نحن

حين نخرج لندافع عن الوطن في الظل

نترك دقيقنا المالح يعج بالديدان

وسواقينا تعيد طلاء الماء بالصدأ،

نهرب إلى الإسفلت؛

سيارات أهدرت المسافات كلها

ولم تجد في الطريق

دارا واحدة.      

إن الذات حينما تتحدث إلى نفسها / الآخر بالكيفية التي تجعلها تبدو كأنما الفناء يعرض جسامته من خلال صوتها؛ فإن ذلك يسعى لإكساب ذلك الفناء الشعرية اللازمة لجعله مفككًا لنفسه، مؤوّلًا لشره، كاشفًا عن سره. ليس مجرد مصير مرعب يتحدث بلسان العابر الخاضع لهذا المصير كمفارقة إيحائية. لأن الفناء ليس ناتجًا عن حياة حقيقية وإنما هو الحياة التي التهمها الخلود استباقيًا. الحياة التي تدعي أنها ليست الموت، أنها ليست النهاية، وكأن النهاية لا تسبق دائمًا الحياة المفترضة، وكأن "الحياة" ليست نتيجة النهاية الأزلية التي تتقدم على كل وعد بـ "الخلود". الفناء هو المشيئة التي قدّرت تفاصيل الزمن أكثر من كونه يقينًا يعقب تبدده.

الطريق بين عينين

هوة سحيقة

جرح عميق بين ضمادتين،

فلا تعش كذبتك طويلا؛

ليس للزمن وجوه يألفها

ولا للمكان سماء لا تتنازع فيها البنادق

ولا أنت بالكبش الثمين

ليهاتفك الوحي

إن لم يقتلك التدافع في طوابير الخبز

ستقتلك خطواتك

في الطرق المعبدة بشعائر الرب.

"كل ما تقوله سيستخدم ضدك"

فلا تظن أنك في مأمن

الأتقياء سيمتطون ظلك

ويصرخون:

أين كنت حين تجعدت بشرة الشمس

ونمت على ذراع القمر الخفافيش

والليل قادم؛

سيقشرون رأسك كتفاحة معطوبة

بحثا عن خطيئة آدم.

صوت الفناء إذن في الباطن الخفي لصوت الذات. يتحدث بضمير الأنا في صمت الشعرية. في أغوار لغة رضا أحمد. يقول عن نفسه ـ من وراء جحيم الذات المتكلمة ـ بأن سره لا ينكشف إلا بقدر ما تحصده الشعرية من غموض مضاعف وأكثر تعذّرًا. الشعرية التي تعيّن "المشهد" كمجابهة. المشهد المنسوج من الحدة والتمزق. المرئي في مقابل الغيبي. لكي يرى الغيبي نفسه ـ حين يمتلك صوتًا بشريًا مضمرًا ـ فيمكن للذات أن تبصره في إذعانها المرئي له. أن تتقمص غموضه. تؤجل كابوسيته في زمنها الداخلي. تتفاوض مع الأمان باعتباره شبحًا. تنفلت من بلاغة الحكمة، أو تلامس حافتها الغائمة. تحرّض المجهول على الصدق حين يتفاخر بأكاذيبه. وكأنه مجاز التبادل بين الذات والغيب. بين الجحيم والفناء. المجاز الذي يكافح لتضليل اللغة. الذي يبقى عالقًا في اللغة. مشروطًا بإكراهاتها. وكأن الشعرية هي الكفاح في حد ذاته لجعل اللغة تقاوم نفسها. تتفتت ذاتيًا كما يليق بأشلاء "مخلوق" لم تتوحد على الإطلاق وإنما تم استبدالها بسراب التكوّن . الشعرية التي تمثل الخلود المضاد. التي تحوّل الفناء إلى مغامرة تراهن خلالها الذات على دمائها لكي تصبح أبديتها الخاصة. أثر سمكة الزينة في فراغ الصحن.

بيده الخضراء

كان الحب يقظًا

لم يدع لقاءنا للصدف؛

أريد ليلة بطول نجمة بيضاء

أكتب عليها طالع رجل لا يفارقني

أريد حديقة انتظار لا تذبل فيها عيناي،

مَن يدير هذه الضجة في الخارج؟

مَن علق النجمة في سماء نائية؟

المسافة ليل،

قدمي حائرة،

رأسي نائم في أصيصه

وجرادة تبحث بين أشواكه

عن وجبة عشاء.

تفصح الذات عن هذه الأبدية بشكل واضح في قصيدة "في قلبي أبدية معك". الفناء يتكلم عن نفسه بينما تتحدث الذات عن الفراق، الذبول، النأي. هكذا تعرّف كلمات كالحب، الليل، النجمة، السماء. تعرّف بواسطة دراما البتر والتناثر التي تشيّدها رضا أحمد في قصيدتها. البتر والتناثر كفعلين متلازمين، متزامنين، يشكلان حدثًا واحدًا، قديمًا، ملغزًا، يسبق الكلمات ويخلقها، ليختبئ الزوال في صدوعها العمياء. "من يدير هذه الضجة في الخارج؟"، سؤال يبدو ساخرًا لو نظرنا إليه من وعي الفكرة الاستعراضية التي يجسدها الكائن، لو أنصتنا إليه بنبرة "سمكة الزينة". ذلك لأن العرض هو الفناء الذي تحوّل خطابه المستتر شعريًا إلى ذات "يأكل الجراد من رأسها". نقرأ في قصيدة "وحوش في وردية ليلية":

أفكر أننا منذ ساعة وجدنا علاجًا للخوف

بوضع  الألم على طاولة

تحفها القفازات الدامية وصلاة طبيب،

فركنا الحزن في منديل

يخلصنا من النداء الأسير للوداع

وارتعاش القلب،

أنت وحيد

وأنا أنتظرك كل ليلة

كي لا تفقد أحلامك

وأفقد لعبتي المفضلة.

في هذه المقاربة تبدو رضا أحمد وكأنها تعيد تصوير الزوال خياليًا منذ البداية، أي منذ أن كانت قصة العالم خامة متوارية في الظلام الغيبي؛ فتشكل عناصر بدئها ومسارات حكاياتها عبر الذاكرة الشخصية للأنا الشاعرة، بواسطة قصصها، دموعها، الكوابيس التي تحتل موضع حضورها. لكن هذا التصوير يبدو وكأنه يرتب هذه الذاكرة الشخصية بينما "يحكي قصة العالم" بأثر رجعي. ينقّب عن جذر الخوف، الذي يمكن أن يتحوّل ـ بهذه الطريقة ـ إلى لعبة لا تعوّض الذات عن عدم اقتلاعه، ولكنها تناوشه، تخاتل ترصده، لا تسمح له بأن يبقى مجردًا من الخدوش. يبدو أيضًا ترتيب الذاكرة كأنه هو ما يقود الفناء لتفكيك نفسه، ذلك لأن الفناء ليس نهاية الخوف وإنما أصله وطبيعته. الخوف الذي يستعمله الخلود حيث لا حياة تغاير الموت. حيث لا شيء سوى الموت. الموت الذي يوهم بالحياة عبر جمود قاتم ولئيم يدعي الحركة والتبدل ويُسمى "الزمن". نقرأ في قصيدة " سأنتظر الموت في شرياني التاجي":

الوحدة

أزيز متقطع لشريطك الجيني

يباعد بينك وبين مرآة

تأكل بنهم أرواحك السبع،

لو قلت إنني تفرجت على حياتي من الدور الرابع

ستصدقني عضة البرد

والبومة التي تتسكع الآن على نافذتي،

أنا رأيت نفسي يا عالم

وعرفتها...

بعد عشرين عامًا من الآن؛

عجوزا تهذي في جنازة

تحمل في حضنها راديو كقلب حبيب يخفق

راديو مازال بشوكه ودمه

ووظيفته القديمة،

تحتفظ بالأمل في برطمان أزرق بجوار الكمون

واليأس منشور مع الفلفل الأحمر في البلكونة،

ببعض الحبوب تطعم يمامة جريحة

وباليمامة تنقذ غرابًا أعرج،

تنزوي ذاكرتها في كل رائحة مألوفة

وتصلي على كسرة ضوء،

يقول طبيبها أن الأبدية دودة عملاقة تأكل كبدها

فتضحك،

تلك القهقهات تتدلى فوق رأسها كل ليلة

فتقطف منها واحدة

تبتلعها مع حبة مسكن

وتنام.

يرتب المشهد الذاكرة الشخصية كمجابهة تعيد تمثيل الفناء، ليكون هذا الأداء استشرافًا لا للذات فحسب، وإنما لما سيصير إليه الفناء بالضرورة في ادعائه "الحياة". ما ستكون عليه الوحدة، المرآة التي يمضغ الزمن الملامح والأجساد بداخلها، البرد. الفناء يستشرف نفسه كبومة تتسكع على النافذة بواسطة البصر البشري الذي يشاركها / يتوحد معها في تفحص لحظة الرؤية الممتدة في الوقت. هذيان الموت، ثرثرة العالم كونس معذّب، الأمل الصدئ، اليأس الناضج دومًا، الجروح التي يلتهم كل منها الآخر، الانطواء في ومضات وشظايا الحنين، التوسل في ظل الظلام. ما تتغذى عليه "دودة الأبدية". ما يصنع "الأبدية الخاصة" التي تتلصص على الفناء بضحكات وجع مزمن، ما يؤلف عزفًا منفردًا كما في قصيدة "عزف منفرد":

إنه جسدي أو خرابي

لائحة أمراض تمشي على قدمين

طرحها أوراق تهذي بألم وقيح

ثمارها أقراص أسبرين

فلا تسألني عن بيت تقصده

ظلي توابيتك التي لا تعد،

في الجُرح أسمع دبيب حواسي

وهي تغلق على خوفكَ الباب.

تعزز هذه القصيدة حالة "العراء" أو "الوحشة" التي تنسجم مع التسلط القدري للنبذ، الإقصاء، الجسد المطرود من الخلود، من حصانة الخلود، بكل ما يعنيه ذلك وينتجه. العراء الذي يجعل الخوف ملاذًا حين تراهن الذات على شعريتها في مواجهة زوالها المحتوم. الوحشة التي تجعل الألم سكنًا حين تبني الذات مشهدًا وعرًا ومتهدمًا  لغيابها الأبدي في مواجهة "الأبدية" نفسها. صوت الخراب الشاحب والمتقطع من وراء باب أو غطاء تابوت.

أخبار الأدب

3 ديسمبر 2023