الأحد، 23 أغسطس 2020

خبرة اللعب

 كان غريبًا ألا ينسحب بالرغم من أنه لم يكن لديه أي فرصة للفوز .. معظم فيشاته كانت "محبوسة"، وإعلان مكسبي مسألة وقت لا أكثر، لكنه واصل اللعب دون إبطاء كأنه لا يعرف أنه لا أمل له .. كانت طريقة لعبه تدل على كونه مبتدئًا، وهو ما بدا متوافقًا مع النقاط القليلة التي جمعها من أدواره السابقة .. فكرت في أنه تعلّم اللعبة منذ مدة قصيرة، ولهذا فإن عدم انسحابه ليس راجعًا إلى عناد أخرق بل إلى واجب يدرك أن عليه الالتزام به .. إلى ضرورة لا يجادلها عادة غير البارعين في اللعب بأن يستسلم للانتظار حتى النهاية .. كان يبدو كأنه مكلف باستكمال الدور طالما بدأه حتى لو لم تكن خسارته محل شك.

تخيلته رجلًا في منتصف العمر، يعمل موظفًا بمؤسسة حكومية، ويجلس الآن ممسكًا بهاتفه المحمول داخل حجرة المعيشة بمنزله، وفي وضعية توحي بصورة ما بأنه ضيف على المكان، بالرغم من البيچاما التي يرتديها، وزوجته التي تجلس بالقرب منه تتابع دراما تليفزيونية، وأطفاله المنهمكين حولهما في مشاغل مختلفة بين المذاكرة واللعب .. ربما كان له صديقان، أو ثلاثة على الأكثر، يعتبرهم كذلك فقط احترامًا للذكريات، ولا يلتقي بهم إلا في مواعيد متباعدة، مثلما يفعل مع أقاربه القليلين، وفي الأغلب لا يخرج من البيت مساءً إلا لقضاء غرض منزلي، حينئذ يحقق أمنيته في "التمشية"، دون أن تستفرد به أشباحها كمقامرة خالصة .. ربما يختزن هاتفه صورًا لنساء جميلات لا يعرف أسماءهن، ومشاهد ساحرة لا يميّز أي مدن تنتمي إليها، وأغان قديمة يسمعها حين يكون بمفرده كي لا يرى أحد عينيه وقتها .. ربما أراد طوال عمره اقتناء قطة، لكن خوفه من موتها وهو لا يزال حيًا حرمه من ذلك .. ربما لا يزال يراقب الطيور في السماء، ويمد كفيه لاحتواء قطرات المطر، ويعيد قراءة القصص المصوّرة الكلاسيكية التي يحتفظ بها منذ زمن طويل .. ربما يخبّئ عن زوجته وأطفاله سيجارة واحدة يستعيرها كل فترة وأخرى من أحد زملائه في العمل حتى يدخنها عندما يتركونه وحده مؤقتًا بالبيت .. ربما زرع بعض النباتات ـ من بينها الريحان مثلًا ـ أملًا في استنساخ شرفة طفولته .. ربما لا يزال يتأمل وجهه في المرآة، ويحلم في نومه الشاحب بأماكنه المهجورة وقد استردت الماضي في ألفته الأشد وطأة، كما يتلصص على الظلال المنكمشة التي تتبدد سريعًا في شقوق الفراغ .. تخيلت طبيعة ذاهلة لنظرته، كأنما يتطلع دائمًا إلى كل شيء رآه مرارًا من قبل للمرة الأولى.

في اليوم التالي بحثت عنه حتى وجدته وبدأنا اللعب .. لم يتبدّل مسار الدور عن الأمس، لكنني قررت اختبار رد فعله تجاه مضايقة تقليدية .. تعمدت التأخّر في رمي النرد كل مرة إلى الثانية الأخيرة من الزمن المحدد .. يفترض أن يفتت هذا تماسك أكثر اللاعبين قدرة على الصبر، خاصة لو كانت هزيمتهم مؤكدة .. مع ذلك استمر في الدور، بل ولم يرد عدائيتي في اللعب بتأخّر مماثل، وظل محتفظًا بإيقاعه السريع حتى الحركة الختامية.

لهذا تغيّر الأمر .. أصبحت لا أدخل اللعبة إلا من أجله .. لكي أرمي النرد دون تأخّر، وأحرّك الفيشات بطريقة سيئة حتى يفوز .. أصبحت أفعل هذا كل يوم حتى يكون سعيدًا للحظات .. حتى أطلب لروحي السلام من داخل قبري.

موقع "صدى .. ذاكرة القصة المصرية" ـ 22 أغسطس 2020