"كأنكِ تركتِ لي خريطة في دفاترك، تشير إلى تلك الأماكن العميقة
داخل النفس حيث تختبئ الظلال خلف الضوء. أكمل طريقي اليوم بحبر لا يزال يحمل شيئًا
من دفء أصابعك، وأعدك أنني سأكتب حتى حين تلتهم النار القلم، كما كتبتِ حين كان
العالم بأكمله صامتًا. سأترك خلفي كلمات تقاوم الذبول، تمامًا كما فعلتِ، وسأكتب
عن كل ما أردتِ قوله ولم تسنح لكِ الفرصة لنطقه. هذا الكتاب جزء من الحوار الذي لم
نتمكن يومًا من بدءه، لكنه اليوم بين يديكِ، حيثما كنتِ. أراكِ بين السطور،
تبتسمين نصف ابتسامة، وكأنكِ تخبرينني أن الكتابة ليست النجاة، لكنها الطائر الذي
يحلق بنا فوق الخراب، يبحث عن عشٍ في الفراغ اللامتناهي.
سأبقى أكتب، لا لأهرب، بل لأجد نفسي بين الرماد، وأحاول، كما حاولتِ،
أن أترك بصمة ضوء وسط العتمة".
تجسد سيلفيا بلاث هذا الوعي بغياب
"النقائض"، لذا يٌستدعى إدراكها للعالم في إهداء المجموعة وتصديرها وعبر
قصصها ككل. ليس للألم وجود مخالف، وهذا ما يجعله "مألوفًا". ما تستبصره
الظلال خلف الضوء. ما يستبطن "النار" التي تجابه "صمت العالم".
"الذبول" الشاهد على "الإمكانية المستبعدة". إن الطائر المحلق
/ الكتابة لا يبحث عن طبيعة مغايرة للحياة بعدما أيقن استحالتها، ولكنه يلاعب
"الخراب" مثلما تبتسم الفريسة ـ نصف ابتسامة ـ لصائدها. ذلك وحده ما
يمكن امتلاكه "عش في الفراغ اللامتناهي" حيث لا يُعرّف الامتلاك إلا بما
يُفقد. إلا بالتيقظ إلى أنه لا شيء يعارض الفقد. البصمة التي يتركها المحترق بين
الرماد. التي يحفرها داخل العتمة متدثرًا بالخوف من أن يبقى وحيدًا مع عقله.
"مَن يصدق خلو ميدان التحرير من الناس وحركة السيارات في ظهر
أغسطس؟! مسحَت عرقها بطرف قميصها، وتلفَّتَت حولها، ما زالت تلهث، ثُمَّ استأنفَت
العَدوَ تجاه محطة المترو، نزلَت إلى باطن المحطة الخالية المهجورة، تسلَّقَت
الحواجز ودلفَت إلى الرَّصيف تنتظر القطار القادم، انتظرَت طويلاً إلى أن نامَت
على أحد المقاعد غارقة في كابوس، تفيق فزعةً، تشعر بأشباح احتلُّوا محطة المترو،
تجري صاعدة إلى الميدان من جديد".
هذا التجرد المتأصل، أي الذي يستبق الوجود،
من البديل المعاكس للحياة هو ما يخلق اللهاث، العرق، تعثر الرؤية، تحديدًا الوعي
بحتمية هذا التجرد، هو ما يخلق الفراغ، بالأحرى يكشفه. تعدو الراوية في قصة
"سبب مفاجئ للنوم الطويل" عبر ذلك الخلاء المتقد، المقترن بالتلفت
الحائر وسط الأشباح، كأنها تجسّد ذلك الطائر الذي يحلق فوق الخراب، فوق ما أصبح
مهجورًا، أي ما تم الانتباه إلى كونه مهجورًا منذ الأزل. ماذا ينتظر شحوبها وكدرها
ودوارها؟. ما الذي تسعى إليه وراء الضبابية والطنين؟ لم يختف شيء من الوجود، ولكن
العمى قد بلغ مقصده. أصبح العمى إدراكًا، ومن ثمّ "أبصرت" الراوية ما تم
طمسه. الراوية تنتظر نهاية النقائض الغائبة، تسعى نحو الحد الأخير للتجرد، وكأنها
بذلك الشقاء الهازئ تطارد مُسمّى الأبدية. ميدان التحرير موطن "مألوف" للازدحام،
لذا هو مكان ملائم لكشف الفراغ في بداهته. لتعطيل الذاكرة، هي قيامة ذاتية إذن
ناجمة عن التيقظ إلى عدم وجود احتمال آخر "نقيًا من الشر". الانتباه
الذي لا يستبعد التذكر، ولا محاولة التشبث بالخيوط المقطوعة "كأنها خيوط
حقًا"، لكنه ـ وفقًا للوعي بالإمكانية المستبعدة للحياة ـ لا يبقيه تذكرًا ولا تشبثًا، وإنما استجوابًا للغياب،
للاحتيال اللغوي، يتقمص ظاهريًأ الأدوار المعتادة "الحب، العائلة"، لكي
يحرّض الظلال التي تسكنها على إزاحة سراب الحضور حيث لا حبيب حقًا ولا عائلة، ليس
هناك سوى راوية بقيت وحيدة مع عقلها لتكتشف سببًا مفاجئًا للنوم الطويل.
"علم
البساطي أن فردوس كانت طعمًا للإيقاع به، لما سمح لها بالعبور؛ عبرت معها بقية
شخصياته. نصبت له النساء محاكمة، لم يتوقفن عن توجيه اللوم والتهم إليه، حمَّلنه
وزر أوجاعهن بخلقهن شخصيات ضعيفة ومخطئة".
في قصة "ثلاث نساء في غرفة ضيقة"
يبرز "غياب النقائض" بحدة ساطعة؛ حيث يواجه الكاتب محمد البساطي نساء
اعماله اللاتي تمردن على مصائرهن المكتوبة وأردن منه تغييرها. إنه استفهام
"الإمكانية المستبعدة" الذي تشهره كل امرأة أمام وجودها. الاستفهام الذي
يعلن عن نفسه عبر كل "كتابة". هل يُحتمل أن يكون "التغيير"
استبدالًا جذريًا، استدراكيًا، خلاصًا من الحياة والموت؟ هو استفهام لا يستهدف
إجابة، ذلك لأن نساء أعمال البساطي لن يحرر كلًا منهن مصير آخر، لكن هذا الاستفهام
هو الكيفية التي تجابه بها النار صمت العالم. الطريقة التي تتأمل بها المرأة ذبول أحلامها
في قبضة التعهد اللغوي بإمكانية أخرى للوجود، أو ـ كما سبق وذكرت ـ جوهر القهر
نفسه.
"حبيبتي.. سأتوقَّف عن الكتابة لكِ..
ستكونُ هذه آخر مناجاة لرُوحكِ.. لقد أنهيتُ كلَّ شيءٍ وخلَّصتُ فتاتي الصَّغيرة
من خطيئة ميلادها..
ميرنا.. ابحثي عن رُوحها حولكِ وأبقيها
مُطمئنَّةً إلى جوارِك..".
يمكن تتبع هذا الحدس بانتفاء الاحتمال الآخر
"المنقذ" عبر قصص المجموعة، حين نفكر في "نقيض" حياة المرأة
التي تكابد الإذلال من زوجها بسبب عدم الإنجاب في قصة "دموع الكراميل"،
وكذلك المرأة التي تكتب لشقيقتها المنتحرة يوميات إنجابها، وعن زوجها واكتئابها
وطفلتها الصغيرة التي "خلصتها في النهاية من خطيئة ميلادها" في قصة
"رسائل إلى ميرنا"، وأيضًا ميرنا نفسها مريضة الاضطراب الوجداني ثنائي
القطب في قصة "فتاة الباي بولار". يلاحظ في هذه القصص أن المعاناة تقود
إلى "إنهاء حياة". الحياة التي ـ بعكس ما تدعي ـ بلا نقائض. مجردة من
البدائل، تختلف أشكالها وصورها وتظل "البقعة الأكثر سوادًا في المجرة"
بحسب ما كتبت الراوية في قصة "رسائل إلى ميرنا". قصص المجموعة تخبرنا أن
"القتل والانتحار" ليسا نقيضين إذا أدركنا بأن الحياة التي يتم التخلص
منها ليس لها احتمال آخر. أن "الاغتصاب" حدث يتقدم على أي ولادة، حيث لا
"اختيار" بعدها محصن من الألم والفناء. إذا تحوّل هذا الإدراك إلى قرين
سادي لا تنفلت لحظة في وعيك خارج سطوته المنتشية.
ليس غريبًا أن تذكرني نساء مجموعة هناء متولي
بـ "نوال" / سعاد حسني بطلة فيلم "موعد على العشاء" لمحمد
خان، وتحديدًا التلصص المتبادل بينها والموت مثلما كتبت في مقال سابق:
"كانت
نوال والموت يتبادل كل منهما التلصص على الآخر منذ اللحظة الأولى وحتى الصمت
الأخير. ذلك ما يبرهنه ـ بتجاوز الدلالة التقليدية لقمع حريتها ـ التركيز على
وجودها وراء أبواب ونوافذ وأسطح زجاجية. كانت نوال تتلصص على نفسها وعلى كائنات
وأشياء الواقع وعلى العيون كافة التي تحدّق في وجهها كمقاومة غاضبة لعذابها المبهم.
كمحاولة للانتقام من عمائها الراسخ ولو بنزع الغفلة عن دموعها. كانت تكافح للعثور
على خلاص ما وراء الجدران المعتمة التي تحاصرها كلعنة أبدية. أما الموت فكان يختلس
الرؤية، ومن خلال كائنات وأشياء الواقع، إلى ملامح نوال كجائع مخبوء يجهّز وليمة
صغيرة لأمعائه".
إن الإمكانية الوحيدة غير المستبعدة أن
تتبادل النساء أماكنها داخل الغرفة الضيقة. هي إمكانية ليست بصدد الحدوث، ولكن هذا
التبادل متزامن، يجري ضمنًا طوال وجودهن داخل هذه الغرفة؛ حيث لا حياة بلا مشاهد
ممزقة، أو جروح متكررة، أو محاولات لتمرير الوحشة من البوح المتداعي إلى ما وراء
القص، لكي تكون الحياة هي القصة نفسها. لا رسالة تفرغ من كلمات سيلفيا بلاث، ولا بورتريه
يخلو من وجه فريدا كاهلو.
أخبار الأدب
3 أغسطس 2025