الأربعاء، 13 أغسطس 2025

اتجاه عكسي: الإصغاء إلى الكتابة

فكرت في أشياء كثيرة وأنا "أنصت" إلى رسائلك التي تضمنتها رواية "اتجاه عكسي" لنسرين البخشونجي. ليس غريبًا أن أستخدم فعل "الإنصات" بدلًا من "القراءة" رغم المفارقة الشكلية في أن هذه الرسائل يخطها التشبث بالصمت، الكفاح العسير لإرجاء النطق، ينسجها الخيال الشائك الكامن بين "الشعور" و"الكلام"؛ ذلك لأن "الكتابة" هنا ليست بديلًا للتحدث، أو تعويضًا عنه، وإنما هي مجاهدة لمحو الكلمات التي طالما أُجبرتِ على التفوّه بها. هدم لمركزية الكلام بالعودة إلى جاك دريدا أو "الإطاحة بميتافيزيقا اللغة". هذا ما يخلق "الصوت" غير المسموع في ما يُنطق به، الصوت الذي يسعى لتقويض "المنطوق" والتحرر من سطوته، بما يتجاوز فكرة الكتابة كتسجيل للكلام، استمرارًا للتذكير بـ "دريدا"، ومن ثمّ فإنني "أنصت" لأنكِ تتحدثين بالكتابة كما لو كنتِ تحاولين ـ عبر البوح المجرد اللائق بالرسائل ـ التحرك في "الاتجاه العكسي" لكل ما استهلكته اللغة من الزيف البلاغي لـ "المعنى" و"الحقيقة"، وذلك ما يجعلني ـ مثل أي من لديه القدرة على الإصغاء ـ كأنني أستمع إلى أمر يخصني تحديدًا، لا إلى أمر يتعلق بكِ وحدك.

(بينما أتصفح تويتر وجدت "سعاد حسني" التريند الأول في مصر صور كثيرة وآلاف الناس يترحمون عليها. احتفاء يليق بمرور أربعة وعشرين عامًا على وفاة السندريلا. ما زلت أذكر يوم وفاتها، كنت في الإسكندرية أيضًا عائدة من كورس اللغة الإنجليزية، مررت على السوبر ماركت قبل أن أذهب للبيت لأشتري قطعة شيكولاتة بينما بقي صاحبه محدقًا في الشاشة.

ـ في حاجة يا عم محمد؟

ـ سعاد حسني تعيشي أنتِ يا بنتي .. بيقولوا انتحرت!

"الله يرحمك يا سعاد"، قلتها همسًا حين أدركت أني قصصت شعري مثلها تمامًا في فيلم "صغيرة على الحب").

فكرت في أنكِ ربما لم تلاحظي خلال تلك اللحظة القديمة التي عرفتِ فيها بموت سعاد حسني بأن "الشيكولاتة ساحت" بشكل خفي في يدك، أو ربما مر في خاطرك حدس مبهم بذلك، وأن بطلة روايتي التي أكتبها منذ سنوات تشبه سعاد حسني في "صغيرة على الحب" وأنها ـ ربما لذلك السبب خاصة ـ لا تسمح لي بـ "إنهاء" تلك الرواية مهما طال الوقت، وأن قَصة شَعر ما قد تكون إحياءً غير مُدرَك لذكرى سقوط غامض من شرفة عالية، لا يتم الانتباه إليه إلا فقط حينما تصبحين زوجة وأمًا، تتناثر بين المدن، تعبر ثورة شعبية، وتعزلها جائحة عالمية، يخنقها ظلام الفقد والخوف، ولا يمكنها ملامسة أمان لا يتبدل، كأنما بُترت يدها الإعجازية من قبل أن تبدأ في التنفس، وتكتب في رسائل لصديقتها "كل ما لم تستطع قوله خلال السنوات الثلاث الماضية". كأنك بهذه الرسائل تحوّلين المرسل إليها من شخص واقعي إلى افتراض متخيل، يكوّنه كل الصمت الذي بقي مطموسًا بفعل الكلام. الصمت الذي أراد أن يكون لغمًا للكلمات التي أنتجته، استهدافًا للعدم الذي يسبقها، لكنه ظل محض استراق لما قبل اللغة، أي ما يسبق الزمن الذي ينبغي فيه المرء أن "يكتب" الرسائل حتى يكتشف ويكشف أنه لم يكن "يقول" شيئًا. كأنك بهذه الرسائل تحاولين إنقاذ كل شيء بأثر رجعي، تفسيره، إرجاعه إلى "أصل" ما غير مخاتل. "تستنطقين" كل "الخرس" الذي يحاصرك ويسكنك رغم الضجيج والثرثرة. تريدين أن تعرفي ما لم يبلغه أحد، خصوصًا "الأقرب" منكِ، ومن ثمّ عجز الجميع أن "يكتبوه" إليكِ. بهذه الطريقة يمكن التحايل على الارتباك الساخر والمتحسر عند التفكير في "مسألة الخلود". نكتب لمراوغة الفناء الذي يتوعدنا في أجساد الآخرين، وبينما نتلصص على احتضارهم. نجابه الموت الذي سبق أن اقتنص غفلتنا من قبل أن نعرف "الحياة". بينما نتوسل أن تفصح أرواحهم في تلك "اللحظات الأخيرة" عن ما كان يجب أن يكونوا عليه حقًا، ومن ثمّ ما يُحتمل أن يكون مدفونًا وراء أقنعتنا القهرية وما تضمره نوايا مصائرنا. نكتب كأن "النهاية" طوق نجاة خارق و"هزلي" أيضًا، لا ينبغي ـ منطقيًا ـ خسارة الشوق الطفولي لقدرته على إعادتنا إلى حيث لا يمكن لشي أن يكون عصيًا على الفهم، أي بما ينفي فكرة "النهاية" نفسها.

"شاركني ياسين السهر، وصوّر الشروق، قال لي: إن السماء بديعة تستحق أن نحتفظ بذكرى بداية يوم جديد، صوّرنا السماء من الزاوية نفسها، وفي اللحظة نفسها مستخدمًا هاتف والده، تلك الصورة نشرتها على الفيسبوك متمنية أن يكون هذا اليوم يوم خير على العالم".

جعلتني رسائلك أفكر في ابنتي التي أرفض التصديق والاعتراف بأنها لم تعد طفلة، والتي اعتادت أن تلتقط صورًا للسماء في أوقات مختلفة ـ خصوصًا في الشتاء ـ وترسلها لي على الواتساب لأحتفظ بها. فكرت في نشوتي بما يحلّق إليه بصرها، وفي ألمي بما يترصد بصيرتها. فكرت في "لذة الأمل" التي يمكنها تفسير كل شيء على نحو مناقض لما تدل أو تشير إليه. "يوم خير على العالم"؛ ذلك لن يتحقق إلا حينما يسترد العالم غيبيته الأبدية المحصنة، وطبعًا "بأثر رجعي".

"أشعر كثيرًا بأني أريد أن أتكور، أن أختبئ من الجميع، ومن نفسي ربما".

فكرت في "السنتيمترات المنيعة داخل ركن سرير الطفولة تحت الأغطية الثقيلة في الشتاء عند سقوط المطر .. المخبأ الكوني الذي طالما حاولت الانكماش بما يسمح لي أن أسكنه برفقة ذخيرتي الملائكية من القصص والألعاب والتخيلات حيث لا أحتاج شيئًا من الخارج .. الذي مازلت أحاول الولوج إليه مع طفلتي بينما "نتشبث" بحوافه الناعمة". فكرت في أنني أكتب "سيرة الاختباء" مطاردًا ذلك "الشيء الأساسي الذي أردت تحقيقه والتمسّك به". (الاختباء الذي طالما أثبته كل "ظهور"، ولم يفارقه مطلقًا الوعي بأنه بديل عدائي لما هو أكثر استحالة أي "الاختفاء") .. (أن تكافح من أجل الاختباء بكل ما يضمره من تمنّع ومشقة وخسائر؛ فهذا يعني أنك تستوعب جيدًا عدم القدرة على بلوغ الغاية الأصلية؛ أي أن تختفي تمامًا).

"أتصفح كذلك بعض المواقع الفنية لأمنح مسك معلومة جديدة تبحث عنها، فهي تحب لوحات فان جوخ وتفضله عن كولود مونيه، تحكي لصديقتها عن معاناته مع الاكتئاب ثم انتحاره. في المرة الأولى حين قرأت قصته لم تفهم معنى الانتحار. نزلت دمعة على وجنتيها حين فهمت".

جعلتني رسائلك أفكر في أحلامي بوصفها تحمل روح الغضب البدائي للوحات فان جوخ. يلوّنها الأسى الحميمي "الانتقامي" نفسه. فكرت في كل ما حرصت بعفوية على ألا تعرفه ابنتي عن العالم. في ما اضطررت أن أتركها تعرفه. في ما ستعرفه عني كلما قرأت كل انتحار "آمن" أقدمت عليه لأني لم أكن "أخطبوطًا كونيًا". "لم أعش كل الحيوات وأمت كل الميتات". لم أمتلك الأماكن والأزمنة كافة. لم أمتلك الحصيلة الكاملة لحواس كل الكائنات. لأني جعلتّ من عدم حيازتي لأي شيء لعبًا هازئًا بـ "حكمة الفقد".

"تعودت ألا أستعدي أحدًا وأن أظل دائمًا في المنطقة الرمادية خاصة مع أفراد الأسرة، حيث يُسمح لي بأن أكون الابنة، الأخت والزوجة المحبوبة بشروط، فتعودت أن أسمعهم دون تعليق وتمرنت على أن تبقى ملامحي محايدة تمامًا. الآن أقول لك، أنا وحيدة لأني قررت أن أسكن المنطقة الرمادية".

لكن "الجهل والظلم والعنصرية والفقر" قدر غير مرهون بمسالمة أحد أو عدائيته. لا تعنيه أية مناطق رمادية. هو قدر فحسب. لذا ينبغي له أن يحطم أبوابك المغلقة. أن يجتاح عزلتك. ألا يكتفي بتركك فريسة لعجزك عن المقاومة أو التغيير بل عليه أن يسلب لحظة بعد أخرى أي قدرة لديكِ على التمسك بالحياد أو حتى التظاهر به كما لو أن كل "شر" هو "أمر شخصي" مهما بدت "المسافات الفاصلة".

"هل تذكرين ذلك اليوم حين ذهبنا معًا لتشتري بلوزة جديدة بمناسبة عيد زواجك، أحببتها عليك، كان وجهك مشرقًا حين ارتديتِها في غرفة القياس، لا شيء يمكن أن يمنحنا السعادة كالتي تمنحها لنا الشوارع والمقاهي".

ورغم ذلك فإنكِ تخاطبين تلك الشوارع والمقاهي بواسطة هذه الاستعادة التنقيبية لصديقتك. بإعادة تشريح وتكوين حياتها، كأن "المكان" ليس مجرد حيز للخطو أو البقاء، وإنما ممر مستتر نحو مجهول أزلي، يبدو أن ثمة معجزة ما قد حرمتك منه قبل "وجودك" بين الميلاد والموت. ممر "مسدود" بلا تفاوض، نحو مجهول مفترض وبديهي في نفس الوقت، يناقض قدرك مع نفسك ومع "الآخر"، حيث "السعادة" ـ حينئذ ـ ليست "شعورًا بشريًا" مؤقتًا، قاصرًا، مفتتًا من داخله، ومحكومًا بالإيهام. تكتبين كما لو أن رسائلك تريد انتزاع تلك "الذكريات" ـ بوصفها امتدادًا لا نهائيًا خارج الزمن ـ  والوصول بها نحو "الخير المطلق"، غير المهدد، الذي لا يبدِد "الشر" دون أدنى استنثناء وحسب، وإنما يجعل من عقابه جوهرًا أصيلًا لتلك الإبادة. الانتقال المتعذر من "الصداقة" والأماكن التي عبرتها تفاصيل ومشاهد تلك الصداقة، إلى حيث لا يمكن لوعد أن يُهدر. كتابة الرسائل ليست رجاءً "متجددًا" لتفادي الخيانات المحتومة فقط، وإنما استجوابًا أيضًا بالضرورة لما تنطوي عليه كل الوعود. جدوى ما لم يتحقق طالما ظل عالقًا بين الميلاد والموت.

"كل ما أذكره أني كتبت في أجندة تخصني صفحة كاملة عن مخاوفي، البند رقم واحد كان الزواج والإنجاب".

فكرت في أن هذه الرسائل كانت هوامش متوارية في صفحة مخاوفك. ما خبأته أفكارك ومشاعرك المبكرة تجاه الآخرين، عرائسك، مدرس الألعاب الرياضية، تجاه كل ما كان يدعي أنه سيكون "تاريخًا" ثم أصبح احتيالًا على "الخلاص"، لا يفضحه سوى اقتفاء أثر "الصمت" المحتجب في "إكراه البقاء". في سراب "المتن" الذي لا يمكن خدشه، وأُجبر على أن يظل غائبًا لكي يتقمص كل منا دورًا استرضائيًا لكينونة مستحيلة، أبعد بكثير من أمنية ارتدائك "فستان زفاف قصير ومنقوش مثل فساتين نجمات أفلام الستينيات مع تاج من الورد الأببض وطرحة قصيرة من الشيفون"، وكذلك أعمق بكثير من الندبات الناجمة عن الاختفاء المفاجئ للآخرين من حياتك. لكنكِ لا تملكين سوى أمنيات وندبات كهذه، كقنديل بحر لم يغادر مطلقًا حفرة رملية داخل شاطئ معتم، وكلما سمع صوت الموج البعيد، ينسى أنه ميت، ليواصل تخيّل الماء، ويستمر في لسع نفسه.

"أنا ابنة الثمانينيات بكل جمالها وأحلامها التي عشت طفولة سعيدة في المدرسة".

كانت لي طفولة سعيدة أيضًا في الثمانينيات، تتركز في الأوقات التي كنت خلالها بمفردي، وما أكثرها، وهي ما أحاول استعادته بالتذكر أحيانًا وبالأحلام أحيانًا وبالبكاء أحيانًأ أخرى . لكن للحنين رقة خبيثة، فهو لا يدفعك للرغبة في الحصول من جديد على طفولتك الثمانينية كما لو أنها تحدث لأول مرة فحسب، ولكنه أيضًا يوطد حريقًا في دمائك، لا يتعلق بما عشتيه فعلًا وإنما بما لم يُستكمل من الماضي. ما كانت طفولتك تمهيدًا له ولم يتم. قد تبقين مقيدة أمام هذا الحريق الداخلي باعتباره علة ملتبسة، مزمنة، متداخلة لدرجة التوحد مع عادية الحنين، وربما يمكنك أن تنزعي هذا الحريق المتجذر والمتصاعد عن كل "الجمال" و"الأحلام" لكي تدركي أنه أصل لهواجس ما بعد التحوّل إلى "الاتجاه العكسي" من طفولتك. ما أطاح بكِ إلى المتاهات المضادة لكل ما كان يُفترض أن "الثمانينيات" تجهيز لحدوثه. ذلك ما يفكك الحنين. ما يخلخل الإرث اللغوي الذي نستخدمه في الفضفضة، أي ما يستخدمنا لكي يعزز قدرته على عدم الإفصاح عن ذاته.

"حين حان الوقت، ومع شهقة دهشة لم أتمرن عليها.. تجلى الوجع في أقسى صورة. ترى هل كنت تودعينني حينها؟ ومن أين أتاني الرجاء وأنت في اللحظة ذاتها تحتضرين. يا لقسوة الأمل حين يملأ روحنا بغير الحقيقة! لماذا خذلتِني اليوم يا إيمان؟!".

قد يبدو هذا غريبًا للوهلة الأولى، وربما يعتبره البعض من الذين يتصورون أنهم يعرفونني نوعًا من الخداع، ولكني أريد أن أخبركِ بأنه لدي أمل بالفعل في شيء ما. لكنه أمل لا يتعلّق بحدود الحياة والموت وإنما بما هو خارج الوجود، حيث يتعطل الخذلان تمامًا. أمل في شيء يعيد تعريف الوداع والحقيقة بعيدًا عن أقدار العالم، أي إلى حيث يجب أن ينتقل الحريق الرابض في دماء كل منا. أمل في شيء لم أتمرن عليه سوى بالكتابة، وإذا لم يحدث فعليًا فإنه سيكون متحققًا في ما تمرنت عليه، وقد تأتي لحظة تعتبرين فيها رسائلك كذلك، وحينئذ سيكون لأدوات النداء التي تستعملينها نبرة تهكمية مستحقة.

أخبار الأدب

15 يونيو 2025