الأربعاء، 13 أغسطس 2025

افتتاحية العدد السابع من مجلة "الناقد" / يوليو ـ 2025

 الناقد «7»

ممدوح رزق

ما الذي يعنيه أن تكون "ناقدًا"؟ ...
فكرت في هذا السؤال منذ كتبت قراءتي النقدية الأولى، أي منذ 33 عامًا، وأدركت خلال هذه السنوات الطويلة أن إجابته شخصية للغاية، حتى وإن أبدت في الظاهر تشابهًا مع إجابة "ناقد" آخر، وأن لهذه الإجابة ملامح متعددة، غير محكومة، يستمر اكتشافها طوال الوقت.
إن تعريف الناقد بالنسبة لي ينبع من "الكتابة" ذاتها، أي أن إجابتي المبكرة على هذا الاستفهام الأساسي ترتكز كليًا على ما أكونه كـ "كاتب"، وذلك ما يفسر "نصية النقد" التي تحدثت عنها في مقالات سابقة. هذا التعريف، الذي يواصل تأكيد نفسه مع مرور الزمن، يشكّله اللعب الإبداعي مع نصوص الآخرين، مع أفكار وجماليات وأسرار الكتابة بشكل عام، إزاحة الأحجبة أمام "خيال التأويل" كما كان عنوان أحد كتبي النقدية. أن تجعل الكاتب يكتشف نصه مثلما يفعل القارئ تمامًا، كأنه يعيد كتابته من جديد. أن تقوّض الراسخ والمنطقي والمألوف، تغرز ما غير متوقع في قلب البديهي، وتحرّض المناقض والمتواري وما يُصمَت عنه على تفكيك المعنى، وتحطيم الأطر، وخلخلة الانسجام. أعتقد أن قراءتي لمجموعة "قصائد امرأة سوداء بدينة" للشاعرة البريطانية جريس نيكولز 2008 كانت بداية توطيد هذه الكينونة النقدية الخاصة بي، المجابِهة لسلطة اللغة، وذلك ما جعلني أعتبر هذه القراءة ـ كما ذكرت في حوار مع جريدة "النهار" الكويتية ـ أول "نص نقدي" كتبته.
إن الناقد بالنسبة لي ليس الذي يعرض مضمون النص، أو يشرح ما هو واضح أساسًا في صنيعة كاتبه، أو يطرح الدوافع المباشرة والمقاصد اليسيرة وراء هذا العمل، وإنما الناقد هو الذي يتجاوز التحليلات النمطية والأهداف سهلة الاستنتاج أو التي تكاد تكون معلنة في النص. يتخطى الحدود المنتظرة للتفسير لكي يستثمر معطيات العمل الأدبي في الوصول به إلى آماد ذهنية قد لا تخطر في وعي كاتبه. يمنح النص تخيلات واستفهامات ورؤى مضادة لما هو مكرّس ومعتاد ومسالم. إن ما لا يخطر في وعي الكاتب لا يعني مطلقًا ألا يضمره "لاوعي النص". ما تخفيه لغته، وتكبته، وتراوغه، ومن ثمّ يحتاج إلى ذلك "اللاعب مع الأشباح" لكي يجعله مرئيًا. لكي يجعل اللغة تفضح كيف ولماذا دبرت هذا الستر والقمع والإلهاء في غفلة من الكاتب. هذه المكيدة الاستقرائية التي يمارسها الناقد وينسب نتائجها إلى كاتب العمل هي إغراء بالتطلع إلى أفق غير منظور لما أقدم عليه الكاتب نفسه. إشارة حميمية وغير آمنة في ذات الوقت للكاتب أن يحدّق إلى ما لم تبلغه بصيرته عند إنجاز النص. إن أكثر "النقاد" بؤسًا هو من يردد ذلك الكليشيه المتسلط، الجاهل، والوقح: "تحميل النص أكثر مما يحتمل". كأن دورك كـ "ناقد" أن تبرز الدلالات الطيّعة التي يشملها العمل فحسب، مثلما يجيب التلميذ على سؤال "استخرج المعنى من القطعة" في الاختبارات المدرسية. كأن مهمتك كـ "ناقد" أن ترفض وتستنكر فكرة أن يتناول قارئ أو ناقد آخر النص بأكثر مما رأيته أنت في كلماته، والذي في النهاية ليس إلا دليل عجز وخواء. كأن وظيفتك كـ "ناقد" فقط أن تحكم بالإيجاب والسلب على ما تستنتجه من العمل الأدبي وفقًا لما تفترض ذائقتك أنها "الكيفية الأمثل" لتطبيق ما يُسمى "شروط الكتابة".
أن تكون هذا الناقد الذي حين يكتب مقالًا عن عمل ما يشعر كاتبه بمزيج من الدهشة والشغف، ويصيبه انشغال البال فذلك ليس ناجمًا عن لحظة قراءتك للنص أو كتابتك عنه، وإنما عن أرقك الخاص الذي يسبق ذلك. لن تكتب مقالًا كهذا طالما أنك لا تمتلك من الأصل هذه القدرة العفوية على الاستبصار الإبداعي، تفتقر لـ "خيال التأويل"، ليس لديك من شجاعة الفكر ما يكفي للعناية بـ "الهدم اللغوي" كغريزة. أن تكون هذا الناقد فلن يقتصر تأثير مقالاتك على الكتّاب الذين تقارب أعمالهم وحسب؛ سوف يستذكر "النقاد" الآخرون هذه المقالات كمنهج تعليمي ليحاولوا كتابة ما يشبهها شكليًا أيضًا. ذلك أقصى ما يقدرون عليه، إذ يبقى ـ بالطبع ـ ما هو نظري في عمل هذا الناقد عصيًا على مجاهداتهم الاستنساخية.
نتيجة عوامل تاريخية مهيمنة خضعت الكتابة لـ "الأدب" كـ "مفهوم"، وأصبحنا حين نتحدث عن "العمل الأدبي" فإننا نشير إلى استعمالين متلازمين لمصطلح شائع: الكتابة كفعل ينتمي إلى "موضوع" الأدب، والكتابة كمقاومة جهرًا أو ضمنًا ضد "سلطة" الأدب. أقرت هذه العوامل التاريخية "حقيقة" زائفة للنص وتداوله بالضرورة، فاتخذت الكتابة شكل الإجراء التراتبي أو النظامي الذي تعهده المؤسسة الحكومية: تقرير يدوّن ثم يٌرفع إلى جهة الاختصاص الأعلى، كي يمنحه "ولي الأمر" الموافقة أو الرفض مشفوعًا بالملاحظات والتنبيهات وكذلك التوبيخات الساخرة أحيانًا. لهذا من النادر ـ كما ينبغي أن تكون الندرة ـ أن تجد كاتبًا يستوعب أصالة حريته خارج أي "نموذج أدبي". أن تصادف ناقدًا "يتحدث" في مقاله أو دراسته مع الكاتب، ليس عن ما احتواه نصه بالفعل، ولكن عن ما بدا أن هذا النص يومئ إليه دون أن ينتبه. من النادر أن تعثر على قارئ عمومًا سواء كان يكتب المراجعات على منصات الكتب أو يُلقي محاضرات في الدوائر الأكاديمية لا ينتهز بتلقائية خالصة هذه الإمكانية المتاحة دائمًا، التي لا تكلفه أي عناء، لكي يتحوّل من قارئ إلى "قاض كوني"، لكي "يختبئ" في لغة الصواب والخطأ تجاه النص وكاتبه، لكي يتفاخر بـ "قسوته" الهزلية، التي ـ بعكس ما يرجو ـ تؤكد هشاشته وحرمانه.
إن غاية النقد استخدام النص ـ طالما أن ثمة ناقدًا اقتنص إلهامًا بذلك عند قراءته ـ في تأمل أفكار وجماليات وتساؤلات تتعدى التأثيرات النمطية أو الاحتمالات المتعوّدة للفهم، ودون أن تدنس سذاجة التقييم هذا التأمل. أتحدث عن التفحص والتشريح والانتهاك الفلسفي الذي يخترق التصنيفات الثقافية ويجتاح الإكراهات الخفية للتلقي. ليست هناك وصفة جاهزة لفعل ذلك، إنه الميل الجوهري لديك، الذي يتقدم على كل عمل أدبي، ما قمت به طوال حياتك لرعاية ودعم هذا التوجه "الغريزي"، استجابتك الطبيعة لتلك التلويحات الواعدة التي أبصرتها في طيات هذا العمل، ومن ثمّ يكون النص الذي تكتب عنه أو تستدعيه في أطروحاتك النظرية، في مقابل ذلك النص الذي تكتفي بقراءته دون أن "تعاقبه" لأنه لم يكن مغويًا لبصمتك التدميرية؛ فربما يمارس النص هذا الإغواء لقارئ / ناقد آخر، بل ويمكنه أن يفعل ذلك لنفس القارئ / الناقد الذي سبق أن اكتفى بقراءته في لحظة لاحقة. فقط ثمة تعساء، وما أكثرهم، يخشون الاعتراف بالتحولات القرائية طالما أن النص ليس "تقريرًا حكوميًا"، أو بـ "التعايش بين القراءات المختلفة" كما ذهب بول ب. آرمسترونغ. إنها مسألة شخصية للغاية كما سبق وذكرت، وتدور بأكملها حول "الصيد"؛ أي صياد تريد أن تكونه، أي فريسة تريد اغتنامها، كيف تغتنمها، كيف تتهكم على الصيادين الذين يتوارون من أخبث الفرائس، ويكتفون بالأليفة منها.