هذا الإيقاع يبدو كأنه ارتحال في خفاء الوصل
بين الموجودات، أي اكتشاف منغّم لما يشمل الماديات وحركتها من انسجام كوني مستتر،
يتجاوز المكان والزمان. سَفَر بلاغي، يخلق جسورًا روحية أو ينظّم طقوس توحد وغياب
في المشيئة المحتجبة لمكائد الأقدار وتدابير المصائر .
"صف طويل من الأبواب مرصوصة على جدار،
صماء لولا بعض الخربشة والخدوش، أو هي نقوش دفنها الوسخ. درف كثيرة اعتادت أن
تُفتح على كل شيء قبل أن يخلعها الفيضان بلحم البيت ويتركها في الخواء. ينقلها
مقاول لمقاول، مخزن لمركب لشيال يدفعها عن كتفه على هذا الجدار، مرمية بلا حكاية
تُقفل عليها، ولا جسد فائر تحميه، دون عين تتلصص ولا أذن تتسمع ولا رائحة كمكمة
تخرج ولا شمس تدخل. قطعة من الخشب وشيال فحسب".
هذا المشهد الافتتاحي للرواية أشبه بلوحة
لفان جوخ إذا ما أضفنا إليه الصراخ والدوار اللوني المميز لأعماله كـ "ليلة
النجوم" مثلًا أو "حقل القمح وأشجار السَرو" أو "طريق الريف
في بروفانس في المساء". "أبواب متروكة في الخواء" تعيدني إلى
"الخواء العليم" الذي تحدثت عنه في قراءتي لرواية وائل ياسين السابقة
"لا شيء يحدث هنا": "الخواء هو الراوي متنكرًا في صوت
مألوف. كأن الحكاية حلم جماعي يمر في رأسه. حلم يكافح لتجميع أشلاء الخيال
المتطايرة من أذهان الرواة عبر الزمن، والرأس الذي لا يمكن اصطياده. يمتد الحلم من
الأصل الغامض له، ويمر عبر الأجساد المتعاقبة، مشكّلًا نفسه على نحو مغاير كما
يليق بالإرث الذي يترصّد كل شخصية، وبالجسور المحترقة التي ستحاول العبور منها نحو
ظلام الآخر".
الإيقاع في هذا المشهد الافتتاحي، وكما
أدركنا دوره كحيلة لتقويض المعرفة بواسطة الادعاء الشكلي لوجودها، هذا الإيقاع هو
حركة في خفاء الخلخلة وليس الوصل، وبذلك يكون "التفكك" هو الموضوع
المستتر لـ "التجانس" المعلن الذي تتظاهر به اللغة. "التجانس"
الذي يبدو أنه يتم توظيفه لمقاومة ما أصاب الأبواب من "انفصال" عن
بيوتها. الأبواب هنا في حالة مناقضة، كاشفة لطبيعة أصلية، أي هادمة لما اعتادت أن
توهم بها سماتها وأدوارها، تستغل الإيقاع الذي يريد تغطية انفصالها لكي يبرز هذا
الانفصال بشكل مضاعف. الأبواب هنا تُعطّل مفهومها؛ فهي لم تعد وعدًا بالدخول
والخروج، البقاء والرحيل، الإخفاء والفضح، الاحتجاز والتحرر، السكن والتشرد،
الأمان والأذى، التلصص والمواجهة، هذا التعطيل المفاهيمي للأبواب سيبدّل بالضرورة
من طبيعة الأجساد التي تستعملها، يكشف ما يخبئه الوعي، الحركة، الرغبة لديها، ما
لا يبصره الجسد عن نفسه.
ذلك ما يهدم رمزية الأبواب التي أشار لها
غاستون باشلار، أي "فكرة الانتقال" من شيء إلى آخر، أو الأفق المجازي
للخطو أو الاجتياز، حيث يمثل العبور من مكان إلى مكان تغيّرًا أو تحوّلًا ما، وهو
ما يمتد عفويًا إلى "الأبواب" في مجموعها، أي التي لم تصرّح بعد بـ
"الانفصال" المتجذر في حكمتها المرئية. الباب، وفقًا لذلك، جدار مطلق،
غير مرئي، لا يمكن اختراقه، ليس بين جسد وآخر وحسب، وإنما، في المقام الأول، بين
الجسد ونفسه، بين كل ما ينطوي عليه كل جسد ونفسه، وكأن الجسد في حد ذاته هو الباب
الذي لا يُفتح. الجدار الناجم عن هدم الثقة التي تزعمها آلية الفتح والإغلاق.
من هنا لم يعد الخلاء أو التخلي أو التجلي أو
الندم أو المس أو الونس أو التيه أبوابًا، وإنما إشارات خيالية للفكر، لتذويب حركة
هذه الأبواب، لتعرية ما يواريه إيقاعها الذي تجسده اللغة، ومن ثمّ فكل باب هو الذي
يحكي سرابه، يفتت ذاكرة ما يسرده لتصير الحكايات كأنها بلا ماض فعلي حيث لا يعدو
ما تسترده سوى أطياف متناثرة، متحوّلة طوال الوقت، وهذا ما تمثله الطبيعة الشذرية
لفصول الرواية. كأننا "ننصت" إلى راو متنكر، يمرر عماءً متجذرًا من
ثنايا ما يبدو أنه نتاج علمه، وبالتالي فكل ما "يتفوّه" به هو نسخة من
شخص، شيء، حدث، قابل للاستبدال، للمحو من أجل سياق آخر، كما لو أن استعادة الذاكرة
تجريب للاحتمالات، أو خلق ما يُسمى أبوابًا في "العراء".
"ماذا رأى الأستاذ فرج في سعيد؟ أو
بالأحرى: ماذا رأى سعيد في فرج؟ لا نعرف. لكن، بعد ظهور حنان في الصورة مع سعيد،
شيء ما حدث، شرارة ما نشبت في كومة قش، إشارات بينهما غير مفهومة اكتسبت معنى
مشتركًا لم يقدرا على تمييزه".
في هذا المقطع مثال للطريقة المألوفة التي
يعتمدها الراوي الشعبي حين يلجأ إلى وقفة تصرّح تشويقًا لا اعترافًا بعدم المعرفة
، وفي نفس الوقت يثبّت بواسطة الإيقاع الذي ينظّم حكايته علمه بإجابة استفهامه.
نلاحظ مثلًا في بداية المقطع تساؤلين متعاقبين، يأتي الثاني استدراكًا للأول، لكن
هذا لا يعني الاستغناء عن ذلك التساؤل الأول والاكتفاء بالثاني، يحتاج الإيقاع إلى
هذا التعاقب للتساؤلين ليجذب الذهن إلى لعبته. وائل ياسين يستخدم هذا التقنية
ليضاعف الخدعة، أو ليطوّر اللعبة، فالراوي لا يعرف حقًا وإن بدا أنه يوحي فقط
بالتظاهر أنه ليس متأكدًا مما تخفيه النفوس؛ فإذا كان الراوي الشعبي يوارب بابًا
بين الشك والجزم؛ فإننا هنا إزاء إلهام بتعذر الفصل بين مكانين. الباب هنا ليس
علامة بين الغفلة والكشف، ولكنه شاهد على الغياب، غيابه كوسيلة إدراك، ومن ثمّ
غياب ما يوهم بكونه قابلًا للإدراك على جانبيه، وكأن حضوره كشاهد فحسب هو
"الحكاية" في حد ذاتها. كأن الأبواب ـ في عرائها ـ تلهو بما اعتادت أن
تكون عليه "الحكايات".
"في السهل الممتنع، تكون الفريسة بين
يديك، وحين تقفل يديك، تقفلهما على الهواء، تستفز الصياد فيك، تحبطه في الوقت الذي
يتصور أنه أمسكها، وتعطيه الأمل كلما يئس وظن أنها بعيد. لعبة جميلة ومضمونة، لكن
ليست لحنان، هي لا تحبط الصياد فيك، بل على العكس، تؤججه، وتشي له بطرق جديدة في
الصيد كل مرة تلتقي أعينكما. تقول ليست أي فريسة يا صياد والسلام، إنما أنا
الفريسة بألف ولام التعريف، أنا التي بالضبط، أنا التي تعرف كيف أشبعك، وبعدما
تشبع، تعرف كيف تكون فريسة جديدة كل مرة. قلت لك يا صياد أنا الفريسة بألف ولام
التعريف".
هل يذكركم هذا المقطع بشيء؟ ألا يبدو وصف
حنان كأنه اختصار للإيقاع المخاتل وتفكيك مفهوم الأبواب؟ لا شيء يمنعك من الانتقال
أو من التصوّر بأنك تنتقل، وأنك تعثر على غنيمة ما نتيجة لهذا الانتقال، بما يعني
أنك لن تلاقي فراغًا صادمًا في جميع الأحوال، ولكنك في كل حركة أو خطوة، ومثلما
تلمس حنان أو تتوغل إليها، وتظن أنك قد أحرزت ما أردته، فإنك في كل مرة ستوقن أن
ثمة شيئًا غامضًا أبعد مما طاله فعلك، أكثر إغواءً مما أتاحه لك "الدخول
والخروج". شيء يجعل ما سبق أن قبضت عليه خيالًا عابرًا. أن حنان دائمًا في
مكان مجهول لا يمكن رصده أو التحايل على وصفه أي إفشاء العجز عن بلوغه إلا بالاستمرار
في اتباع "الإيقاع"، واستعمال "الأبواب".
يمكنني القول إن "سيرة حنان" بهذه
الوفرة في الشخصيات والأحداث رواية "الحكي" أكثر مما هي رواية "الذات"،
وأعني هنا أنها تقوم على الملامح التي تختزل تاريخ كل شخصية بما يربطها بالشخصيات
الأخرى بعكس رواية "الذات" التي موضوعها الأساسي شخصية واحدة أو تنناول عددًا
قليلًا من الشخصيات بالتركيز والتعمق في ما لا تدركه الشخصية عن نفسها، بحيث يحتل
عالمها الداخلي بكل أغواره وصدوعه وبما تخفيه من هواجس وكوابيس منفصلة عن بقية
الشخصيات؛ يحتل هذا العالم متن الرواية. أتحدث عن الفرق بين رواية مثل "اللص
والكلاب" و"خان الخليلي" وبين "الثلاثية"
و"الحرافيش" مثلًا. هذه ليست قاعدة بالتأكيد، ولا إجراءً تصنيفيًا،
وإنما رؤية أو منظور خاص لـ "إعادة كتابتي للروايات"، وليس حكمًا تجاه
الفن الروائي بشكل عام. هذه الملامح التي تختزل تاريخ كل شخصية تتوافق مع ما ذكرته
عن تقويض بداهة "الأبواب"؛ فالشخصية هنا أنقاض تحاول التماسك، وتكشف
زيفه في الوقت نفسه، عبر صلاتها المتوقعة بالآخرين، وليس بانقطاعها عن حيواتهم، أو
بانعزالها عن ما يجمعهم. لهذا فقارئ الرواية يحتاج إلى بوصلة ذاتية للتحرك داخل
"المولد"، ليس باحتواء الشخصيات كافة في فضاء استقرائي شامل أو بما يطلق
عليه "النظرة البانورامية" التي تساير الازدحام، وإنما بخلق أداة
تأويلية ـ كهدم رمزية الأبواب ـ أشبه بمرشد للبصيرة، لا تحلق وإنما تكسّر الطبقات والحوائط،
استهدافًا لغاية أو غرض تعرف أنه السر الذي تدفنه العمومية، وهو بالتحديد ما يمكنه
إزاحتها. أداة تلتقط الومضات الناجمة عن كل ما تجمع واحتشد، التي لا تُبقيه جمعًا ولا
حشدًا، كأن هذه الأداة هي الشبح المستقل الذي يناوش عتمة الباطن لدى كل شخصية رغم
ما تختلف به عن شخصية أخرى، وبما يتعدى الظاهر الاجتماعي أو السياسي في الرواية.
كيف يمكن تأمل "المقدس" بواسطة
"سيرة حنان"؟ .. ألا يحدث ذلك حين نفكر في الأبواب باعتبارها
"جدران مطلقة، غير مرئية، لا يمكن اختراقها"؟ .. حين نفكر في أن
"بيع الهوى" هو "حركة في خفاء الخلخلة وليس الوصل" حيث لا
يوجد ما يصد "الإيقاع" عن تفكيك الأساطير التي تتقمص كل حكاية بلاغتها
الكونية؟ .. حين نفكر أن حنان عندما تكون "الفريسة بألف لام والتعريف"
فإنها تكشف عن كونها "الصياد بألف ولام التعريف"؟ .. إن الخطيئة إحدى
ألعاب الزمن أو أنها لعبته الأثيرة حيث يكمن "النهر" حقًا في الغيب، وما
كان على العاطلين عن الخلود إلا أن يصدقوا أنه يسرى بالفعل في داخلهم وفي ما
بينهم، وكأن ذلك النهر ليس نتاج "الوهم المترفع" الذي يحتاج وحده إلى
التطهر.
أخبار الأدب
9 يوليو 2025