يتتبع ممدوح رزق في كتابه التجليات المختلفة، والحضور الضمني المتعدد
للغضب في نماذج من الرواية العربية الحديثة، حيث يكمن الغضب على سبيل المثال في
هدم رمزية الأبواب وتحولها إلى جدران لا مرئية كما في رواية "سيرة حنان"
لوائل ياسين؛ إذ لم يعد الخلاء أو التخلي أو التجلي أو الندم أو المس أو الونس أو
التيه أبوابًا، وإنما إشارات خيالية للفكر، لتذويب حركة هذه الأبواب، لتعرية ما
يواريه إيقاعها الذي تجسده اللغة، ومن ثمّ فكل باب هو الذي يحكي سرابه، يفتت ذاكرة
ما يسرده لتصير الحكايات كأنها بلا ماض فعلي حيث لا يعدو ما تسترده سوى أطياف
متناثرة، متحوّلة طوال الوقت، وهذا ما تمثله الطبيعة الشذرية لفصول الرواية. كأننا
"ننصت" إلى راو متنكر، يمرر عماءً متجذرًا من ثنايا ما يبدو أنه نتاج
علمه، وبالتالي فكل ما "يتفوّه" به هو نسخة من شخص، شيء، حدث، قابل
للاستبدال، للمحو من أجل سياق آخر، كما لو أن استعادة الذاكرة تجريب للاحتمالات،
أو خلق ما يُسمى أبوابًا في "العراء":
"ذلك ما يهدم رمزية الأبواب التي أشار لها غاستون باشلار، أي
"فكرة الانتقال" من شيء إلى آخر، أو الأفق المجازي للخطو أو الاجتياز،
حيث يمثل العبور من مكان إلى مكان تغيّرًا أو تحوّلًا ما، وهو ما يمتد عفويًا إلى
"الأبواب" في مجموعها، أي التي لم تصرّح بعد بـ "الانفصال"
المتجذر في حكمتها المرئية. الباب، وفقًا لذلك، جدار مطلق، غير مرئي، لا يمكن
اختراقه، ليس بين جسد وآخر وحسب، وإنما، في المقام الأول، بين الجسد ونفسه، بين كل
ما ينطوي عليه كل جسد ونفسه، وكأن الجسد في حد ذاته هو الباب الذي لا يُفتح.
الجدار الناجم عن هدم الثقة التي تزعمها آلية الفتح والإغلاق".
"فالشخصية هنا أنقاض تحاول التماسك، وتكشف زيفه في الوقت نفسه،
عبر صلاتها المتوقعة بالآخرين، وليس بانقطاعها عن حيواتهم، أو بانعزالها عن ما
يجمعهم. لهذا فقارئ الرواية يحتاج إلى بوصلة ذاتية للتحرك داخل
"المولد"، ليس باحتواء الشخصيات كافة في فضاء استقرائي شامل أو بما يطلق
عليه "النظرة البانورامية" التي تساير الازدحام، وإنما بخلق أداة
تأويلية ـ كهدم رمزية الأبواب ـ أشبه بمرشد للبصيرة، لا تحلق وإنما تكسّر الطبقات
والحوائط، استهدافًا لغاية أو غرض تعرف أنه السر الذي تدفنه العمومية، وهو بالتحديد
ما يمكنه إزاحتها".
يحضر الغضب أيضًا في المجاهدة لمحو الكلمات أو هدم مركزية الكلام
"الإطاحة بمركزية اللغة" كما نجد في رواية "اتجاه عكسي"
لنسرين البخشونجي حيث يخط الرسائل التي تتضمنها التشبث بالصمت، الكفاح العسير
لإرجاء النطق، ينسجها الخيال الشائك الكامن بين "الشعور"
و"الكلام"؛ ذلك لأن "الكتابة" هنا ليست بديلًا للتحدث، أو
تعويضًا عنه، وإنما هي مجاهدة لمحو الكلمات التي طالما أُجبرتِ الساردة على
التفوّه بها. هدم لمركزية الكلام بالعودة إلى جاك دريدا أو "الإطاحة
بميتافيزيقا اللغة":
(هذا ما يخلق "الصوت" غير المسموع في ما يُنطق به، الصوت
الذي يسعى لتقويض "المنطوق" والتحرر من سطوته، بما يتجاوز فكرة الكتابة
كتسجيل للكلام، استمرارًا للتذكير بـ "دريدا")
(جعلتني رسائلك أفكر في أحلامي بوصفها تحمل روح الغضب البدائي للوحات
فان جوخ. يلوّنها الأسى الحميمي "الانتقامي" نفسه. فكرت في كل ما حرصت
بعفوية على ألا تعرفه ابنتي عن العالم. في ما اضطررت أن أتركها تعرفه. في ما
ستعرفه عني كلما قرأت كل انتحار "آمن" أقدمت عليه لأني لم أكن
"أخطبوطًا كونيًا". "لم أعش كل الحيوات وأمت كل الميتات". لم
أمتلك الأماكن والأزمنة كافة. لم أمتلك الحصيلة الكاملة لحواس كل الكائنات. لأني
جعلتّ من عدم حيازتي لأي شيء لعبًا هازئًا بـ "حكمة الفقد").
كما يحضر الغضب في المسافة الوعرة أو الحاجز الاغترابي بين السارد
والتجربة أو "الإيهام بالجدوى"، بين نزعته التأملية والتورط بشكل فعلي
في صراعات الواقع مثلما نجد في رواية "أنشودة دموزي الأخيرة" لنبهان
رمضان حيث تبدو مراقبة السارد لمشاهد الواقع ممارسة تخييلية تجاه نفسه في المقام
الأول. تلصص على تلك الذات المحتجزة وراء ارتباكه، وكأنه يمكن انتزاعها مجردة من
القمع بواسطة وجوه وأجساد الآخرين أو ما يختبئ في أرواحهم ودون دراية لهم به:
"هذا ما يدفع الراوي لأن يصوغ بارتباكه ما يطفو من هذه الأرواح
عبر الوجوه والأجساد، كأنما يخلق أسرارها وفقًا لهواجسه، وبتنويعات على الملامسة
لا الاقتحام، كما أشرت سابقًا، في مجاهدة عسيرة لتخليص ذاته المجهولة من قيودها
الغيبية، مستعينًا بـ "هكذا تكلم زرادشت" فيما يمثل ديالوج بين السارد
ونيتشه، وهو ما سيقوده منطقيًا إلى توثيق السعي لمناوشة تلك الذات التي يعجز عن
إيجادها أو كتابة القصة القصيرة".
"إن ذلك التكرار (كوجه ناصع للتردد) في سعيه المضمر للتيقن
والتأكيد على الأشياء والأفعال، والشخوص التي تكوّن متاهات السارد بطبيعة الحال،
يرتبط بما يشكل وعيه من كبت وتحيزات ومفاهيم نمطية، لذا فالتكرار بمثابة وشاية
بالشك الخفي والمحاكمات اللاواعية عند الراوي تجاه الكليشيهات الاجتماعية
والثقافية التي تستعمل وجوده "العالق"، وتزيف رجعيتها بأقنعة بلاغية
مصطنعة من التسامح. تلك الإكراهات التقليدية المتوارثة التي تسيطر على منظور
السارد وتجبره كطفل ساذج على ترديد الحكم المدرسية وإعادة تدوير التلقينات الأخلاقية
القاصرة حتى مع مجابهته الكلامية للذوات المتشددة، المتسلطة بعنف الفكر والفعل،
وكأن لغته الأشبه بالتلعثم هي أسلوب تفاوض مع الأعراف والتقاليد الشعبوية
المستحوذة على وجهات نظره مثلما تحاصر حركته في العالم. محاولة للتشبث بشيء حقيقي
عبر "تشتت اللغة"، والمتمثل كذلك في المراوحة بين الفصحى والعامية، يعيد
ولادته خارج التيه".
يتعقب ممدوح رزق الغضب أيضًا في رواية "شوك وحيد" لابتهال
الشايب من خلال الإيماءات إلى العدم بوصفه مصيرًا استباقيًا لما يُسمى “الإدراك”:
(الأصداء ليست سوى نفسها: أداءات مضادة فحسب، وخزات موسيقية متأرجحة،
لطشات ألوان كامدة في لوحة تجريدية، تلويحات لغوية لإزاحة اللغة؛ ليس فقط “أي
حكاية يمكنها أن تكون شيئًا آخر”، ولكن “لا حكاية يمكنها أن تكون أصلًا”).
"من هنا يبدو “النزاع” ضبابيًا أو في
احتمال دائم للتشوّش، بالنظر إلى أن “المفاهيم” التي تحدد موضوع النزاع معطوبة في
جوهرها، أي أنها ـ فضلًا عن قابليتها المستمرة للتغير والاستبدال ـ صيرورة محو
ذاتي، وذلك تحديدًا ما تمثله الانسلالات الوعرة والجامحة في “الجاز”: تفتيت الغرض،
أو بالأحرى تفكيك المصير".
أما في رواية "يوم آخر للقتل" لهناء متولي فيرصد الناقد
الغضب بواسطة مخاطبة شهرزاد للرجل الذي
يدرك بشكل غير واع بأنه حُرم من أصل كامل ومحصن، وأنه بكفاحه الغريزي المستمر
لتعويض هذا الحرمان (الفعل الدنيوي) قد ازداد ابتعادًا عن ذلك الأصل المجهول
أي تعمّق غيابه في بشريته:
(لا تروي حكاية كل امرأة نفسها وحسب، ولكنها
تروي أيضًا الحكايات الأخرى، بحيث تتحوّل كل "غائبة" إلى
"متكلمة" في عمق الرواية، وكأن لكل صوت أنثوي نبراته السردية المتعددة
واللانهائية "أنات ليلية خفيضة وأسرة").
"الحكي الذي يتجاوز المعطيات الواقعية
المباشرة ليفتت بالصمت الرابض في طياته "الحقيقة" التي فرضتها مشيئة
الرجل عنها. الصمت الذي يتحوّل إلى صراخ وعويل بثياب الحداد الممزقة فوق أسطح
المنازل "بينما الرجال يغطون في نوم ثقيل". يتسلل ما تم إخراسه عبر لغة
الحكاية لكي يهدم البناء البلاغي للسلطة التي تستعمل المرأة في إثبات بداهتها،
مروياتها الراسخة وإحالاتها، يعطّل مدلولها الذي يبقي الألم الأنثوي ملكية خاصة
للرجل".
يكتشف ممدوح رزق الغضب كذلك في رواية "المنسيون بين ماءين"
لليلى المطوّع بتشريح أسطورة "الفقد" التي تتطلب مقاومة مضنية للنسيان.
الأسطورة لا تعني الانغماس في ما "فُقد" وإنما في ما كان يبطنه. في
أطيافه الخفية حين كان متعيّنًا. تعني الاستغراق في ما كان يتعمّد تغييبه، وأصبح
عند الفقد حاضرًا بالكيفية التي ندركها عن "حضور الموت":
"لا ينفصل الانشغال التوثيقي عن السردي
في الرواية بل تحوّلهما ليلى المطوّع إلى مزيج رمزي يعارض ثبات الدلالة، توحد خاص
يستنطق الشاعرية المستترة في تاريخ المحكي لا باعتبارها نمطًا شكليًا وإنما كسيرة
للماء، أي اللعبة الجامحة لما تحاول "السيرة" أن تصمت عنه حيث
"اليابسة" ليست "الأمان" وإنما تعطيلًا للعب الذي يمارسه
الماء".
(تزيح الكتابة تلك الحدود التي يبدو أن الماء
يتوقف عندها، ومن هنا يبدو "الغوص" مخاتلة للزمن، مناوشة لأعراف وتقاليد
الحكايات القديمة، توظيفًا للفجوات بوصفها "أرواحًا ضالة" تكمن في مفترق
الطرق الذي يؤلف الموروثات. هنا لا تٌطرح الإجابات المتجذرة إلا كـ "استعمال
للمرويات"، تضليل البداهة التأويلية وإن تدثرت بالتحريم، حيث لا يُقارب أي
"نص تأسيسي" إلا من حيث كونه بنية انتهاك، موضعًا للاشتباك بين
المتناقضات، أو بمعنى آخر "فضاءً لإغراق العالم في ما يطمسه المجاز").
قد يتمثل "الغضب" كذلك من خلال تأويل الجرح الجسدي كما في
رواية "جرح على جبين الرحالة ليوناردو" لثائر الناشف، وذلك ما يكون
دافعًا للتساؤل:
"كيف يمكن للجرح الجسدي أن يكون ملاذًا روحيًا غير مشروط بتمثله
الظاهري، طارئًا كان أم مقيمًا؟ .. متى يكون هذا الجرح كاشفًا عن "الجرح
الرئيسي" أو "مرض الولادة" الذي لا شفاء منه بتعبير سيوران؟ .. ما
الذي يجعل هذا الجرح تلصصًا على قهر الحياة والموت، لا بوصفه اعتداءً حسيًا، وإنما
باعتباره إشارة دامغة لذلك الانفصال الغامض بين الذات وملكوتها من قبل أن توجد
كقرينة للعدم؟"
"ليس الجرح المرئي هو ما يجعل الذات أو "مأساتها"
بالأحرى واضحة، ويمكن ملامستها، وإنما ما تقرر الذات أن تقوم به تجاه جرحها
المخبوء حتى تجعله كذلك. ما تعرف حينئذ أن هذا ما يتعيّن عليها فعله، لا لأنها
والجرح شيء واحد، وبالتالي حين تسرد نفسها فإن جرحها هو الذي سيتحدث، حتى بما لم
تكن تعتقد الذات أنه صوتها وحسب، وإنما لأن ما تخاطبه أيضًا كل مروية لهذه الذات
يبدو كأنما يتضاءل كلما كان للجرح "بصمة" / كتابة. يتجرد المجهول من
وحشيته، في اللحظة التي يداعب خلالها الخيال ذروتها الهزلية".
أما "سرد الغضب" الذي تناوله الناقد في رواية "مقامات
الغضب" لصفاء النجار فيُنظر له من خلال التفكير في طبيعة العزلة حيث تلاحق كل شخصية في حكيها "المنعزل" المدى
الغائم لغضبها، بتوظيف حضورها القهري أو خبرتها الخاضعة كخيط "ممزق" في
نسيج علاقات متعددة ومتشابكة، أو كأثر "ملتبس"، متبدد، لماض تحتله
شخصيات أخرى. كأن هذه الملاحقة السردية بمثابة كفاح لرؤية مضادة، لإزاحة العمى
الذي يمثل شرطًا جوهريًا للعبور في المسارات القدرية، أو كأنه بحث عن نوع من العمى
المجازي الذي بقدر ما يغمض العينين بقدر ما يحفز البصيرة على استنطاق غيبيتها:
"إنها ليست صوتًا ما زال يُعرّف نفسه
بموقع المشاركة الذي يتخذه بين الأصوات الأخرى، وإنما الصوت المأخوذ بانفلاته،
الذي يطارد فرديته المبهمة، المتناثرة خارج التجارب الجماعية والتواريخ الشاملة.
الصوت المؤرق باستثنائيته العسيرة حين يقوده "الغضب" لاكتشاف إغواءات
"اللعب" المخبوءة في "حكايته". "السيرة" المناقضة
التي تعرض مقاومتها للتجزّء والطمس داخل سياقات الصراع في اللحظة التي يرويها ذلك
الغضب. تتوقف الذات عن أن تكون أداة في ورطتها الوجودية "غرض صغير يُستخدم
مؤقتًا في المأساة الكلية"، لتكون حينئذ لاعبًا بالدور الذي تعوّد أن
يستعملها. تحوّله إلى "شيء" يمكن استراق النظر إليه، التسلل عبر صدوعه
الغامضة، وتفكيك بداهته".
(الغضب هو إعطاب لدلالات ما يسرده
"الغاضب"، أي ما تحاول الذات الساردة الاحتماء به تلقائيًا حتى عند ذروة
رغبتها في التخلي أو المقاومة، لأن الغضب نفسه هو ما يحفز التوترات والتناقضات
التي تفكك المرجع "القيمي" أو الغاية "المتعالية"، فيصبح ما
تحكيه الذات أقرب إلى تمرين مستتر على العدم. التمرين القائم على تشريح
"الزيف" الذي تشير إليه كلمات "مارتن هيدجر": "بالقطع، يمكن لأي كائن كان أن يبدو على غير ما هو
عليه في حد ذاته").
يقارب ممدوح رزق الغضب في علاقته بـ "الفزع" في رواية
"كل يوم تقريبًا" لمحمد عبد النبي باعتباره "لانهائية للإمكانية"، يستهلك كل النهايات
المحدودة:
(إنني أنظر إلى النداء الصارخ للأم على فؤاد
بطل رواية "كل يوم تقريبًا" لحظة الوفاة المفاجئة لأبيه باعتبارها
تثبيتًا لانتزاعه ـ أي فؤاد ـ خارج الغايات "المتناهية" وليس خلاصًا
منها .. تحوّلها بشكل دامغ إلى ما يبدو "إمكانية لانهائية" على نحو ما
وهي "الكتابة").
"الكتابة البشرية تستخدم حينئذ كتابة
الأشباح / حيواتها المجهولة في ملامسة عمائها ببصيرة أخرى .. لا ترى ولا تكتشف،
ولكنها تحدس بكينونتها الغامضة، بفنائها الحتمي كما لم تفعل من قبل .. نتحدث عن
غضب، ثأر، الرغبة في امتلاك ذات غيبية تعويضًا عن نفسٍ مؤقتة حتى ولو كان ذلك غير
مدرك لـ "الكاتب" الذي تحوّل إلى لاعب مع الأشباح".
جريدة "حرف"
16 يوليو 2025